..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

محبة الله هي باعث التوحيد والطاعة

وليد الودعان

٢٢ ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4365

محبة الله هي باعث التوحيد والطاعة
00000876.jpg

شـــــارك المادة

إنَّ للتعبُّد بالأسماء والصِّفات آثارًا كثيرةً على قلب العبد وعملِه، قال العزُّ بن عبدالسلام: "اعلم أنَّ معرفة الذَّات والصِّفات مثمِرة لجميع الخيرات العاجِلة والآجِلة، ومعرفة كلِّ صفة من الصفات تثمِر حالًا عليَّةً، وأقوالًا سنية، وأفعالًا رضيَّة، ومراتب دنيويَّة، ودرجات أخروية، فمَثَلُ معرفة الذَّات والصِّفات كشجرةٍ طيِّبة أصلُها - وهو معرفة الذَّات - ثابتٌ بالحجَّة والبرهان، وفرعُها - وهو معرفة الصِّفات - في السماء مجدًا وشرفًا، ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ﴾ من الأحوال والأقوالِ والأعمال ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 24، 25]، وهو خالِقُها؛ إذ لا يحصل شيءٌ من ثمارها إلا بإذنه وتوفيقِه، مَنبت هذه الشَّجرة القلب الذي إنْ صلح بالمعرفةِ والأحوال صلح الجسَدُ كلُّه"[1].

وهذه إشارةٌ موجزة إلى بعض أول تلك الآثار:

أولًا: محبة الله:

مَن تأمَّل أسماءَ الله وصفاته وتعلَّق قلبه بها طرَحَه ذلك على باب المحبَّةِ، وفتح له من المعارف والعلوم أمورًا لا يعبر عنها[2]، وإنَّ من عرف اللهَ أورثه ذلك المحبَّة له سبحانه وتعالى، قال ابن الجوزي: "فينبغي الاجتهادُ في طلب المعرفة بالأدلَّة، ثمَّ العمل بمقتضى المعرفة بالجدِّ في الخدمة لعلَّ ذلك يورِث المحبَّة... فذلك الغِنى الأكبر، ووافقراه!"[3].

ومراده أنَّ من عرف الله أحبَّه، ومَن أحبَّ اللهَ أحبَّه اللهُ، وذلك واللهِ هو الفوز العظيم والجنَّةُ والنَّعيم، والمحبَّةُ هي المنزلة التي "فيها تنافَس المتنافِسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمَّر السَّابقون، وعليها تفانى المحبُّون وبروح نسميها تروَّح العابدون، فهي قوت القلوبِ وغذاء الأرواح وقرَّةُ العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنُّورُ الذي من فقده فهو في بحار الظُّلمات، والشِّفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذَّة التي من لم يظفرْ بها فعيشُه كله همومٌ وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، والتي متى خلَت منها فهي كالجسَد الذي لا روح فيه"[4].

حبُّ الله هو الفطرة:

وحبُّ الله هو فِطرةُ القلب التي فُطِر عليها، قال ابن تيمية: "والقلب إنَّما خُلِق لأجل حبِّ الله تعالى، وهذه الفِطرة التي فَطر اللهُ عليها عبادَه كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ مَولودٍ يولَد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتجُ البهيمةُ جمعاء هل تحِسُّون فيها مِن جدعاء))، ثمَّ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30]؛ أخرجه البخاري ومسلم، فالله سبحانه فطَر عبادَه على محبَّته وعبادتِه وحده، فإذا تُركَت الفطرةُ بلا فساد كان القلب عارفًا بالله محبًّا له عابدًا له وحده"[5].

ومن سلَك طريقَ التأمُّل في الأسماء والصِّفات ولاحَظ نِعمَ الله عليه كيف لا يكون حبُّ الله تعالى أعظم شيءٍ لديه، قال أبو سليمان الواسطي: "ذِكر النِّعَم يورِث المحبَّة"[6]، وقال ابن القيم: "فإذا انضمَّ داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلَّف عن محبَّة مَن هذا شأنه إلَّا أردَأُ القلوب وأخبَثها وأشدها نقصًا وأبعدها من كلِّ خير؛ فإنَّ الله فطَر القلوبَ على محبَّة المحسِن الكامِل في أوصافه وأخلاقِه، وإذا كانت هذه فِطرة الله التي فطَرَ عليها قلوب عبادِه، فمِن المعلومِ أنَّه لا أحد أعظم إحسانًا منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمَل منه ولا أجمَل، فكلُّ كمالٍ وجمال في المخلوق من آثار صنعِه سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يُحَدُّ كمالُه ولا يوصَفُ جلاله وجمالُه، ولا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه بجميل صِفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله؛ بل هو كما أَثنى على نفسه، وإذا كان الكمال محبوبًا لذاته ونفسه وجَبَ أن يكون الله هو المحبوبَ لذاتِه وصِفاته؛ إذ لا شيء أكمَل منه، وكلُّ اسم من أسمائه وصِفة من صفاته وأفعاله دالَّة عليه، فهو المحبوب المحمود على كلِّ ما فعَل وعلى كلِّ ما أمَر؛ إذ ليس في أفعاله عبَثٌ ولا في أوامره سفَه، بل أفعاله كلُّها لا تخرج عن الحكمة والمصلحَةِ، والعدلِ والفضل والرَّحمة، وكل واحد من ذلك يَستوجب الحمدَ والثَّناء والمحبَّة عليه، وكلامه كلُّه صِدق وعدلٌ، وجزاؤه كلُّه فضل وعدل؛ فإنَّه إن أعطى فبفضله ورحمتِه ونعمتِه، وإن منع أو عاقَب فبعدله وحكمته.
ما للعباد عليه حقٌّ واجب *** كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا *** فبفضلِه وهو الكريمُ الواسِعُ"[7].

سرور القلب بمحبَّة الله:

وإذا شمَّر العبدُ إلى تلك المنزلَة ورام الوصولَ إليها، وعرف اللهَ بأسمائه وصفاته - التفَت القلبُ إلى الله وخلا عن كلِّ ما عداه فـ "لم يكن شيء أحبَّ إليه منه، ولم تبقَ له رغبة فيما سِواه إلَّا فيما يقرِّبه إليه ويعينه على سفَره إليه"[8].

قال يحيى بن أبي كثير: "نظرنا فلم نجِد شيئًا يتلذَّذ به المتلذذون أفضل من حبِّ الله تعالى وطلَب مرضاته".

فكان لسان الحال يقول:
كلُّ محبوبٍ سوى اللهِ سرَفْ *** وهمومٌ وغمومٌ وأسفْ
كلُّ محبوبٍ له منه خلَف *** ما خلا الرَّحمن ما منه خلَفْ[9]

وقال ابن تيميَّة: "وليس للقلوب سرورٌ ولا لذَّة تامَّة إلَّا في محبَّة الله والتقرُّب إليه بما يحبُّه، ولا تمكن محبَّته إلَّا بالإعراض عن كلِّ محبوبٍ سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله"[10].

محبة الله باعث التوحيد والطاعة:

ولذا كانت محبَّة الله مقتضية لعدَم التشريك بينه وبين غيره؛ فهي باعِث التوحيد، ألا ترى أنَّ القلب له وجه واحد: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ [الأحزاب: 4]، فإذا مال إلى جهةٍ لم يمل إلى غيرها، وليس لأحد قلبان؛ يوحِّد بأحدهما، ويشرِك بالآخر[11].

قال صديق حسن: "محبَّة الله إذا استغرق بها القلب واستولَت عليه لم تبعث الجوارح إلَّا إلى مراضي الرب، وصارت النَّفس حينئذ مطمئنة بإرادة مولاها عن مرادها وهواها، يا هذا اعبد اللهَ لمراده منك لا لمرادك منه"، وقال: "من امتلأ قلبه من محبَّة الله لم يكن فيه فراغ لشيء من إرادة النَّفس والهوى"[12].

فإلى من ابتُلي بهواه حتى ألمَّ به من جوانبه وأعياه، هذا هو الدَّواء لكل داء والبلسم للشفاء، تأمَّل في أسماء الخالِق العظيم وصفاته لتتلمَّس محبته وما يقربك إليه.

وإذا أردت كمالَ العبوديَّة فاعلم أنَّه تابع لكمال المحبَّة، وذلك تابع لكمال المحبوبِ في نفسه، ولما أن كان الله تعالى له الكَمال المطلَق من كلِّ وجهٍ بحيث لا يعتريه توهُّم النَّقص فإنَّ القلوب السليمة والفِطَرَ المستقيمة والعقولَ الحكيمة لا تلتفت إلَّا إليه ولا تريد أحدًا سواه ولا تقبِل بحبها إلَّا إليه سبحانه، وحينذاك فلا تُقبِل إلَّا لما تقتضيه تلك المحبَّة من عبوديَّته وطاعته، واتباع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبُّد له والإنابة إليه.

قال ابن القيم: "وهذا الباعث أكمل بواعِث العبوديَّة وأقواها، حتى لو فرض تجرُّده عن الأمر والنَّهي والثواب والعقاب استفرغ الوسعَ واستخلص القلب للمعبود الحق"[13].

وإيَّاك أن يخلوَ قلبك من الحبِّ لله تعالى، أو أن تملأه من محبَّة غيره؛ فإنَّ الله تعالى يَغار على قلب عبده أن يكون معرِضًا عن حبِّه، فالله تعالى خلَقَك لنفسه واختارك من بين خلقه، ولتعلم أنَّ الله تعالى إذا أراد بعبده خيرًا سلَّط على قلبه إذا أعرض عنه واشتغل بحبِّ غيره أنواعَ العذاب حتى يرجِع قلبه إليه، وإذا اشتغلَت جوارحه بغير طاعته ابتلاها بأنواع البلاء[14].

وبعد هذا الْهَجْ بقولك: ((اللهمَّ إنِّي أسألك حبَّك وحبَّ مَن يحبك، وحبَّ عمل يقرِّب إلى حبك))[15]؛ فقد كان هذا من دعاء سيِّد المحبِّين صلى الله عليه وسلم، فأكثِر منه لعلَّ الله تعالى أن يفتح لك الباب؛ فإنَّ مَن أكثر الطَّرق ولَج بإذن الله تعالى.

-------------------------------

[1] شجرة المعارف والأحوال (14، 15).

[2] انظر: مفتاح دار السعادة (1 / 286).

[3] صيد الخاطر (70).

[4] "مدارج السالكين" (3 / 6، 7).

[5] مجموع الفتاوى (10 / 134، 135)، والحديث في البخاري (1358)، ومسلم (2658).

[6] "المحبَّة لله سبحانه"؛ لإبراهيم بن الجنيد (24).

[7] "طريق الهجرتين" (520، 521).

[8] روضة المحبين (406).

[9] "المحبة لله سبحانه"؛ لإبراهيم بن الجنيد (44، 101).

[10] مجموع الفتاوى (28 / 32).

[11] انظر: روضة المحبين (295).

[12] الدين الخالص (1 / 167).

[13] مفتاح دار السعادة (2 / 88، 89).

[14] انظر: روضة المحبين (310).

[15] رواه الترمذي (3235)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2582).

 

 

الألوكة

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع