عيسى الشعيبي
تصدير المادة
المشاهدات : 2180
شـــــارك المادة
قد لا يبدّد قرار موسكو تزويد سورية بصواريخ إس 300 الصورة الذهنية المتشكلة لدى مراقبين كثيرين، عن التهاون الروسي المديد إزاء العدوان الإسرائيلي الذي اشتط كثيراً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، سيما وأن هذا القرار، الملبّي أساساً احتياجاتٍ داخليةٍ، ترافق مع حالةِ شبه اعتذارية عن هذا التصرّف الاضطراري، بل ومع تأكيداتٍ أن الأمر لن يفسد الود، أو يضير العلاقات الثنائية التي وصفها ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أنها أشمل وأوسع، فضلاً عن حقيقة أن الطلعات الجوية الإسرائيلية قد استؤنفت على الفور، وكأن شيئاً لم يكن، بحسب ما ذكرته صحيفة هآرتس العبرية. والحق أن سقوط الطائرة الروسية قبالة الساحل السوري، أخيرا، طرح سؤلاً ممضّاً، لم يجد له المراقبون جواباً طوال الفترة الطويلة الماضية؛ ما سرّ كل هذا التسامح، أو قل التهافت، من جانب موسكو حيال العربدة الجوية الإسرائيلية في سماء البلد الذي أتت القوة العظمى الثانية لحمايته، يوم كان على شفير الهاوية؟ وما الثمن الذي كانت تتلقاه روسيا من إسرائيل، لقاء غضّ البصر عن نحو 240 غارة جوية مركّزة؟ ولماذا ظل الكرملين يسمح بهذا العدوان المتواصل، بوتائر متصاعدة، على سيادة وكرامة الدولة التي منحت روسيا أول قاعدة جوية، وأخرى بحرية في المياه الدافئة، وحقّقت بذلك حلماً دفيناً ظل يراود القياصرة عقوداً مديدة؟ ولعل مثل هذا التساؤل الذي بات يردّده بقوة حلفاء موسكو، قبل غيرهم، وراح يُجاهر به المعلقون في دمشق وطهران على وجه الخصوص، لا سيما بعد الغارة أخيرا على اللاذقية؛ ما حاجة منظومات الدفاع الجوي الروسية المتقدّمة التي قيل إنها قادرة على كشف أي طائرة عند إقلاعها من أي قاعدة جوية في الشرق الأوسط، لإشعار إسرائيلي مسبق، ومتفّق عليه، قبل شن غارة تستهدف موقعاً إيرانياً هنا، أو شحنة أسلحة في طريقها إلى حزب الله هناك، طالما أن الأعين الإلكترونية الروسية مفتوحة على اتساعها، قادرة على رؤية وتشخيص كل جسم معدني يحلق فوق رقعة الجغرافيا السورية؟ وزادت من حيرة طارحي هذا السؤال المحرج لأصحابه كل هذه الردود الكلامية المرتبكة، إزاء واقعةٍ جارحةٍ للمشاعر القومية، ومهينةٍ لكبرياء العسكرية الروسية التي بدت، أول الأمر، في سورة غضب عارمة، قبل أن يسكب عليها الرئيس فلاديمير بوتين سطلاً من الماء البارد، قائلاً؛ إن "الحادث" كان نتيجة سلسلة من الأخطاء المأساوية، وأن بلاده سوف تتخذ تدابير من شأنها تحسين أنظمة الحماية في قواعدها على الساحل السوري، في إشارةٍ مفادها بأن الدولة، ذات الوزن العسكري الراجح، ليست في وارد تحدّي قوة إقليمية صغيرة بكل المقاييس الحربية الروسية، أو التصعيد السياسي معها، وهو ما يعني أن هناك اعتباراتٍ لدى الكرملين غير مفهومة. كان من المتوقع ألا تتمكّن موسكو بعد سقوط "إليوشن 20" من الاستمرار في التغاضي عن الأسئلة المتداولة في أوساط حلفائها، سراً وعلانية، حول مغزى الصمت الروسي المطبق حيال الغارات الإسرائيلية، الجارية بمعدل غارتين كل ثلاثة أيام، ضد من لا يزالون شركاء في ما تسمّى "الحرب ضد الإرهاب" (فضلاً عن أصحاب الخوذ البيضاء)، خصوصاً أن كل الجهد الجوي الهائل كان غير قادر، وحده، على حسم المعارك الأرضية، ذلك الحسم الذي تولته قواتٌ تعمل تحت ضغط ضربات جوية إسرائيلية، كانت تتحاشى الانخراط في المعارك الموضعية المتنقلة، إلا أنها كانت لا تتورّع، منذ دخول موسكو المباشر على خط الأزمة السورية، وبتصميمٍ معلن على رؤوس الأشهاد، عن استهداف أي تموضعٍ للشريك الإيراني، أو لأي وحدةٍ من وحدات مليشياته المذهبية. لم يدُر في خلد أي مراقبٍ احتمال قيام روسيا بردة فعل على إسقاط طائرتها، ومقتل 15 من رجال استخباراتها، يوازي ردة فعلها على إسقاط تركيا طائرة مقاتلة روسية، قبل نحو عامين، مع أن بعض أعضاء مجلس الدوما طالبوا بقصف القاعدة الجوية الإسرائيلية التي انطلقت منها الطائرات المغيرة، غير أن من المفاجئ تسجيل موسكو هذه الواقعة المهينة حادثا مؤسفا في مسار صداقةٍ راسخ في العلاقة مع تل أبيب، وأن رد الفعل الروسي لم يتعدّ استدعاء نائبة السفير الإسرائيلي في موسكو، وأنه بقي محصوراً في إطار تحسين مجال الدفاع عن القوات الروسية العاملة في سورية، ولم نر أكثر من إجراء مناورة جوية محدودة الزمن شرق المتوسط، للبحث عن حطام الطائرة المنكوبة، وانتشال أشلاء ركابها. قبل قرار التزويد بصواريخ حديثة، (من المرجّح أن تظل في عهدة الضباط الروس) كان واضحاً من سياق تعاطي موسكو، الراغب في عدم جلب مزيد من المصاعب للوجود الروسي في سورية، ناهيك عن تجنّب إشغال نفسها في معارك جانبية، أنها مكتفية بالأسف الإسرائيلي الذي لم يرقَ إلى مستوى الاعتذار، وراضية عن فضّ الالتباسات المحيطة بـ"الحادثة"، ومرحبّةً بأيٍّ من الخطوات الكفيلة بحفظ ماء الوجه، وهو ما يعني أن أقصى ما قد تفضي إليه مضاعفات هذه "الحادثة" تحسين آلية التنسيق أكثر، لمنع الاحتكاك الجوي، تلك الآلية التي أقرّها نتنياهو مع بوتين، بعد يومين من إقامة قاعدة حميميم. غير أن رد الفعل من الجنرالات الروس، بمن فيهم المتقاعدون، وأعضاء مجلس الدوما، والرأي العام، دفع الكرملين دفعاً إلى تزويد الدفاعات الجوية السورية بمنظومة "إس 300"، وهو ما قد يؤدي إلى تقييد جزئي لحركة الطائرات الإسرائيلية في الأجواء المستباحة، بعد أن قالت موسكو إنها "تحتفظ بحق الرد" على غرار ما درجت عليه دمشق عقودا طويلة، مع تطمين إسرائيل أن المنظومة الحديثة هذه ستظلّ بين أيدي القوات الروسية، إدراكاً من "القيصر" أن الحظر الجوي سيفتح على روسيا أبواباً من التصعيد والتحدّي غير المرغوب فيه مع دولةٍ إقليمية مارقة، ومدلّلةٍ من حلفها الاستراتيجي وراء المحيطات. ومع أن كل الغارات الإسرائيلية تمت تحت أنف المنظومات الدفاعية الروسية وبصرها، خصوصاً الـ"إس 400"، وأن كثيراً من هذه الغارات كانت تسبقها إشعارات قصيرة الأمد، وتصحبها تعميةٌ إلكترونية لتلك المنظومات ذات السمعة فوق الاعتيادية، إلا أن الغارة الأخيرة هذه كانت أشد وقعاً على الكرملين بكل تأكيد، وأفدح ثمناً من كل ما سبقها، ليس فقط لأنها أدت إلى إسقاط طائرة تجسّس ومقتل ضباط استخبارات كبار، وإنما لأنها جرت في اللاذقية، حيث عرين الأسد ابن موسكو النجيب، وحيث القواعد الجوية والبحرية الروسية، أي تحت ظلال أحدث ما لدى موسكو من تقنياتٍ حربيةٍ لم تُختبر من قبل، بل اتضح أنها تحتاج إلى فترة إنذار إسرائيلي أطول، وتُصاب بالعماء المطبق، بفضل تقنياتٍ غربيةٍ بالغة التقدم، متاحة من دون قيد أو شرط، وحصراً، لأحدث المقاتلات الإسرائيلية. صحيح أن روسيا مصدومة ومرتبكة، جرّاء تلقيها هذه الخسارة المادية والمعنوية من نيران إسرائيلية صديقة، وإنها أشد حرجاً، وهي ترى صواريخها المتقادمة بين أيدي قوات الأسد تسقط طائرة لها، حتى وإن كان ذلك على سبيل الخطأ، إلا أن كل هذا الاستخذاء غير المفهوم، الذي بلغ، أخيرا، حداً غير مسبوق، أمام استمرار العربدة الإسرائيلية، ينطوي على لغز دفين، أو قل على سرٍّ لا يمكن لموسكو البوح به في هذه الآونة التي يسعى فيها الروس إلى تسويق منظومتهم الدفاعية الـ"إس 400"، المنظومة التي لم تُختبر على الإطلاق، كما سبق القول، وقد تنطوي على فجوةٍ تكنولوجيةٍ تتستّر عليها موسكو بشدة. ليس من شك في أن تزويد القوات السورية، غير المؤهلة بعد، بصواريخ قادرة على اعتراض الأهداف الجوية في مدى 250 كيلو متراً، ناهيك عن منظومة تشويش كهرومغناطيسية، أمر من شأنه أن يرمي كرة النار إلى الملعب الإسرائيلي، وقد يُدخل أميركا إلى المشهد الغائبة عنه، وربما قد تؤدي هذه الخطوة إلى تحويل ورقة الصواريخ هذه إلى عبء معنوي وسياسي ثقيل، لا تستطيع موسكو حمله طويلاً، إذا عاودت إسرائيل شن غاراتها، بحذرٍ أكثر، حتى ولو بتنسيقٍ أفضل من ذي قبل، لما في ذلك من تحدٍّ صارخ، يكشف عيوب المنظومات الدفاعية "المفتخرة"، ويدمّر سمعة العسكرية الروسية
عبد الباسط سيدا
حسام طرشه
عبد الوهاب بدرخان
مركز جسور للدراسات
المصادر: العربي الجديد
العربي الجديد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة