علي العبد الله
تصدير المادة
المشاهدات : 6394
شـــــارك المادة
مع دخول الثورة السورية عامها التاسع، كثرت القراءات والتقويمات التي كتبها كتّاب ومثقفون ممن لعبوا دورا في المعارضة ومؤسساتها؛ ركز معظمها على العامل الذاتي، وما اعتراه من نقاط ضعف وقصور على الصعيدين، السياسي والعسكري. قراءة العامل الذاتي وتقويمه مطلوبان ومفيدان، لكن الاكتفاء بهما يقود إلى تقديم صورة ناقصة، على صعيد أسباب تآكل الثورة وتراجعها إلى حدود الفشل في تحقيق أهدافها؛ وإلى أحكامٍ قاصرة على صعيدي الواقع والخيارات، ما يحتّم قراءة العامل الموضوعي وتقويمه، والكشف عن الدور الذي لعبه في مسار الثورة وتطوراتها ومآلاتها، كي تكتمل الصورة، وتكون الاستنتاجات أقرب إلى الموضوعية. انفجرت ثورة الحرية والكرامة في لحظة سياسية دقيقة وحرجة على المستويات، المحلي والإقليمي والدولي. على المستوى المحلي، كانت سورية عالقةً وسط متغيرات داخلية وعربية كبيرة وخطيرة: إجهاض ربيع دمشق، وعودة القبضة الأمنية الثقيلة؛ الانخراط في تحوّل اقتصادي نيوليبرالي، جفاف استمر سنواتٍ، قاد إلى انهيار قدرة الفلاحين على مواجهة تبعاته في ظل تجاهل السلطة معاناتهم، تبعات اغتيال رفيق الحريري، وما جره من عزلة سياسية، عربية ودولية؛ والانسحاب من لبنان تحت ضغط قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559؛ مقاطعة خليجية، وحجب الدعم المالي، وتقييد دخول العمال السوريين، ما زاد الوضع الاقتصادي سوءا على سوء، ترتب عليها لجوء النظام إلى توثيق علاقاته بدول الجوار غير العربية: إيران، تركيا، ما فتح باب التنافس بينهما للسيطرة والهيمنة على البلد سياسيا واقتصاديا، وهذا، مع العامل الإسرائيلي، الحاضر بقوة في الحسابات المحلية والإقليمية والدولية، جعل المستوى الإقليمي خطرا على صعيدي الاستقرار والمردود السياسي والاقتصادي تحت تأثير صراع مثلث القوى: إيران وتركيا وإسرائيل، وغياب موازن موضوعي لانعكاساته السلبية في ضوء تآكل الوزن والدور العربيين. وكان المستوى الدولي ينذر بتحولاتٍ ومخاطر جمة، في ضوء وجود عشرات القضايا الساخنة والملفات العالقة: الغزو الأميركي لأفغانستان 2001 والعراق 2003 ونتائجه الكارثية على الدولتين، وعلى الدولة الغازية، 4000 قتيل و ثلاثة تريليون دولار، وتبعاته على السياسة الخارجية الأميركية: ميل إلى تقليص الدور الدولي، والعمل على صياغة ترتيبات إقليمية قائمة على توازنات قوى، وتوزيع أدوار يتيح التخفف من الالتزامات التقليدية في الإقليم، والاحتفاظ بالمصالح وحمايتها في الوقت نفسه، ارتفاع حرارة الصراع على القرار الدولي بين التحالف الغربي والقوى الدولية الصاعدة التي تسعى إلى تفكيك الهيمنة الغربية وإقامة نظام دولي متوازن ومتعدد الأقطاب: روسيا، الصين، منظمة شنغهاي، البريكس. تجسّد الصراع في تسارع تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) في دول شرق أوروبا لتطويق روسيا، الرد الروسي بالهجوم على جورجيا 2008، واحتلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وفصلهما، العمل على محاصرة الصين اقتصاديا بـعقد "اتفاقية التجارة الحرة عبر الهادئ"، الرد الصيني بتعزيز حضورها في بحري الصين الشرقي والجنوبي، بمد حدود مياهها الإقليمية، ونشر قواتها في جزر اصطناعية، مجموعتي جزر سبارتلي وبارسيل، وتعزيز قدراتها البحرية ببناء حاملات طائراتٍ لمواجهة الضغط الأميركي، والتأثير على مواقف دول حليفة للولايات المتحدة، تطالب ببعض هذه الجزر، وترفض مد الصين إلى حدود مياهها الإقليمية؛ لأنه يعيق حرية التجارة، تمر به سلع قيمتها خمسة تريليونات دولار، ناهيك عما في قاعهما من نفط وغاز، تنفيذ مشروع "الحزام والطريق" الذي سيربط الصين بدول وقارّات للتخلص من الطرق البحرية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة. لذا أحدث انفجار الثورة هزاتٍ زلزالية وارتدادات ضربت في العمق معادلات قائمة، استثمرت فيها قوى إقليمية ودولية؛ وأثارت هواجس هذه القوى ومخاوفها لما يمكن أن يحدثه المتغير السوري من انعكاساتٍ على خططها واستثماراتها، ما دفعها إلى التحرك، والتحكم بتطورات الحدث وتداعياته ومآلاته، فالنظام أدرك مغزى خروج المواطنين للمطالبة بالإصلاح، ثم بالتغيير الشامل، على شرعيته، وانعكاس ذلك على دوره وقواه ورعاته وحماته، فأطلق آلة القمع، لاستعادة المبادرة، وتثبيت المعادلة القديمة، وإنهاء الثورة، وإعادة المواطنين إلى بيت الطاعة. إيران وتركيا، اللتان دخلتا، في العقد الأخير، في صراع مباشر على سورية، عملتا، كل لاعتباراتها الخاصة، على دفع الأوضاع على الساحة السورية إلى خدمة مصالحهما، فإيران التي تتوجس من عودة الموجة الخضراء فيها، من جهة، وخوفها على استثماراتها في سورية ولبنان، من جهة ثانية، غذّت توجه النظام إلى رفض مطالب المواطنين؛ واستخدام القوة لسحق الاحتجاجات، قبل أن تلجأ إلى دفع منظماتٍ مسلحةٍ شيعيةٍ لخوض حرب بالوكالة (حزب الله اللبناني، لواء أبي الفضل العباس، عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله العراقي، لواء بدر والحرس الثوري الإيراني)، دعما للنظام الذي ظهرت عليه عوارض الإنهاك والتهلل العسكري، متذرعةً بمشاركة حركات إسلامية سنّية تكفيرية وإرهابية. وقد سعت تركيا إلى إقناع النظام بالاستجابة لمطالب التغيير وإجراء إصلاحات تشيع الديمقراطية؛ بما في ذلك إشراك المعارضة في صياغة القرار الوطني، قبل أن تنخرط، ردا على رفضه نصحها، في دعم المعارضة لإسقاطه. إسرائيل التي لم تنس حالة الهدوء التي وفرها عقودا على حدود الجولان المحتل؛ ودوره في إضعاف الموقف الفلسطيني، في ضوء شقه لصفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، اعتبرت التغيير كارثةً سياسية، فتبنت استثمار الحدث، لتدمير إمكانات الدولة السورية، ما يستدعي عرقلة الحسم لصالح أيٍّ من الطرفين، لذا وظّفت نفوذها الدولي، للإبقاء على المذبحة والتدمير مستمرّين. رأت دول الخليج في الثورة السورية فرصة وخطرا، فرصة للانتقام من النظام، على خلفية تحالفه مع إيران وتركيا، ودوره في اغتيال الحريري، ولإخراج إيران من سورية، وخطرا لاحتمال قيام نظام ديمقراطي في سورية، وانعكاسه على المستوى العربي وداخل دولها، فتحرّكت على مستويين: شراء النظام أو إسقاطه وتهجين الثورة (مد الثورة بالمال والسلاح والتحرّك سياسيا في خدمتها، واللعب داخلها لصياغة توازن قوى، يدفع بترجيح كفة قوى لا تتبنّى الخيار الديمقراطي). روسيا، الدولة التي تعاني من تبعاتٍ جغرافية سياسية؛ وتضييق غربي عبر تمدد حلف الناتو إلى حدودها الغربية، اعتبرت إسقاط النظام خسارة جسيمة لفرص وجودها في المياه الدافئة، وخطرا داهما قد يحرّك أحجار الدومينو في محيطها القريب، خصوصا في إيران ووسط آسيا، فاستنفرت إمكاناتها السياسية والتسليحية والخبرات التقنية لدعم النظام وتثبيته. الغرب، بجناحيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وجد نفسه في موقف حرج فهو مع استثمار ثورات الربيع العربي لتكريس القيم الغربية: الديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق الحرة، وللضغط على إيران وروسيا، وضد التغيير في سورية خدمة لإسرائيل، وخوفا من تداعيات انتصار الثورة على مصالحه في دول الجوار (لبنان والأردن ودول الخليج)، ما دفعه إلى اللعب على الوقت والتناقضات، خصوصا انقسامات المعارضة وبروز جناح إسلامي داخلها، وآخر متشدّد وفد من خارجها، والعمل على استمرار الصراع لاستنزاف الخصوم (إيران، روسيا، الجماعات الإسلامية المتشددة) وعدم السماح بحسم عسكري في الصراع، بانتظار نضج شروط عقد صفقةٍ تحت سقف "لا غالب ولا مغلوب"، وإقامة نظام جديد في سورية، قائم على المحاصصة، بذريعة التعدّدية القومية والدينية والمذهبية، والخوف على الأقليات وحقوقها، نظام رخوي ضعيف التماسك، وسهل الانقياد والزعزعة، ما يجعل سورية في حالة ضعفٍ بنيوي دائم، في مواجهة التطورات الاقليمية والدولية. قاد الانخراط الإقليمي والدولي وتناقض المصالح إلى تعدّد الخيارات وتعقدها، وإلى استمرار الصراع، وابتعاد فرص الحسم والحل. انعكس ذلك سلبا على المجتمع والدولة السوريين، فعلاوة على مئات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين، وملايين النازحين واللاجئين، والدمار الهائل في المدن والبلدات والقرى، وانهيار الصناعة والزراعة وتهتك البنى التحية والخدمية (مدارس، مشاف، كهرباء، مياه، نفط، معامل، طرق، جسور) والخسائر الاقتصادية الضخمة، قدرت بما بين 200 و400 مليار دولار، حرّك عوارض ضعف الاندماج الوطني، وهشاشة الوطنية السورية، برزت الخلافات القومية والدينية والمذهبية والولاءات ما دون وطنية، تجسّدت في تباين الرؤى والخيارات وتعددها في المجتمع، وداخل صفوف الثورة، ودعوات ومشاريع متضاربة من دولةٍ مركزية بخلفية إسلامية (دولة خلافة)، إلى دولة مواطنة وديمقراطية ومساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات إلى الفدرالية إلى اللامركزية الإدارية. إذا كانت نتيجة كل صراع مرتبطة بميزان قوى، فنتيجة الثورة السورية، في ضوء توازن القوى المحلية والإقليمية والدولية، ومع تقديرنا العالي لبطولات الثوار وصمود الشعب وتضحياته الكبيرة، وأخذنا بالاعتبار الفوارق الايجابية التي كان يمكن حصولها، لو كان العامل الذاتي ناضجا وإيجابيا، لن يكون نصرا مؤزرا، وغاية ما يمكن أن نصل إليه تحقيق بعض المكاسب على طريق مسيرة طويلة نحو الحرية والكرامة.
ياسر الزعاترة
طارق الحميد
أحمد موفق زيدان
أحمد عمرو
المصادر: العربي الجديد
العربي الجديد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة