..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مقالات منوعة

دعاء جدّتي ـ قصة من مذابح حماه 1982 ـ

مهدي الحموي

٢٣ سبتمبر ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3506

دعاء جدّتي ـ  قصة من مذابح حماه 1982 ـ
magzara حماة.jpg

شـــــارك المادة

عصفت في سورية فترة مظلمة كأداء من تاريخها، فقد شوّهت كل شيء،
وكان خالي إحدى ضحايا هذه الفترة المظلمة من حكم البعث الاشتراكي الطائفي المقيت، فقد عضّه الفقر فذهب للعمل في الكويت ثم ألمانيا ثم البرازيل، ولم يرسل رسالة واحدة إلى أهله خلالها، ولم يعرفوا حتى عنوانه خلال عشرة أعوام، وظنوا أنه ربما مات، لكن جدتي كانت تذْكره كل يوم، كيف لا وهو أصغر أولادها وأجملهم صورة، ولكن هل نسى خالي بلده
!

 


بينما كنت ألعب مع الأطفال في بوّابة بيت جدتي، وإذ بخالي يحمل حقائبه ويدخل، جريت لجدتي عند خالتي لأبشرها، فشهقت وهي تضرب على صدرها وتكرر (شبو توفيق؟) وأعدْت الكلام مرات عليها، حتى استحييْت من ذالك، إلى أن استوعبتْ ما كنت أقوله لها، وجرت وكأنها رجعت شابّة.
أحضر خالي معه الكثير من النقود، وذالك بعد التعب الشديد وشظف العيش، فاشترى شقة جميلة في حي البياض الجديد، وفرشها بأجمل الأثاث، كما اشترى دكاناً في سوق الدبّاغة التجاري، وعمل به في بيع الملابس.
كان خالي يغلق دكانه ويذهب للصلاة حاملاً منديله الأبيض، ويحيّي جيرانه الجدد في الذهاب والإياب، فقد خسَرته الغربة كل أصدقائه، وأصبحت ابتسامته الجميلة جزءاً من وجهه المنعّم، يذهب إلى سوق اللحم يطوفه محلاً  تلو الآخر ليعثر على قطعة اللحم التي يشتهيها قلبه، ويشتري الفواكه للعصير ويشرب منها إبريقه اليومي، حتى غدت خدوده محْمرّة ووجْهه نضراً.
كما أن مزاجه قد أصبح رائقاً، فما أن تفتح المذياع على أغنية رقص حتى تراه قد خلع الجاكيت وبدأ الرقص، إنه سعيد بأنه أصبح من الأغنياء المنعمين، وما بقي إلا أن يتزوج، ففعلها وأنجب ولداً جميلاً جداً على صورته... 
نعم لقد أصبح الفقير أميراً واستعاد ذكرى غنى أبيه وتنعّمه في الحياة، رغم أنه لم يدرك من أبيه سوى سنوات من العيش قبل أن يتيتّم، نعم لقد عاد خالي شخصاً آخر، لكنه لم يكن يعلم خبايا القدر.
في صباح الثاني من شباط 1982 سمع خالي صوت مناوشات رصاص انطلقت من حي البارودية، فلم يبالي، فكثيراً ما تقوم السلطة بالتمشيط والمداهمات واعتقال المطلوبين، أو قتل بعض الأفراد ورميهم بالشارع بيد عناصرها التي ترتدي الزي المدني، واللذين يطوفون ليالي حماة بسيارة سوداء أطلق الجناة عليها اسم سيارة عزرائيل.
وكان إطلاق النار خلال فترة النهار كثيراً ما يتبعه خوف الناس وجريهم بالشوارع (أطفالاً وكباراً وعجائزاً)، مترافقاً مع إنزال أبواب  المحلات التجارية والجري للبيوت بسرعة، ولا تسمع إلا كلمة (علئت) أي علقت وولعت بين الثوار والسلطة والكل في الشوارع يجري، وقد يكون الصوت أحياناً ناجماً عن انفجار عجلة سيارة فتهرب الناس إلى بيوتها حذر الموت، لقد تعودوا أعمال القتل العشوائي من السلطة،

كما اعتادوا رد المدافعين عن الناس بالسلاح ممن يسمونهم بالمجاهدين، الّذين يخبّؤون سلاحهم في حقائب الخضار البلاستيكية ويقفون للدفاع على أبواب الأزقة والأحياء (و ذات ليلة لم يقم المجاهدون بحماية حي بستان السعادة لخطأ ما، فقتلت السلطة عشرات الأبرياء) وكان الناس كل الناس يحبّون هؤلاء المجاهدين ويمدّونهم و يؤونهم ويبْنون لهم المخابئ في بيوتهم، كما يبْنون عليهم الأمل في الخلاص لأنهم أبناؤهم، كما أنهم من خيرة الناس سمْعة واستقامة، كيف لا وقادتهم من تلاميذ الشيخ الورع الذائع الصيت وهو الشيخ الحامد .
لكن هذا اليوم كان مختلفاً، فقد كشفت السلطة مكان قيادة المجاهدين في حي البارودية، وطوقته بالقوات تمهيداً لاكتساح المدينة المناضلة وكسر شوكتها المعارضة، لكن قيادة المجاهدين نادت باللاسلكي لبعض المجموعات لكسر الطوق وجاؤا فعلاً، لكن السلطة طوقتهم بدورها.. ثم طوق آخرمن الثوار..

وانفجر الوضع في كل المدينة بين المجاهدين وجيش السلطة، وكلّفت السلطة الجيش النظامي بقسم المدينة إلى قسمين عبر شارعي العلمين وسعيد العاص، بينما شرعت الجيوش الطائفية من القوات الخاصة وسرايا الدفاع والصراع وفتيان علي والوحدات الخاصة بالقتل الممنهج لجميع الشباب....
وقد حدث ذالك منذ السادسة صباحاً، أما في الثامنة والنصف منه فقد اصطادت المدفعية الماهرة كل مآذن المدينة (عدا القصيرة جداً)، وخلال عشرين يوماً مسحت قوات الأسد الوحشية عدة أحياء بالراجمات والمدافع والديناميت وقتلت عشرات الألوف من الأبرياء، وفجّرت (55 مسجد و2 كنيسة) بدون مبرر، وحرقت الأسواق بعد نهبها، وذاب سقف حديد سوقها الأساسي (سوق الطويل الأثري) ونزل للأرض على شكل سائل من شدة الحرارة، كما قتل خلال المعركة 84  بالمئة من تنظيم المجاهدين، وكانت أياماً تترية أسدية بجداره.

كل هذا وخالي جالس في بيته لايتحرك ولا يتدخل في شيء، وأمه له بالمرصاد، فلا تسمح له بالحركة خارج البيت رغم نفاذ الخبز، وهنا أحسّ خالي بالمأساة، فلماذا عاد لهذا الوطن! لكنه لا يعلم أن القادم أعظم.
انتهت الأحداث، وسمح بالتجول، وبدأ المهاجرون للأرياف والمدن الأخرى بالعودة وتفقد الأقارب والبيوت والأموال، وحملت السلطة الجثث المرمية في الشوارع بالجرافات، بواسطة رجال وضعوا الكمامات على أنوفهم..، وأودعوا قسم من القتلى في مقابرهم الجماعية داخل حماة، لكن معظمهم دفن في القرى النصيرية الموالية للنظام لستر فعلتهم، ولا يدري أي إنسان من الأحياء أين دفن قريبه!، بل وهل هو مسجون أم مقتول كذالك! لكني أعلم أن البعض دفن في الآبار والحدائق العامة أو ألقي في النهر.
وبدأ تجريف آلاف البيوت وعشرات المساجد والكنائس المدمرة، ولم يسمح بدخول الإعلام الخارجي للمدينة ليصور ما حدث، (وقال وزير الإعلام السوري الطائفي واصفاً الأحداث وقتها: بأن اشتباكاً حصل مع مهربين كانوا يعبرون المدينة) .
استأذن خالي جدتي بعد أربعة أيام من انتهاء الأحداث لتفقّد محله الذي خبّأ فيه كل ما يملك من المال  (والذي وضعه في صرّة وعمل له مخبأًً سرياً داخل محلّه، لأن القوات كانت تصادر كل المال والذهب من البيوت عند تفتيشها، بل وباسم تفتيشها) فسمحت له على أن لا يتأخر، فوعد بذالك.
تفاجأ خالي بأن محله لم يسرق ولم يحرق فحمد الله على ذالك، وما هي إلا دقائق حتى عثر على صّرته كما هي فحمد الله أكثر، وهمّ بالعودة للبيت بسرعة  ليبشّر أمّه وينفذ وعده.
وقف خالي على موقف الباص يحمل صّرته بكلتا يديه، و ينتظر الباص للذهاب إلى بيته وهو في غاية الفرح (وكان مقابل الموقف امرأة عجوز صديقة لجدتي تراه من النافذة أمامها) فمرت سيارة زيل عسكريه، وطلبوا منه الصعود بصوتهم الأجش وتعاملهم الخشن وبنادقهم الجاهزة ولكنتهم المعروفة، وتملّكه الخوف رغم شجاعته فصعد السيارة فوراً، ثم تابعوا بسرعة لصيد آخرين في الطرقات. 
لكن جدتي ظلت تدعوا له كل يوم وبعد صلاة الصبح خاصة، كما بعد كل صلاة كذالك أن يفك الله أسره، وتقرأ له السور والأدعية وتبحث عن أفضلها علّها تراه سريعاً، وتتضرع في هذا الدعاء مع البكاء لتستحثّ خطى السماء، وكان صوت دعائها يتردّد حتى كادت تحفظه الجدران، وكان صوتها يعلوا حتى يصل بوضوح إلى الجيران، حيث خفّ سمعها، كما وهن عظمها وابيض باقي شعرها، وقرب الأجل ولم يتحقق الأمل.
ماتت جدتي بعد عشرين عاماً، وترممت عظامها، لكن خالي لم يعد بعد، كما لن يعود أبداً، لقد ذهب خالي في رحلته الأبدية مع 2500 رجل جمعوا في هذا اليوم، يوم جمعة الأحزان، (كما سمّاه أهالي حماه)، ولم يعد منهم أحد حتى اليوم، وبعد ثلاثين عاماً من الاعتقال.
شربت الأرض السورية الدماء البريئة، دماء خالي ودماء عشرات الآلاف غيره من المظلومين، فأنبتت حناجراً وخناجراً وصموداً وإصرارا، فكانت صرخة حوران الأبيه، وعمت الثورة كل البلدان من أرض سورية الحبيبة...
ولاح الأمل.. واقترب الانتصار من الله.. وحان يوم القصاص، بفضل مقاتلي جيشنا الحر البطل، فيا نعم الجهاد جهادهم، ويا نعم الأبناء هم.
(هذه قصة حقيقية بأكملها لخالي الشهيد توفيق السمان، إكراماً لروحه).
( زر مدينتي حماه واسمع آلاف القصص، واقرأ كتابي الوثائقي: حماه مأساة العصر).  

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع