..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

هجرة في سبيل الله

طه محمد الساكت

٢٣ ٢٠١٧ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3210

هجرة في سبيل الله

شـــــارك المادة

قال لي صاحبي: ألا تهاجر؟

قلت: بلى، ولكن إلى الإسكندرية.

قال: عجبًا! إن الناس يهجرون المدن إلى الريف؛ حيث الأمن والطمأنينة، وأنت تغادر العاصمة إلى بلد قلق مضطرب؟!

قلتُ: لا تعجب، إن لي بالإسكندرية أقربين ورحمًا دعوتُهم إلى القاهرة، فأبوا فلم أجد بُدًّا مِن صلتهم، وما عذري وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرحم شَجْنَة[1] مِن الرحمن، فقال الله تعالى: مَن وصلكِ وصلته، ومَن قطعك قطَعْتُه))، وروى الشيخان أيضًا عن أنسٍ رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أَحَبَّ أن يُبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره[2] فليصلْ رحمه)).

وإني وإن كنتُ أُجيز أن البركةَ هنا معنوية، أُرَجِّح أن يكون الحديث على ظاهره، وتكون الصلة علامة على الحفظ وطول العمر، ولا يعارض هذا أن الأمور مُقدرة مقضية، وأنه لا تبديل لكلمات الله، والقضاءُ لا ينافي ربط الأسباب بمسبباتها، وكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له، وليس الحرص على الحياة بمانعٍ مِن الموت، وليس الإقدام على الموت بمقصر للأجل، وكم رأينا مِن رجال خاضوا غمار الموت وصمدوا في ميادين القتال، وها هم أولاء بيننا أحياء يرزقون! وكم رأينا من أناس فروا من الموت، فسعوا إليه مسرعين كأنهم ما هربوا منه إلا إليه!

ورضي الله عن أبي بكر إذ يقول: احرصْ على الموت توهبْ لك الحياة، ورحم الله خالدًا سيف الله المسلول إذ يقول وهو يحتضر: ما في موضعٍ مِن جسدي إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بنبل، وهأنا ذا أموت على فراشي، فلا نامتْ أعين الجبناء!

لقد كان المسلمون أولي الإقدام والشجاعة والثبات والقوة يوم كانوا يفهمون القدَر على وجهه، يعملون ويتوكلون، ويتقدمون ولا يتقاعسون، موقنين أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكنْ، فلما دب فيهم دبيب الضعف، وسعى بينهم ساعي التفرق، وخدعهم أعداء الدين، وحاربوهم بكل ما أوتوا مِن قوة، بدلوا مِن الأمن خوفًا، ومن الشجاعة جبنًا، ومن التوكل تواكلًا، ومن الجد خمولًا وكسلًا، ولن يُغَيِّرَ الله ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم، على أن الحياة أضحتْ رخيصةً، لا تستحق هذا الاكتراث البالغ، والاحتفال العظيم، وليس الخوف مِن الموت ولا بد منه، إنما الخوف من لقاء الله على غير عدة، ومن دون زاد، وإذا كان الموت يُهدد الناس في كل لحظة؛ فليأخذ العبد مِن نفسه لنفسه، ومِن دنياه لآخرته، فليس بعد الموت مِن مستعتبٍ[3]، وليس بعد الدنيا مِن دار إلا الجنة أو النار.

ثم كان ختامُ الحديث أن اتفقنا على أن نكثرَ مِن الدعاء النبوي: ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي))[4].

وجزى الله الشدائد خيرًا تجلو صدأ النفوس، وتزيل قسوة القلوب، وتذكر بالله والدار الآخرة، وما أحوجنا إلى العظة والذكرى؛ ﴿ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55].

 

مجلة الإسلام: السنة التاسعة، العدد 23، 6 جمادى الآخرة، سنة 1359هـ، 12 يوليه 1940م.


___________________

[1] بوزن قربة؛ أي: قرابة مشتبكة، كاشتباك العروق، والمرادُ: تعظيم الرحم وبيان فضلها وشدة إثم قاطعها.

[2] الأثر: الأجل، قيل: إن هذا كناية عن البركة في العمر، وقد يكون عمر الرجل أربعين وهو خير عند الله وأزكى مَمَّن عَمَّر ثمانين، وقيل: إنه على ظاهره، وتكون الصلةُ أمارة على ذلك.

[3] أي استرضاء وعمل؛ لأن الأعمال قد انقضت، وبطل زمنها، وبقي الجزاء عليها، وهذا اقتباس مِن بعض خطبه صلى الله عليه وسلم.

[4] هذا آخر حديث رواه الشيخان، وأوله: ((لا يتمنى أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا فليقلْ... إلخ)).

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع