رابطة خطباء الشام
تصدير المادة
المشاهدات : 5777
شـــــارك المادة
مقدمة: كلما أقبل رمضان، ينتاب المسلمين المظلومين المضطهدين شعور عارم ينبض بالقلوب، ويسري في الوجدان، و يعبَّر عنه بفألِ وأملِ الانتصار، ترى ماذا وراء ذلك؟ 1-رمضان والجهاد: لا يكاد يُذكرُ شهر رمضان إلا ويقترن بذكره الجهاد في سبيل الله، وكثير من معارك المسلمين وانتصاراتهم حدثت في رمضان وذلك لم يكن مصادفة واتفاقاً وإنما كان أمراً محسوباً ومقدراً، فكل شيء خلقه الله بقدر {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. حتى في القرآن عندما انتهت آيات الصيام جاءت بعدها مباشرة آيات القتال، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:190–194]. فالله عز وجل يدعو بشدة إلى قتال المشركين، وارتباط هذا القتال بشهر الصيام ارتباطاً وثيقاً له مدلولاته وإشاراته، ولعل من أهمها: أن الانتصار على العدو لا يكون إلا بعد الانتصار على النفس والهوى، والانتصار على النفس والهوى يكونان في شهر رمضان.. فالإعداد للجهاد إعداد للنفس، إعداد للجسد، إعداد للأمة كلها، ومن هنا كان الارتباط الوثيق بين هذين الفرضين الصيام والجهاد. 2- لماذا أول غزوة في رمضان: عندما تذكر الانتصارات في شهر رمضان لا يغيب عن ذهن الصغير والكبير غزوة بدر الكبرى، لماذا كانت هذه الغزوة في رمضان؟ لماذا لم يكن هذا الحدث الهائل في أي شهر آخر؟ إنه أمر مقصود ومحسوب، لأن فيه رسماً لسياسة الأمة وتخطيطاً لمستقبلها، فأمة لديها شهر تتغير فيه كل الموازين والقوانين والروتين اليومي، وتغير فيه نفسها، وتبني نفسها، وتنتقل من مرحلة إلى مرحلة، قادرة على أن تنتقل بنفسها من الذلة إلى العزة ومن أمة في ذيل الأمم إلى أمة قائدة رائدة.. إن شهر رمضان ثورة، ثورة في كل شيء، ثورة على النفس، وثورة على الروح، وثورة على القوانين اليومية، والعادات الروتينية فسبحان الله!! بأمر واحد من الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]. حدث كل هذا التغيير!! النوم تغير، ومواعيد الطعام والشراب تغيرت، وأوقات الدوام تغيرت، وطريقة الإنفاق تغيرت، تغير كل شيء وجانب العبادة يطغى على جانب الأمور الدنيوية، ففي الغالب كثير من الناس يرتبون أعمالهم حسب عباداتهم، صلاتهم، قراءتهم للقرآن، اعتكافهم في المساجد، قيامهم لليل، بينما في غير رمضان تطغى أمور الدنيا على أمور العبادة والله المستعان وفي شهر رمضان يظهر جانب التآخي والتراحم والرأفة بين المسلمين على غير ما هو في غير رمضان، فالصدقات والزكوات والأعطيات تكثر، ويشعر الغني بالفقير، والحر بالسجين، والمرتاح بالمضطهد.. والتآخي بين المسليمن من أعظم دعائم قيام الأمة؛ لذلك فأول عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يعلم أن دولته لن تقوم بغير ذلك، فأمة متقاطعة متناحرة بين أفردها يأكل الضعيف فيهم القوي، ويظلم الغني فيهم الفقير، وتنعدم فيه مظاهر المحبة والإيثار مجتمع مترهِّلٌ مفكك ضعيف لا تقوم به دولة ولا أمة. كل هذا التغيير يحدث في رمضان، لذلك فهو تهيئة للنفس للجهاد في سبيل الله ولبناء الأمة، فالجهاد والبناء يحتاجان إلى همة عالية وروح متقدة وجسد قوي وصحة جيدة وأخوة بين المسلمين، وهذا كله حاصل في رمضان. 3- درس للأمة من يوم الفرقان في ليلة السابع عشر من رمضان تجمع المشركون بقضهم وقضيضهم وعزفت عليهم القيان واصطحبوا معهم النساء والأموال حتى تسمع بهم العرب وذلك ليقضوا على المسلمين الموحدين، وفي اليوم التالي ينقلب السحر على الساحر وينتصر المسلمون ويُقتل سبعون من صناديد قريش، قال الله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]. انتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة كلها عزة وكرامة ورفعة، وأذل الله المشركين وخفضهم ونكَّس رؤسهم، وأصبح للمسلمين كيان ودولة معترف بها، لقد انتصر الإيمان، وعلا القرآن، وفاز حزب الرحمن، ودحر الطغيان، وكسرت الأوثان، وخاب حزب الشيطان.. وقد سمى الله هذا اليوم بيوم الفرقان، إنه بحق يوم الفرقان، فتاريخ الأرض كلها تغير منذ ذلك الحين.. لماذا يطغى ذكر غزوة بدر على كل الانتصارات التي حدثت في رمضان؟ لأن الله رسم فيها سياسة الأمة كما قلنا، ووضع لها قوانينها إلى يوم القيامة، ومن ذلك: أن المقادير بيد الله الواحد الأحد، وأنه سبحانه قادر على أن يغير حال الأمة في طرفة عين، فالملك ملكه والأمر أمره والخلق خلقه وهو على كل شيء قدير، قدرته لا تقارن بقدرة البشر، فبكلمة كن من الله يحصل المستحيل بالنسبة لنا، فإذا أراد الله شيئاً سيكون ولو اجتمعت امم الأرض كلها لتمنعه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. من غزوة بدر نستلهم هذا الدرس، إذ كيف لعدد قليل أن يغلب جيشاً كبيراً مجهزاً؟! الفئة القلية معها سبعون جملاً، والفئة الكبيرة معها سبعمائة جمل.. الفئة القليلة معها فرسان، والفئة الكبيرة معها مائة فرس.. الفئة القليلة خرجت بسلاح المسافر، والفئة الكبيرة خرجت بسلاح الجيوش.. فبالمقاييس المادية لا تفسير لذلك الانتصار إلا بـ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. انتصر المسلمون بأسلحة غير تقليدية تماماً، فهم لم ينتصروا بصواريخ بالستية، ولا بأقمار صناعية، ولا قنابل عنقودية، وإنما انتصرت بالمطر والنعاس، والتوفيق في الرأي بين المسليمن، وجمع كلمتهم على قائدهم، وتضرعهم إلى ربهم، وباختلاف الرأي بين المشركين، وتشتيت كلمتهم، وقذف الرعب في قلوبهم.. قبل المعركة بليلة قام رسول الله يدعو ربه: (اللهمَّ! أَنجِزْ لي ما وعدتَني. اللهمَّ! آتِ ما وعدتَني. اللهمَّ! إن تهلِك هذه العصابةُ من أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرض) فما زال يهتف بربِّه، مادًّا يدَيه، مستقبلَ القبلةِ، حتى سقط رداؤُه عن منكبَيه. فأتاه أبو بكرٍ. فأخذ رداءَه فألقاه على منكبَيه. ثم التزمه من ورائِه. وقال: يا نبيَّ اللهِ! كفاك مُناشدتُك ربَّك. فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفَينَ} [الأنفال:8-9] فأمدَّه اللهُ بالملائكة. قال أبو زميلٍ: فحدَّثني ابنُ عباسٍ قال: بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشتدُّ في أثر ِرجلٍ من المشركين أمامَه. إذ سمع ضربَةً بالسوطِ فوقَه. وصوتُ الفارسِ يقول: اقدُمْ حَيزومُ. فنظر إلى المشركِ أمامه فخرَّ مُستلقيًا. فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفُه، وشُقَّ وجهُه كضربةِ السوطِ. فاخضرَّ ذلك أجمعُ. فجاء الأنصاريُّ فحدَّثَ بذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فقال (صدقت. ذلك مددٌ السماء الثالثةِ) [1] وحدد النبي مصارع القوم فقال: هنا مصرع فلان وهنا مصرع فلان، فلم يتزحزح أحد منهم عن مكانه في اليوم التالي. وأنزل الله ملائكة على رأسهم أشرفهم جبريل عليه السلام تقاتل معهم.. إنه أعظم درس للمسلمين في التربية والتهيئة للنصر، أن يعلموا ان الله قوي وقادر على نصرهم، معاني ترسخت في غزوة بدر {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وحتى الملائكة التي نزلت تقاتل لم يكن النصر منها، وإنما من الله وحده، قال الله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]. والله الذي لا يعبد سواه إن أمم الكفر مهما عظمت وكبرت، ومهما بلغت من التقدم والتطور فهي لا تساوي في ميزان الله شيئاً، لا تخيفنكم أمريكا ولا روسيا ولا إيران ولا غيرها، فإن الله جعل لهذه الأمم إن لم ترجع عن ظلمها موعداً سيهلكها فيه، لن يتأخر هذا الموعد ولن يتقدم إذا جاء، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]. {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. فكما نصر الله الفئة القليلة المستضعفة في بدر فهو قادر على نصر المستضعفين اليوم، ولكن هذا النصر أيضاً قد جعل الله له قانوناً وسنة وهي {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)[محمد:7–8]. يكون ذلك يوم يتقي المسلمون ربهم، فيا أيها الناس: هل تريدون نصراً؟ هل تريدون أن تنتهي الأزمة؟ هل تريدون ان ترجعوا إلى دياركم؟ هل ترديون أن يهلك عدوكم؟ الأمر يسير والله.. ارجعوا إلى ربكم واعترفوا بذنوبكم وارحموا بعضكم وأبشروا بعدها بنصر عاجل {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:123-129]. 4- جانب من انتصارات المسلمين في رمضان وليس فقط غزوة بدر وحدها كانت في رمضان، بل إنه لا يكاد يخلو يوم من أيام هذا الشهر إلا وقد دوِّن في سجله انتصار للمسلمين أو أكثر، في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة كان فتح مكة، وتكسير الأصنام حول الكعبة، ليعبد الله وحده لا شريك له.
ربما قال القائل ما السر في كل تلك الانتصارات لاسيما وأن منها انتصارات مفصلية في تاريخ الأمة كما في بدر وفتح مكة وعين جالوت؟ لعل السر في ذلك: أن المسلمين عموما أقرب ما يكونون إلى الله في رمضان، عندما تكون شياطين الجن مقيدة، وأبواب الخير مشرعة، والأعمال الصالحة أجورها مضاعفة، سيما الصدقات، وقرآن الله تسمع همساته على شفاه الناس وترى أثره على مقلهم ومدامعهم، الأيدي مرفوعة بذل إلى الله ترجوه عفوا وعتقا من النار، بالنتيجة أقرب ما يكون حالنا إلى الله في رمضان، وقربنا من الله يفتح لنا أبواب النصر والرحمة. ومن دروس حدوث أغلب الانتصارات في رمضان، في ذلك دليل على أن العدد الحربية وحدها لا تكفي لحدوث النصر، وهي سنة الله في الكون، ومن المعلوم أنه لا انتصار ولا فلاح ولا نجاح إلا لمن التزم سنن الله، ذلك أن السنن لا تحابي أحد، فما انتصر المسلمون مرة في التاريخ فقط لأنهم مسلمون في حين أنهم مقصرون في جنب الله، مخالفون لسننه، علينا أن نعي ذلك إذا أردنا الانتصار علينا بالإعداد الحربي الجيد والعودة لأمر الله، ولننفض أيدينا من أدران الظلم الذي يجري بيننا.
-------------- 1 - مسلم/1763
أحمد عبد العزيز القايدي
عبد المجيد البيانوني
فايز الصلاح
عماد الدين خيتي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة