..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

قصة حارتنا

إياد أبا زيد

٢٦ ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6546

قصة حارتنا
درعا1.jpg

شـــــارك المادة

دمعة ذُرفت من عين أبي, في لحظة نادرة , اقتربت منه حينها وانحنيت على يده أقبلها ومن دون أن يشعر أخذت تلك الدمعة وما زلت أحتفظ بها حتى اليوم.
مرت الأيام والذكريات تتوالى وكالصاعقة في فصل الصيف كان خبر وفاة أبي نقله لي أخي من هناك, تجمدت العروق في جسدي وشخصت عيناي بعيدا, خلعت الساعة من يدي فما عادت تعنيني.
خارج غرفتي كانت أشعة الشمس مظلمة جدا ولأول مرة لم تكن قادرة على إظهار ظلي الطويل حينها.
في حقيقة الأمر, خرجت من جسدي وصرت أترقبه من الأعلى ,ماذا تراه فاعل الآن؟

 


رفع رأسه إلى السماء, ابتسم مطمئنا وعاد إلى غرفته, في الوصية كان مكتوبا “بني دمعتي تلك التي احتفظت, اذرفها لحظة فخر!”
طفل صغير من حارتنا سئم منظر أبيه يعود إليهم آخر النهار, ينظر زوجته تحمل بيديها أخيه الوليد منذ أيام خلت, يتبادل الأبوان الحديث بصمت العيون، فالحديث عن اللاشيء بصوت مسموع بات مزعجا جدا في الأيام الأخيرة, الأرض صودرت فالأفضل أن ننساها لا أن نطالب بها!
ما أن بزغت شمس ذلك الصباح حتى تجمع أولئك الأطفال وخرجوا في شوارع الحي ينظرون السماء فلا شيء يحمي حلمهم سواها وجلبوا معهم الطلاء وكتبوا على الحائط كفرا بالنظام القمعي “الشعب يريد إسقاط النظام” بين الكتابة على الجدران حين كانت الشوارع مقفرة و بين تجمع جنود السلطان كانت لحظة واحدة فقط, إلا أنها كانت كفيلة بإنهاء معركة الأطفال بنصر مبين لجلاديهم .
تم اقتيادهم إلى السجن ولأول مرة عرف الأطفال بأنه من الممكن أن يكون هناك عدة طوابق تحت الأرض على غير ما عرفوه غرف ضيقة جدارنها متسخة وعليها بقع دم منها القديم الذي أصبح كمثل الطلاء ومنها ما يشع منه النور لحداثته, صوت أقدام تقترب من زنزانة أولئك الصبية, تختلط الشتائم التي يتلوها الجلادون مراسيم رئاسية بصوت الأقفال الحديدية التي تفتح باب الزنزانة, وتبدأ المراسم الشيطانية بركل الأطفال إلى ذلك الممر الذي تنبعث منه رائحة غريبة على أنوف أولئك الصبية, سوف لم يستغربوها لاحقا فقد بدأت اللكمات تنهال عليهم و صفعة هنا وسوط هناك وتم تثبيت الأطفال ولتجري مراسم تقليم الأظافر بخلعها!
ماذا يمكن أن يكون بداخل رؤوس أولئك الذين انهالوا ضربا بالهراوات والعصي واللكمات على أولئك الصبية!
هل كانوا فعلا مستمتعين بسماع نحيب أطفال وهم يصرخون تحت وطأة خلع الأظافر!
على ما يبدو كانوا مستمتعين جدا بقيامهم بالعمل المنوط بهم فهم الآن في معركة تحرير وتعذيبهم وتنكيلهم هو حماية لصمودنا وتصدينا ممانعتنا ومقاومتنا المهترئة بعهر كلام السلطان.
لطالما قال لي أخي متندرا ” لو أنني جمعت ليرة عن كل مرة سمعت بها كلمة مفاوضات لكنت اليوم ملياردير!”
كان السلام شغلنا الشاغل فدخلنا في مفاوضات طويلة عبر السنين ولكن على ما يبدو كان الفارق كبيرا جدا بين سلامنا “السلام عليكم ورحمة الله ” وسلامهم “شالوم” اجتمع أهالي الأطفال بكبير الجلادين يريدون إنهاء المسألة بأكبر قدر من السلام وقد جلبوا معهم حفنة تنازلات لتقديمها أضحية أمام قدمي السجّان.
قطع عليهم محاولتهم البدء بالكلام بأن قال لهم “سنسامحكم على ما كتب أطفالكم من عبارات كفر” نظروا إليه بابتسامات صفراء “كثّر الله خيرك أخوي” و تابعوا قائلين ” بما أن الأمور قد انتهت هكذا سنعدك بأن لا يقدم الأطفال على ما قاموا به لاحقا, والآن دعنا نصطحبهم إلى المنزل فهم ولاشك بحاجة إلى بعض الدفء ووثير الفراش” حملق بهم واحداً تلو الآخر ثم قال “انسوا أمر الأطفال واذهبوا إلى زوجاتكم وبإمكانهن ولادة أطفالاً آخرين لكم” علت علامات الدهشة وجوههم جميعا واختلطت بالكلمات المتبعثرة الصادرة من جميعهم معا ليقطع عليهم حديثهم مرة أخرى قائلا: “
إذا لم يكن بإمكانكم ذلك, أرسلوا زوجاتكم لنا وسنجلب نحن لكم الأطفال!!!!”
رغم أن ما سمعوه كان كفيلا بهدم جبال, إلا أنهم لم يريدوها أن تنتهي حيث بدأت.
كان من السهل جدا أن يقوم أحد بصفعه صفعة لم يعهد أن أحدا قادر على صفعه إيّاها يوم تقلد تلك الغربان برتبة على كتفه!
وقد تؤدي إلى قتل ذلك الذي صفع حينها ولتنتهي الأمور على ما هي عليه, إلا أنهم كظموا غيظهم كما لم يفعلوا يوما وانصرفوا اجتمعوا ليلاً والجميع غاضب يمر أمام كلّ منهم شريط قهر واستبداد لا ينتهي بدأ بولادتهم ووصل الآن إلى ذروة ما يمكن للصبر أن يحتمله.
الاقتراحات بدت ممن استطاع مسك لجام غضبه ولكنها انتهت بكلمة مزلزلة من كبيرهم ختمها عندما رمى عقاله أرضا بقوله ” هذا العقال ما يرجع إلا والحرية ترفرف فوق روسنا” جاء يوم الثامن العشر من آذار كان لذلك اليوم ضوء مختلف لنور الشمس التي بزغت كغير عادتها أكثر دفئا وسارعت بارتفاعها كأنها تشعر بيوم جديد لم تعهده من قبل, وقفت في منتصف سماء درعا البلد وبدأت تراقب بدهشة...
خرجت جموع الرجال إلى الساحات تهتف بملء أفواهها “الله..سوريا ..حرية وبس” في كل تالية يعلو الصوت أكثر كأنهم يزيحون الصدأ الذي تراكم من أصواتهم .
لهتافهم دوي ملأ سماء درعا الآبية, وهتافاتهم كانت كمثل الكفر بمعتقدات قطاع الطرق الجاثمين فوق قلوبنا منذ حين.
لم يكن لذلك جوابا إلا زخ للرصاص مطر شتاء منهمر صدور عارية إلا من قلوب ملؤها الإيمان بالله والوطن والحرية, يقابلها أجساد خاوية تحمل الأسلحة النارية تطلق الرصاص حيا ليدخل قلب الحي فتحيا الشجاعة في قلوب الرجال وتسطر العهد بأنهم على ما بدأوا مستمرين اختلطت المظاهرات وأعراس تشييع الشهداء ببعضها, فكل مظاهرة تزيد الشهداء و كل عرس شهيد يزيد المظاهرات.
وكل يوم أصبح دما طاهرا يروي الأرض الظمأى للحرية والكرامة العزة.
انطلقت تلك النار التي ستتطهر أرضنا من طغاة الليل من هنا من درعا الأبية وزّفت لنا حين سمعنا “من حوران هلّت البشاير” كانت الدبابات القمعية على وشك أن تنتهي صلاحياتها لولا أن هبّ الشعب لحظة حرية, فطوقت الدبابات درعا وحوصرت بقوات الظلام التي كان جولاننا المحتل على مرمى بصرها, إلا أنها أبت إلا أن توجه مدفعيتها إلى صدور أولئك الذين يشاطرونهم هواء وماء الوطن.
عمّ الخراب والدمار كلّ مكان طالته جنازير دباباتهم ومدرعاتهم, قطعت المياه والكهرباء والاتصالات وعلّت ضحكاتهم على صدى قول قائدهم ممسكا باللاسلكي”سيدي , انتهت المهمة وسترجع الأمور كما كانت, بل و أفضل مما كانت عليه” وفي تلك اللحظة التي ظن الشيطان بأن الرجال استكانت, هبّت درعا عن بكرة أبيها حشودا مرعبة تزلزل الأرض, مطلبهم بسيط جدا لم يكن لديهم طمع في ما عداه فإما الشهادة أو الحرية, كان هذا جليا جدا في هتافاتهم “الموت ولا المذلة” وبدأ الشهداء يحلقون للسماء للعلياء حتى أنك لترى أولهم فوق الأرض و أخرهم في أعلى السماوات.
و اشتد الحصار فصرخت درعا “ أيا أخوتي هبوا للحرية فليس لنا بعد اليوم رحمة سوى رحمة الله”
هناك على بعد مئات الكيلو مترات نحو الشمال من درعا حيث تذرف الجبال سهولها باتجاه البحر لبى الرجال والنساء نداء درعا وخرجوا متزاحمين صرخاتهم تشق عباب السماء “يا درعا حنّا معاكي للموت” “الشعب يريد إسقاط النظام” “الله سوريا ..حرية و بس” كان ذلك كمثل الصاعقة على أولئك الجاثمين على أحلامنا فلقد اهترأت عقولهم نتيجة استكانتنا ليس لجبن و إنما لقهر وقتل ودمار ولكن اليوم ليس كالأمس.
أحاطت فرق الموت بالهاتفين بحياة درعا والحرية ينظرونهم من بعيد تعلو وجوههم نظرة خوف يحاولون الضحك بصوت عالٍ لكي تتبدل معالم الخوف في وجوههم إلى غيرها من معالم , ولكن ما الذي يتوجب عليهم فعله لتبديل معالم الخوف في قلوبهم؟
ما إن خيّمت الظلمة على المكان حتى انهمر الرصاص الحي غزيرا من كل صوب فإذا بثلاثين شهيدا وشهيدة يزينون ساحة حيينا,  ولأن دماء الحرية تعكس الخوف على وجوههم, فقد كان حرصهم واضحا على رش المياه في الطرقات سيارات لإزالة أثار الدماء من شوارع الحي.
ألم يعلم هؤلاء الطغاة بأن الدماء الطاهرة لا يمكن لشيء أن يزيل أثرها؟!
ألم يعلم أولئك القتلة بأن كل قطرة دم ذرفت, ستحول أيامهم إلى جحيم في هذه الحياة قبل الحساب.
لم يكن أهل حمص وجسر الشغور وإدلب ودير الزور وحماه والشام وريفها والرقة والحسكة والقامشلي وبانياس و تلكلخ ودوما والقابون وتلبيسة والبياضة وأنخل وجاسم ونوى والبوكمال وكناكر وكل بقعة ارض في سوريا لم يكونوا بأقل كرماً.
كانوا يخرجون كل يوم لتقديم الشهداء لنسج البطولات وما زالوا يخرجون وسيستمر خروجهم حتى نيل مبتغاهم "الحرية" كثيرة هي البطولات التي سمعتها وشاهدتها كثيرة هي الأساطير التي سيرويها التاريخ عن تلك الملحمة المتوسطية والفرق بينها وبين الأساطير بأنها ستكون قصصا حقيقية لن تنسج من خيال خصب.
فما من خيال يرقى لنسج أسطورة كمثل حمزة الخطيب وهادي والقاشوش ورهف ولا أولئك الذين فاقوا عشرات آلاف شهيد و شهيدة.
كل واحد منهم كان طفلا أو أخا أو أبا أو أختا أو أماً لنا قريب جدا ذلك اليوم الذي ستسمعون عن تلك البطولات.
واليوم فقط بإمكانكم أن تضموا أسماؤكم إلى تلك القصص البطولية.
اعلموا جميعا أننا منتصرون, واعلموا بأن أحداً يضنّ علينا بكلمة ستقتل فرداً منا هو أخٌ أو أختٌ لكم . ثوارنا مصرون على أن يكونوا أمل وضمير الشعب في سورية بل ضمير الإنسانية جمعاء رافعين شعار "الموت و لا المذلة" وثورتنا تزداد نضوجاً وقوة وتحقق الانتصار تلو الآخر, ومؤكدين بأنه أمم تنهض وأمم تمرض وتستمر حركة التاريخ, وأن ثورتنا المباركة كانت معجزة عند حدوثها ومؤثّرة عند استمرارها وقوية بثباتها ومذهلة بأبنائها. و نسأل الله أن يعجل في نصرها. ...

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع