الى الثورة
المشاهدات : 4460
شـــــارك المادة
إن أعظم رأس مال يملكه الإنسان هو عمره؛ لا أظن أن عاقلاً يقال له: خذ الدنيا وأعطنا من عمرك سنة يفعل! ولهذا يفتدي أحدهم من الموت بالدنيا لو كانت له وهو يعلم أنه لا يُخَلّد!
ومن المفارقات العجيبة! أنه مع ذلك لا يبالي أكثر الناس بإهدار الأعمار وإضاعتها سبهللاً! وإذا كان من السفه - الذي يحجر على صاحبه - إضاعة المال إسرافاً في الفضول وغير النافع فكيف بالأعمار؟!
وهل العمر إلا هذه الدقائق والساعات والأيام التي تمر عليه، وقد جاء في الحديث: «لا تزول قدما ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ من عندِ ربِّه حتى يُسألَ عن خمسٍ: عن عمُره فيما أفناهُ، وعن شبابِه فيما أبلاهُ، وعن مالِه من أين اكتسَبه وفيما أنفقَه، وماذا عمِل فيما علِم»، فتأمل! سؤالان من هذه الخمسة إنما هما عن الوقت، مما يدل على عظم قدره وخطير أثره في ميزان الإسلام.
أما السؤال الأول فعام يتناول كل وقت الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو عمره، وأما الثاني فخاص بوقت محدد من كل العمر ألا وهو وقت الشباب، وقت الصحة والقوة والنشاط.
وشريعة الكمال كما أمرت بحفظ الوقت، ونهت عن إضاعته، وحذرت من السفه وأرشدت إلى الرشد، فإنها قد جاءت بالتشريعات التي تنمي في النفوس امتثالها لذلك، وتعينها على أخذها بما يصلحها في الدارين، ومن ذلك تشريعات الصيام، وذلك باب واسع، يعنيني منه هنا الوقت!
إن رمضان مدرسة عظيمة نتعلم فيها حسن الإدارة والحفاظ على أغلى رأس مال نملكه، فعندما يلتزم المسلم خلال ثلاثين يوماً من أيام رمضان بالإمساك عن المفطرات عند وقت محدد، وعندما يبقى ممسكاً طوال ساعات النهار فلا يفطر قبل وقت محدد، وعندما يعلم أنه لو تعمد الأكل أو الشرب أو إتيان أهله بعد أذان الفجر بدقيقة أو أقل من دقيقة بطل صومه، بل إنه إن بقي ممسكاً يومه كله ثم أفطر عامداً قبيل المغرب بدقيقة أو أقل من دقيقة بطل صومه، إذا علم ذلك واستحضره فلا بد أن ينمي ذلك النظام المحكم أهمية الوقت وإن قصرت مدته! لابد أن يحضر في نفسه ذلك التشريع الرباني -إن أدى ما عليه فيه وحرص على هذه الدقيقة - فلا ينبغي له أن يضيع الساعات والأيام بلا فائدة.
بل إن المسلم ليعلم أن تفريطه في دقيقة واحدة بلا عذر لا يبطل صومه فحسب لكنه يعرضه لإثم عظيم وكبيرة من الكبائر، وقد جاء في بعض الآثار: «من أفطر يوماً من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صوم الدهر وإن صامه»، فلو صام الدهر كله عن هذه الدقيقة التي أفطرها عالماً متعمداً وهو يرى قرص الشمس لما كفاه صيام الدهر إن صح الأثر.
فالدقيقة لها قيمة في ميزان الإسلام، وتربينا أحكامه وشرائعه على أهميتها بدءاً من أصله وأسه في الشهادتين، إذ ينبغي للإنسان الذي تبلغه الحجة الرسالية ألا يؤخر النطق بهما، لأن الموت يأتي بغتة وقد يؤدي تفريطه في النطق بهما في آخر لحظة من حياته الدنيا إلى حياة أبدية في جهنم والعياذ بالله، ثم في الصلاة حيث لا تصح الصلاة قبل وقت محدد بدقة، ويأثم المرء إن أداها بعد آخر وقتها المحدد بدقة بلا عذر. وفي الزكاة حيث تجب على المكلف عندما يحول على نصابها الحول، ويأثم إن تهاون في إخراجها في وقتها.
فالصيام كذلك كما تقدم بل تشريعه برمته مرعي فيه ضبط الوقت، حيث يجب في وقت محدد برؤية هلال رمضان ويحرم في وقت محدد برؤية هلال شوال، وكذلك آخر المباني الأربعة، فالحج لا يصح إلاّ في أشهر معلومة، وإن أدى المرء كل المناسك ما لم يقف بعرفة في وقته المحدد فاته الحج، فلو أننا استفدنا من هذه الدروس التي تبعثها العبادات في النفوس لو أننا استفدنا منها في حياتنا العملية لما فرطنا في أوقاتنا وأعمارنا ولملأنا الحياة بالجد والعمل لنصرة هذا الدين وأهله، وعندها فإن رحمة الله واسعة ووعده بنصر عباده حق، كما قال سبحانه: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١].
لقد كان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما يؤذنان أذاني الفجر للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد عليه السلام أن يبين للناس الوقت الذي يجب عليهم أن يمسكوا فيه عن المفطرات في رمضان فقال: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". وقد يظن من يسمع الحديث أن بين الأذانين متسعاً من الوقت، لكن الروايات الصحيحة تدل على عكس ذلك، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو راوي الحديث المذكور كما في رواية مسلم: «ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا»، وفي هذا أعظم إرشاد إلى قيمة الوقت مهما قصر، فليس بين جواز الأكل والشرب وامتناعه إلا هذا الوقت القصير.
وقد يشكل على البعض أن يناط الأذان الذي يجب معه الإمساك بابن أم مكتوم رضي الله عنه مع كونه أعمى، لكن الروايات الصحيحة تزيل هذا الإشكال، قال ابن عمر رضي الله عنه في رواية البخاري المتقدمة: «وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يُقال له أصبحتَ أصبحتَ»، فكان بلال رضي الله عنه يؤذن الأذان الأول تنبيهاً للنائم وليقضي في رمضان نهمته من شرع في طعامه أو شرابه، وابن أم مكتوم يؤذن الأذان الثاني الذي يوجب الإمساك بدقة في وقته، فعلى مثل هذه الدقة يربينا شهر رمضان.
فهلا حرصنا على الدقيقة في عامته، ولاسيما عشره الأخير، فثمة ليلة الدقيقة فيها بنحو من ألف ساعة!
وفق الله الجميع لاغتنام أيام العمر، والتَّزَودِ من التقوى في هذا الشهر، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ولا تجعلنا من الغافلين، والحمد لله رب العالمين.
مجلة البيان العدد 349
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
تعليقات الزوار
أضف تعليقًا