ياسين جمول
تصدير المادة
المشاهدات : 3598
شـــــارك المادة
"بابا أنت صرت كبير، لأيش تدرس؟؟ متى تخلّص دراسة؟؟" أطلقتها طفلتي ببراءة؛ لكنها وقعت كالمطرقة على رأسي. لم يكن هذا الموقف الوحيد الذي يعيدني إلى أيام الطلب، فأعضّ أصابِع النّدم أنْ تزوّجتُ قبل أن أنهي دراستي، فكان الموقف الذي شيّعني فيه أولادي يوم أردتُّ السّفر إلى الجامعة لأُنجز ما بقيَ من رسالتي للدّكتوراه كأنما هي جنازتي، فاصطفّوا حول السّيارة ليُودِّعوني، لكنَّني شعرت أنّهم يشيّعون جنازتي.
لا أعرف وقتها ما الذي شوّش رأسي فشعرتُ للحظةٍ بالنّدم أنّني قرّرت أن أتابع دراستي وأنا متزوجٌ ولي خمسةُ أطفال، خشيتُ أن أقع في محظورِ حديث النّبي عليهِ الصّلاة والسّلام: (كفَى المرءَ إثماً أن يُضيِّع مَن يعول)، وتساءلت: هل يكفي أن يكونَ لهم بيتٌ يسكنونه ومالٌ يصرفونه حتى لا أكون كذلك؟ أم أن سفري أو انشغالي عنهم بدِراستي لا يُنجيني من ذاك؟!
ليُعزّيني كلماتٌ لهم يطلقونَها أحياناً: بابا أريد أن أصبح دكتوراً مثلك! "كل الناس تحبك كل الناس تحترمك؛ أنا أريد أن أصبح دكتور! بابا أنا أين ما ذهبت وعرّفتهم بنفسي يسألونني فوراً: أنت ابنة فلان؟ الكل يعرفونك! مثل هذه العبارات كانت تعزّيني وتدفعُني فِعلاً للإكمال، لكن مواقف أخرى كانت تقتلُنِي، تقتُل عزيمَتي على إكمال الدكتوراه؛ فقد قرأت في نظراتِ والدَتي حفِظها الله وأنا أودِّعها تحفيزاً وتشجيعاً: اذهب وفّقك الله وفتح عليك من أبوابه وحماك؛ كانت دعواتٍ جميلةً لكنّها كذلك كانت تأتيني تأنيباً، كنت أقرأ فيها: أين تترُكُني مع هؤلاءِ الصِّغارِ الخمسة ومع زوجتك لِتذهبَ إلى دراستِك؟ ألا تخجل من نفسكَ أن تترُكنا أكواماً من لحمٍ لِتذهبَ إلى دراسة؟ هل يليقُ بأبٍ مِثلِك أن يبقى طالباً حتّى اليوم؟!
لم أستطع النظر في وجهها طويلاً وأنا أودّعها، وبجانبها امرأتي ودعتها وأنا مطرق الرأس مع حبي النظر في وجهها وقراءة عينيها الجميلتَين؛ لكن أنَّ لي بالنظر في وجهها وأنا أتركها مع أمي ذات الستين عاماً وأولادي الخمسة لتقوم بهم مع مدرستها؟! همهمتْ بدعواتٍ طيبةً وأمنياتٍ بالتوفيق وبالحفظ والسلامة، لكنها كانت كذلك سكاكين في صدري.
انطلقت وصورهم تعرض لي في طريقي واحداً واحداً وواحدةً واحدةً، تتراءى لي أمي حيناً وزوجتي حيناً آخر.
تتراءى لي ابنتي الصغيرة وهي تودّعني: "بابا سأشتاق لك، بابا من سيأخذني إلى الملاهي؟!" ثم يتراءى لي ولدي: "بابا سأتابع الحفظ إن شاء الله لأكون كما وعدتك وأنجِز الحفظ قبل العِيد إن شاء الله".
لم أكن أعرف أن هذا الوداع لن يكون كغيره، وظننتني تعودت السفر وتعودت وداعهم؛ فكثيراً ما سافرت، كثيراً ما غبت عنهم للعمل، لكن هذه المرة كان وداعاً بطعم آخر، لم أتركهم لأبحث لهم عن لقمة العيش، تركتهم لأبحث لنفسي عن الشهادة العالمية وإن كنت أريدها للعيش ولغير ذلك.
سنواتٌ وأنا أخرج من بيتي أيام الإجازة تودعني أم وأخواتي وأبي جالس يدعو لي لم أكن أشعر بهم، وكنت أصرف من جيبٍ أحسبها مليئة وهي فيها اليسير؛ فأنا أصغر إخوتي وأبي أقعده عند دراستي الجامعية المرض وكان إخوتي يعملون، لكن كنت أصرف كأنها مليئة لأنني لا أفكّر بسُبل تأمين ما يملؤها، بل بما يسعفني في دراسي ويسعدني، كحال أكثر أبناء الأرياف ممكن يحملهم أهلوهم في دراستهم وأكثر حياتهم الأولى والثانية كأنما هو حقّ لنا لا منّة لهم علينا فيه.
اليوم بعد سنوات من ذلك وسنوات من موت أبي رحمه الله أستشعر قيمة ما قدّمه لي هو وإخوتي الذين يكبرونني، وكم نفعني تحفيزهم حتى أنهيت الإجازة ودبلوم الدراسات العليا من جيوبهم، دون أن أشعر بما أجده اليوم وأنا أعود للسفر للدراسة؛ فكانوا يودعونني وأنا أنظر أمامي لا أكاد أنظر إليهم، وأصرف ولا أفكّر كيف يأتي المصروف، وربما تدمع عين أمّي وأنا مأخوذ بنشوة الدراسة وعنفوان الشباب فلا أراها، وتُرسل دعواتٍ شتى تحفّني تلامس مسمعي لكن قلبي في غيبوبة عنها. فما لي أقف اليوم عند كلمة لابنتي الصغيرة أو نِظرة لزوجتي وأنا أخرج مسافراً للدراسة؟!!
إن هذا بعضٌ من ضريبةِ التّأخر في إنهاء الدّراسة، والنبي صل الله عليه وسلّم يقول: (الولد مَجبنة مَبخلة مَخذلة مَحزنة)؛ وذلك أنه سببٌ للجهلِ وللحزنِ والتّخاذُل والبخل، وهو كذلك فعلاً، لكنَّ المرء حكيمُ نفسِه، إن كان يرضى أن يكون أولاده كذلك أو أن يقاوم ليثبت لنفسه ولأولاده أنّ طلب العلم لا يعرفُ سِنّاً وأنه لا يُشترط الرّهبانية لمن يريد أن يُكمل دراساتِه فيحقّق ما يحلمَ به علمياً ومادياً.
فهي ليست دعوةً لأن يتركَ المتزوّجونَ التّعلم بل دعوةٌ لأن يجتهد المرء ما استطاع في تحصيل ما يريد قبل أن يتقدّم به العمر ويكون له زوجةٌ وأولادٌ، فربّما يقصِّر بحقِّهم إن أراد متابعةَ التّحصيل. وهي دعوةٌ للمتزوِّجين ليتابِعوا تحصيلَهم فيكونوا قدوةً عمليةً لأولادِهم في أنّ التّحصيل لا ينتهي مع الزّواج ولا ينتهي مع الولد، وأنّ التّحصيل لا يُشترط فيه العمر بل كَما قِيل: لا يزالُ العالِم عالِماً ما تعلّم، فإن قال قد عَلِمتُ فقد جَهِل!
إنها دعوة للشباب ليعرفوا لأهلهم حقّهم، وليقدّروا ما يأخذونه ويصرفونه دون حساب، ليشاركوا في تأمينه فيشعروا أكثر بقيمته؛ فإنه سيأتيك يومٌ تكره من ولدك أن يصرف من تعبك دون حساب ولا مشاركة فيه.
إن كنتَ ترى العِلم والشهادة هدفاً سامياً فاستصغِر كلَّ العوائِق دونَهُ؛ فليسَ شيءٌ أعظم منَ العلم، وكلُّ العَوائِقِ يمكنُ تَجاوُزُها في سبيلِ الرّسالةِ السّامِية، في سبيلِ (اقرأ).
لكن ضوء (كفى المرء إثماً أن يضيع من يعول) لا بدّ أن يبقى مشتغلاً في لوحةِ السّيارة أمامك وأنت تتعلّم، وأنت تقود سيّارتكَ في مراقي العلمِ وتحصيلِ الشّهادات.
كنتُ أظنُ أنّني أؤدّب أولادي وأرّبيهم أنّ العِلم لا يعرفُ سِنّاً، لكنّهم كانوا في الوقتِ نفسِه يربّونَني أنّه عليك أن تكون أباً لائِقاً بأولادِك فتُنجِزَ هذه المرحلة قبل ذلك، فكانَ تأديبُهُم إيّايَ أقوى من تأدِيبي إيّاهُم، وكانت نظراتُهُم على براءَتِها أشدَّ من وقعِ النّبلِ في صدرِي وأشد من نظراتِي في نفوسِهِم. قد يخافون إن نظرتُ إليهم، لكنَّني خِفتُ هذه المرَّة مِنهُم أكثر، فقد كانت نظراتُهم نظراتِ تأنيبٍ وتحفيزٍ لي أنّني لا بُدّ أن أنتَهي حتّى أرجِع إليهم أباً وأكُفّ عن هذه المرحلة الّتي أستوِي فيها مَعهُم في الطّلب، فلا بُدّ أن أكونَ مُعلّماً وأباً وليس أباً طالباً.
صلاح الدين سلطان
علي النوفل
مجاهد مأمون ديرانية
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة