عبد المجيد البيانوني
تصدير المادة
المشاهدات : 3878
شـــــارك المادة
وضوح الراية التي يتخندق تحتها الإنسان بدهيّة عقديّة، وضرورة حياتيّة، ربّما سلّم بها أكثر الناس نظريّاً، ولو خرجوا عن شيء منها عمليّاً.. ولكنّها لا تعني بالضرورة عزلة المؤمن عن الآخرين، وحصار النفس في قوقعة، تفرض عليه الانتحار الشخصيّ، وعلى دعوته الموت البطيء.. وفي التعامل اليوميّ يتعرّض الإنسان لأنماط متنوّعة من الناس، وربّما كان بعضهم من أصحاب المواهب العليا في تسويق مبادئه ومواقفه، وسحر تعبيره وقوّة تأثيره..
فكان لا بدّ من حدّ فاصل بين الحقّ والباطل يحقّق للحقّ الحصانة، التي تحميه من كيد الباطل، بأجلى مظاهره من الظلم والطغيان.. وأهمّ حصانة منه الحذر من الركون إليه، بأيّة صورة من الصور، وتلكم ما حذّرت منه هذه الآية الكريمة: يقول الله - تعالى -: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. فهذه الآية الكريمة أصل عظيم في النهي عن الوقوف مع الظالم وتأييده، وقد ذهب أكثر المفسّرين في تفسيرها إلى أنّ الله - تعالى - ينهى المؤمنين عن الميل.. مجرّد الميل إلى الظالمين، وهو معنى قلبيّ خفيّ، له مظاهره وآثاره.. ومعلوم أنّ ذلك يقتضي من باب أولى النهي عمّا فوق ذلك، من الموالاة للظالم وتأييده في أعماله، ونصرته وإعانته.. وهذا منهج قرآنيّ مقرّر، وأسلوب معتبر في النهي عن كبائر الإثم الموبقات، بالنهي عن مقدّماتها وأسبابها، وقطع طريق الفساد بسدّ أبوابه وذرائعه، كما في قوله - تعالى -: {ولا تقربوا الزنى}، وقوله - سبحانه -: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن..}. وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية بقوله: "الركون: الميل والموافقة، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب من المشركين، لئلاّ يضلّوهم، ويزلّوهم عن الإسلام. وهذه الآية أصل في سدّ ذرائع الفساد المحقّقة أو المظنونة"([1]). ويقرب من ذلك ما ذكره الشيخ القاسمي في تفسيره: "والقصد تبعيد المؤمنين عن موادّة المشركين المحادّين لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والثقة بهم، وهم أعظم عقبة في الصدّ عن سبيل الله؛ لأن ذلك ينافي الإيمان، والآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه، لأنّ هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى أهله، فكيف بمن ينغمس في حمأته؟"([2]). وقال القرطبيّ: "الركون حقيقته الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودّوهم ولا تطيعوهم. ابن جريج: لا تميلوا إليهم. أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم؛ وكلّه متقارب. وقال ابن زيد: الركون هنا الإدهان، وذلك ألاّ ينكر عليهم كفرهم"([3]). وقال السعديّ: "ففي هذه الآية: التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون: الميل والانضمام إليه بظلمه، وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم. وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة أنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم" ([4]). وقال الزمخشري: "النهي يتناول الانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبّه بهم، والتزيّي بزيّهم، ومدّ العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله: {وَلاَ تَرْكَنُواْ} فإنّ الركون هو الميل اليسير. وقوله: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل: إلى الظالمين. ولكنّ صاحب تفسير المنار يجنح إلى أنّ المقصود بالآية ليس مجرّدّ الميل وإنّما الاعتماد عليهم، والموالاة لهم، وما دون ذلك لا يتناوله النهي فيما يقرّر! فيقول: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ـ أَيْ: وَلَا تَسْتَنِدُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ قَوْمِكُمُ المُشْرِكِينَ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَتَجْعَلُوهُمْ رُكْنًا لَكُمْ تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِمْ فَتُقِرُّونَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَتُوَالُونَهُمْ فِي سِيَاسَتِكُمُ الحَرْبِيَّةِ أَوْ أَعْمَالِكُمُ المِلِّيَّةِ، فَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، فَالرُّكُونُ مِنْ رُكْنِ البِنَاءِ، وَهُوَ الجَانِبُ القَوِيُّ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تعالى -حِكَايَةً عَنْ لُوطٍ - عليه السلام -: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]. واللغة حجّة عليه فيما قال، إذ هي تستوعب معاني متدرّجة للركون، تبدأ من الميل إلى السُّكُون، ثمّ إلى الِاطْمِئْنَان، ثمّ إلى الِاعْتِمَاد، وبعضُ هذه المعاني يقودُ إلى بعض.. وكما يقولُ هو بعد قليل إنّها: مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الرُّكُونِ، وَلَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَقْوَاهَا آخِرُهَا.. ولكنّ الهدي القرآنيّ الأقومَ يقضي أن ينهى عن أدناها حذر ما يقود إليه ممّا لا تحمد عقباها.. ولا يخفى أنّ الظلم ليس على درجة واحدة، بل هو أنواع ودرجات: فأدنى أنواعه ظلم الإنسان نفسه بالمعاصي والذنوب، التي لا يتعدّى أثرها المباشر إلى غيره.. وأعلى منه ظلم الإنسان للآخرين بالاعتداء على أموالهم أو أعراضهم أو أنفسهم.. وأعلى منهما أن يكون الإنسان داعياً إلى الظلم والإفساد في الأرض، متّخذاً لذلك عصبة وأعواناً، وحزباً وأنصاراً، فلا يقف شرّه وإفساده عند عدد محدود من الناس، وإنّما ينتشر ويستطير، ويسعى فيه سعياً، بكلّ ما أوتي من قوّة أو حيلة.. وكلّ نوع من هذه الأنواع على درجات متفاوتة.. وهذا التنوّع للظلم ملاحظ مشهود، لا يحتاج إلى تدليل وبرهان.. فإذا علمنا أنّ الظلم أنواع ودرجات فناسب أن يكون النهي عن الركون إليه في الآية على أنواع ودرجات، وأنّ يكون معنى الركون يتناول ذلك كلّه ويشمله، بما اختزنت هذه الكلمة من المعاني.. فانظر إلى إعجاز القرآن بهذه الكلمة الواحدة، كم غطّت من المعاني؟ وهل تجد غيرها يقوم مقامها؟! ويتابع صاحب المنار القولَ: وَفَسَّرَهُ الفَيْرُوزَابَادِيُّ فِي قَامُوسِهِ بِالتَّبَعِ لِلْجَوْهَرِيِّ بِالمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ وَالسُّكُونِ لَهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالأَعَمِّ كَعَادَتِهِمْ، وَفَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالمَيْلِ اليَسِيرِ، وَتَبِعَهُ البَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ، الَّذِينَ يَعْتَمدُونَ عَلَيْهِ فِي تَحْرِيرِهِ لِلْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ لِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَذَوْقِهِ وَحُسْنِ تَعْبِيرِهِ، وَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ.. وقَالَ فِي الْقَامُوسِ المُحِيطِ تَبَعًا لِلصِّحَاحِ: رَكَنَ إِلَيْهِ كَنَصَرَ رُكُونًا: مَالَ وَسَكَنَ، وَالرُّكْنَ بِالضَّمِّ الجَانِبُ الأَقْوَى (زَادَ الجَوْهَرِيُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وَالأَمْرُ العَظِيمُ وَالعِزُّ وَالمَنَعَةُ (ا. هـ). وَمِثْلُهُ فِي لِسَانِ العَرَبِ وَذَكَرَ الْآيَةَ، وَأَنَّ الرُّكُونَ فِيهَا مِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْءِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانُ أَقْوَى مِنَ السُّكُونِ، وَفَسَّرَهُ فِي المِصْبَاحِ المُنِيرِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الِاطْمِئْنَانِ، وَالمَعَانِي الأَرْبَعَةُ: أَيِ المَيْلُ وَالسُّكُونُ وَالِاطْمِئْنَانُ وَالِاعْتِمَادُ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الرُّكُونِ، وَلَا تُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَقْوَاهَا آخِرُهَا. قَالَ فِي اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ: وَرُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الأَقْوَى، وَالرُّكْنُ النَّاحِيَةُ القَوِيَّةُ وَمَا تَقْوَى بِهِ مِنْ مُلْكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ - تعالى -: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذاريات: 39]. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: - تعالى -: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} [الذاريات:40]. أَيْ أَخَذْنَاهُ وَرُكْنَهُ الَّذِي تَوَلَّى بِهِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.. وفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بِقَوْلِهِ: أَيْ: إِلَى الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ الظُّلْمُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَى الظَّالِمِينَ. وهذا ما يؤَكّد ما مال إليه الكاتب منْ معنى التدرّج في الركون، وعدم قصد المعنى الأكبر فحسب.. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ المُوَفَّقَ صَلَّى خَلْفَ الإِمَامِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم، فكيف بالظالم؟! {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}؛ أَيْ: وَمَا لَكُمْ فِي هَذِهِ الحَالِ الَّتِي تَرْكَنُونَ إِلَيْهِمْ فِيهَا غَيْرُ اللهِ مِنْ أَنْصَارٍ يَتَوَلَّوْنَكُمْ: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} بِسَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ، وَلَا بِنَصْرِ اللهِ - تعالى -، فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَنُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ يَكُونُونَ مِنْهُمْ، وَهُوَ لَا يَنْصُرُ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، بَلْ تَكُونُ غَايَتُكُمُ الحِرْمَانَ مِمَّا وَعَدَ اللهُ رُسُلَهُ وَمَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ نَصْرِهِ الخَاصِّ، فَالتَّعْبِيرُ بِـ (ثُمَّ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى الغَايَةِ وَالعَاقِبَةِ المُقَدَّرَةِ لَهُمْ، إِنْ رَكَنُوا إِلَى أَعْدَائِهِ"([5]). وَقَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ الشَّافِعِيُّ المُتَوَفَّى سَنَةَ (606هـ) فِي تَفْسِيرِهِ الكَبِيرِ مَفَاتِحِ الغَيْبِ: "الرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالمَيْلُ إِلَيْهِ بِالمَحَبَّةِ، وَنَقِيضُهُ النُّفُورُ عَنْهُ... قَالَ المُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ المَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ، وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، أَيْ: إِنَّكُمْ إِنْ رَكَنْتُمْ إِلَيْهِمْ فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الرُّكُونِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَكَنَ إِلَى الظَّلَمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الظَّالِمِ فِي نَفْسِهِ" ا.هـ. قال اليمانيّ: "قد وسّع العلماء في ذلك وشدّدوا، والحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو استعانة عليه، أو رجاء تركهم الظلم، أو استكفاء شرورهم فلا حرج في ذلك، وربّما وجب، وإن كان لإيناسهم وإقرارهم فلا". انتهى ([6]). والحقّ أنّهم ما شدّدوا إلاّ لما رأوا من آثار سلبيّة على أكثر من خالط هؤلاء الظالمين، وأكثر الدخول عليهم.. ويقف الشيخ الشعراويّ - رحمه الله - عند هذه الآية الكريمة وقفة نورانيّة عميقة، إذ يقول، وهو يستجلي آثار الركون إلى الظالم، وممالأته على ظلمه: "والركون هو الميل والسكون، والمودّة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أنّ لقوّته شأناً في دعوتك! والركون أيضاً يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزيِّن للناس ما فعله هذا الظالم. وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأنّ الركون إليهم إنّما يشجّعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألاّ تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزيِّن له هذا الظلم؛ وأن تزيِّن للناس هذا الظلم. وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كلّه تجد أنّ آفات المجتمعات الإنسانيّة إنّما تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنّك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظنّ أنّك لم تُعرْض عنه إلاّ لأنّك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسباً حساب القوّة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعلّه يرتدع عن ظلمه. والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسّه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأنّ الحقّ - سبحانه - يقول: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار، وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ، ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113]. فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنّما تقعون في عداء مع منهج الله؛ فيتخلّى الله عنكم ولا ينصركم أحد؛ لأنّه لا وليَّ ولا ناصر إلاّ الله - تعالى -. ويقول الحسن - رحمه الله -: جعل الله الدين بين لاءين: (وَلا تَطْغَوْا.. وَلا تَرْكَنُوا)" ([7]). وهذا الإمام الزهريّ على رفعة قدره في العلم لمّا خالط السلاطين رأى في مخالطته أخ له ناصح خطراً على دينه فكتب إليه واعظاً مذكّراً: "عافانا الله وإيّاك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك: أصبحت شيخاً كبيراً، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه، وعلّمك من سنّة نبيّه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله - سبحانه -: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، وَلا تَكْتُمُونَهُ}. واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت، وأخفّ ما احتملت: أنّك آنست وحشة الظالم، وسهّلت سبيل الغيّ، بدنوّك ممن لم يؤدّ حقّاً، ولم يترك باطلاً، حين أدناك اتخذوك قطباً، تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلّماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشكّ بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، فإنّك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك، فقد دخله سقم، وهيّئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، والسلام"([8]). والظاهر المشهود أنّ الركون إلى الظالمين ـ وبخاصّة من قبل العلماء ـ إنّما يبدأ بالدخول عليهم في أوّل الأمر، ثمّ ما يلبث كثير من هؤلاء أن يستحلُوا حديثهم، ويقبلوا تبريرهم لأعمالهم، بل يخدعوا بأقوالهم، ثمّ يترخّصون في قبول هباتهم وأعطياتهم، فتسكت ألسنتهم، ويتحوّل الدخول عليهم من دخول لله، وابتغاء مرضاته، إلى دخول لحظّ النفس، وركون إليهم، وإلى ما هم فيه من ترف الدنيا وظلم العباد.. ولا عاصم من ذلك إلاّ تقوى الله - تعالى -، وإخلاص العمل لوجهه، واستشعار هيبته وعظمته، والوقوف بين يديه، مع الحرص على الاقتصار على قدر الضرورة في الدخول، وألاّ ينفرد العالم الواحد بذلك، بل يدخل مع لفيف من إخوانه العلماء، ويستشيرهم فيما يأتي ويذر، فلا يستطيع الظالم استمالته إليه وإغواءه.. فيا أيّها الراكنون إلى الظالمين، والممالئون لهم، والمبرّرون لجرائمهم. ! أما تعلمون أنّكم شركاء لهم في مآثمهم؟! ويوشك أن تكونوا ممّن باع دينه بدنيا غيره.. أما آن لكم أن تعيدوا النظر في موقفكم، وتصحو ضمائركم، بعد كلّ هذه الدماء، وما يرتكب هؤلاء الظالمون في الأرض من الجرائم والإفساد؟! __________________________________ ([1]) ـ التحرير والتنوير (11 / 341). ([2]) ـ محاسن التأويل. ([3]) ـ تفسير القرطبي (9 / 108). ([4]) ـ تفسير السعدي (1 / 390). ([5]) ـ تفسير المنار (12 / 141). ([6]) ـ محاسن التأويل (تفسير القاسمي). ([7]) ـ تفسير الشيخ الشعراويّ (1 / 4315). ([8]) ـ تفسير الكشاف مع الحواشي (2 / 434).
المصدر: موقع المسلم
سلمان العودة
عزة محمد
طارق البرغوثي
وأعظم الظلم الشرك بالله ( إن الشرك لظلم عظيم ) وأعظم الناس ظلماً هم المعرضون عن تحكيم شرع الله سواء باللسان - إرضاءا للكفار ومداهنة لهم أو بالعمل أو الاعتقاد - ، ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولا يشك منصف أن الذين يدعون الناس للرضى بالحكم المدني أو الديموقراطي الذي يجعل الشعب شريكا لله في الحكم بل ندا ومصدرا للتشريع هم من أظلم الناس وإنه لمن العجب أن نرى من يزعم أنهم آمنوا بالله ورسوله بل وزعموا أنهم عى نهج السلف يرضون بالديمرواقطية تارة وبالحكم المدني تارة ويضعون أيديهم بيد أهل الشرك الديموقراطي !
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة