هيئة الشام الإسلامية
تصدير المادة
المشاهدات : 5066
شـــــارك المادة
السؤال: بعد قيام الثّورة السّورية قامت في المناطق المحررة هيئاتٌ شرعيةٌ وقضائيةٌ متعدّدة، ونود أن نسأل عن حدود صلاحياتها، وإلزامها للنّاس بأمور القضاء والفصل في المنازعات، وخاصة قضايا التفريق بين الزوجين، ومدى مشروعية تعدد هذه المحاكم؟ وهل لها أنْ تُلزم الناسَ بما ترجّح لديها مِن آراء في المسائل الفقهية الخلافية؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ..أما بعدُ : فالهيئةُ القضائيةُ إذا قام بتشكيلها أهلُ الحلّ والعقد مِن أهل العلم ورؤوس النّاس في المناطق المحررة فإنها تقوم مقامَ المحاكم الشّرعية المعيَّنة مِن قِبل وليِّ الأمر المسلم في حال وجوده، وتتمتّع بما لها مِن صلاحيات، وتتولّى ما يتولاه القاضي مِن أحكام الأسرة وغيرها، وبيانُ ذلك فيما يلي:
أولاً: قرّر أهلُ العلم أنّ فصلَ الخصومات، وفضَّ النزاعات، وتأديةَ الحقوق، وإقامةَ العقوبات مِن أعمال الحاكم والسّلطان صاحب الشوكة والقوة، الذي يجتمع عليه الناس ويخضعون له . قال الماوردي رحمه الله في "الأحكام السّلطانية" معددًا واجبات الحاكم: " تنفيذُ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعِين حتى تعمّ النّصَفةُ، فلا يتعدّى ظالمٌ، ولا يَضعفَ مظلومٌ..، وإقامةُ الحدود؛ لتُصان محارمُ الله تعالى عن الانتهاك، وتُحفظَ حقوقُ عباده مِن إتلافٍ واستهلاك..". كما بيّن أهل العلم أنّه ليس لأحدٍ أن يقيمَ الحدود أو القصاص مع وجود الحاكم، قال القرطبي في "تفسيره": "لا خِلافَ أَنَّ القِصاصَ فِي القَتْلِ لا يقيمه إلا أولوا الأمْرِ".
ثانياً: إذا خَلا مكانٌ أو زمانٌ مِن السّلطان الذي يتحاكم الناسُ إليه فإنه يجب على أهلِ الحلِّ والعقد مِن العلماء والوجهاء وأهل الرأي والحكمة أنْ يقيموا مَن يتولى القيامَ بما يجب مِن الحقوق والواجبات المتعلقة بالحكم والقضاء. وقد قرَّر أبو المعالي الجويني نقلاً عن بعض أهل العلم في "غياث الأمم": أنه "لو خلا الزمانُ عن السّلطانِ فحقٌّ على قُطّان كلِّ بلدة، وسكانِ كلِّ قريةٍ، أنْ يقدّموا مِن ذوي الأحلام والنُّهى، وذوي العقول والحِجا مَن يلتزمون امتثالَ إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، تردّدوا عند إلمام المهمات، وتبلّدوا عند إظلال الواقعات". وقال ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج": "إذا عدم السلطان لزم أهلَ الشّوكة الذين هم أهل الحل والعقد ثَمَّ أن ينصبوا قاضياً، فتَنفُذُ حينئذ أحكامُه؛ للضرورة الملجئة لذلك". قال الخرشي في باب الإيلاء مِن شرحه على "مختصر خليل": "فإن لم يكن حاكمٌ فصالحو البلد يقومون مَقام الحاكم". ثالثًا: إذا قام أهلُ الشأن من أهل العلم والرأي ورؤوس النّاس من ذوي الشوكة والقوة بتشكيل الهيئة القضائية، فتنفذ أحكامُها في كلّ ما تنفذُ فيه أحكامُ القاضي الشّرعي المولَّى مِن قبل إمام المسلمين في حال وجوده، ومِن ذلك الحكم في شؤون الجهاد، والأسرى، والغنائم، وإقامة الحدود والقصاص، وعقد النّكاح، والحكم في المفقودين، والتّفريق بين الزوجين في الأحوال التي يجوز فيها للقاضي أن يفرق بينهما كالخلع، أو الفسخ عند وجود سببه الشرعي، كما تتولى توزيع مواريث الموتى، والحكم في العقوبات والجنايات والديات، ونحوها، وهو ما صدرت به الفتاوى السابقة، ينظر مجموعها على الرابط التالي..
رابعًا: إذا لم يكن في المنطقة قوى عسكرية أو مدنية لتشكيل هذه الهيئة القضائية، ولم يوجد في البلدة أهلُ حلٍّ وعقدٍ أو شوكةٍ وسلطان يقلّدون لهذه الهيئة الشّرعية أمورَ القضاء ويجتمعون عليها، بما يمكّنها مِن إنفاذِ أحكامِها فيهم، أو لم تكن لهم القدرةُ على ذلك كما في أماكن ومخيمات اللاجئين السوريين في دول الجوار: فيجوز حينئذٍ لطلبة العلم أن يشكّلوا هيئةً شرعيةً للفتوى والتّحكيم، ولكن لا تقوم مقامَ الهيئة القضائية الـمُعيَّنة مِن أهل الأمر والشوكة في نفوذ الأحكام والإلزام بها، أو الحكم في قضايا المفقودين والتّفريق بين الزوجين، ونحوها، بل لا تعدو أن تكون هيئةً للفتوى والتّحكيم بين النّاس فيما يترافعون إليها بالتراضي بينهم. قال ابنُ نجيم في "البحر الرائق" في تعريف التحكيم: "توليةُ الخصمين حكَماً يحكم بينهما، أي: اختيار ذوي الشأن شخصاً أو أكثر؛ ليحكم فيما تنازعا فيه دون أن يكون للمحكَّم ولايةُ القضاء بينهما". ويدلُّ على مشروعيةِ التّحكيمِ ما ثبت عن أبي شريح هانئ بن يزيد رضي الله عنه: أنّه لـمّا وَفَدَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سَمِعَهم يكنونه بأبي الحَكمَ، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنّ اللهَ هو الحَكَمُ، وإليه الحُكمُ، فلِمَ تُكنّى أبا الحَكَمِ؟) فقال: "إنّ قومي إذا اختلفُوا في شيءٍ أتوني، فحكمتُ بينهم، فرَضِيَ كِلا الفريقين، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحسَنَ هذا..) الحديث رواه أبو داود . فإذا تراضى الخصمان على التحاكم إلى مَن كان أهلاً للحُكم فإنّ حُكمَه يكون لازماً لهما شرعًا، حتى لو لم يمكن إلزامُهما به قضاءً . جاء في "الموسوعة الفقهية": "متى أصدر الحكَمُ حُكمَه، أصبح هذا الحكمُ ملزماً للخصمين المتنازعين، وتعيّن إنفاذُه". خامسًا: يختلف التّحكيمُ عن القضاء في أمورٍ، منها: 1- أنّ التّحاكمَ إلى هيئة التّحكيم لا يكون إلا بتراضي الخصمين، فإذا لم يرضَ أحدُهما بالتّحاكم لم يُلزم بذلك، بخلاف القضاء الذي لا يشترط فيه رضا الخصمين. جاء في "مجلة الأحكام العدلية": "التّحكيمُ هو عبارة عن اتخاذ الخصمين حاكماً برضاهما لفصل خصومتِهما ودعواهما". 2- أنّ حُكمَ هيئة التحكيم قاصرٌ على المتخاصِمَين، ولا يتعدّاهما إلى غيرهما ممَّن لم يرض بالتّحكيم. جاء في "الموسوعة الفقهية": "ولكنّ هذا الإلزامَ الذي يتّصف به حُكمُ الحكَم ينحصر في الخصمين فقط، ولا يتعدّى إلى غيرهما، ذلك لأنّه صدر بحقِّهما عن ولايةٍ شرعيةٍ نشأت مِن اتفاقهما على اختيار الحكَم للحُكم فيما بينهما مِن نزاعٍ وخصومة. ولا ولايةَ لأيٍّ منهما على غيره، فلا يسري أثرُ حُكْم الحَكَم على غيرهما" . 3- ليس لهيئة التحكيم أن تحبس أحدَ الخصمين أو الشّهود، كما أنه ليس لها أن تعاقب بالجلد وغيره؛ إذ الهدفُ مِن التّحكيم حسم النزاع لا إيقاع العقوبة. 4- ذهب جمهورُ أهل العلم إلى أنّه لا يجوز التحكيمُ فيما كان مِن حقوق الله تعالى كالحدود، ولا في القصاص، ولا فيما لا سلطةَ للمحكّم عليه كحقوق غير الخصوم كاللّعان؛ إذ فيه إثباتٌ أو نفيٌ لنسب الولد مع أنه ليس طرفاً في النّزاع، ولا فيما يختصّ به القضاء؛ لأنّه من الأحكام السلطانيّة المنوطة بولي الأمر. جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: "لا يجوز التحكيم في كلِّ ما هو حقٌّ لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكمُ فيه إثباتَ حكم ٍأو نفيه بالنّسبة لغير المتحاكمين ممّن لا ولاية للحَكَم عليه كاللعان؛ لتعلّق حقّ الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنّظر فيه". وعليه: فإذا لم يكن لهذه الهيئاتِ المقامةِ في دول اللّجوء سلطةٌ تمنحها إياها الدّولة المضيفة: فلا يكون لها سلطةُ التّفريق بين الزوجين، ولا تكون أحكامُها إلا برضا الطّرفين وتوكيلِهما. فينبغي لمن احتاج للحُكم في هذه المسائل أن يلجأ للمحاكم الشرعية في الدول التي يقيم فيها، أو أن يوكل الهيئات القضائية داخل الأراضي السّورية المحررة بالقضاء في مسألته.
سادسًا: ما ذُكر مِن تعدّد الهيئات القضائية في البلد الواحد، وقيامِ كلّ فصيلٍ بإنشاءِ محاكمَ تابعةٍ له مِن البلاء الذي وقع في المناطق المحرّرة، وهو انعكاسٌ لحالة التفرّق السّائدة بين الفصائل العسكرية، والهيئات الشّرعية، والمؤسسات المدنية، والواجبُ على الجميعِ السعيُ لإنهاء هذه الحالة، والعملُ على توحيد الجهات القضائية والشرعية؛ منعاً لاضطراب الأحكام، وسعياً إلى استقلال القضاء، ورفعاً لتبعية القضاء للفصائل. ومع ذلك فإذا كان لهذه المحاكم شوكةٌ في تطبيق أحكامها فإنّ أحكامَها تنفذُ في حقّ مَن يخضع لسلطتها إذا وقع حكمُها موافقاً للشريعة، فقد قرَّر الفقهاءَ في حال من تغلَّب على بلدٍ -من أهل العدل أو البغي- فأقام فيها قضاةً أن أحكامَهم نافذةٌ، ولا يُنقض منها إلا ما خالف الشّريعة. قال ابن تيمية في "الفتاوى": "السنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فُرِضَ أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي يَنْفُذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم". وقال ابنُ عبد البر في "التمهيد": "ولو تغلّبوا على بلدٍ فأخذوا الصدقات، وأقاموا الحدودَ، وحكموا فيهم بالأحكامِ، لم تُنقض عليهم الصدقاتُ ولا الحدودُ، ولا يُنقض مِن أحكامهم إلا ما كان خلافاً للكتاب أو السنة أو الإجماع كما يُنقض مِن أحكام أهلِ العدلِ والسّنّة" . وقال ابنُ الهمام في "فتح القدير": "وإذا ولى البغاةُ قاضياً في مكانٍ غلبوا عليه، فقضى ما شاء، ثم ظهر أهلُ العدل، فرُفعت أقضيتُه إلى قاضي أهلِ العدل نفذ منها ما هو عدلٌ, وكذا ما قضاه برأي بعضِ المجتهدين: لأنّ قضاءَ القاضي في المجتهدات نافذٌ، وإن كان مخالفاً لرأي قاضي العدل". سابعًا: ليس للهيئات الشرعية والقضائية ولا إدارات الأوقاف أن تُلزم عمومَ الناس بما يترجّح لديها مِن آراء أو اجتهادات في مسائل الخلاف المعتبر في عبادات الناس وشؤونهم الخاصة، فالمسائلُ الاجتهاديةُ ليست محلاً للإنكار، ولا للإلزام. قال سفيان الثوري كما في "حلية الأولياء" لأبي نُعيم: "إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه ". . وقال الإمام أحمد كما "الآداب الشرعية" لابن مفلح: "ما ينبغي للفقيه أنْ يحمل الناسَ على مذهبه، ولا يشدّد عليهم". وقال ابن تيمية كما في "مختصر الفتاوى المصرية": "وليس لولي الأمر أن يحملَ الناس على مذهبه في منع معاملةٍ لا يراها، ولا للعالم والمفتي أنْ يلزما الناسَ باتباعهما في مسائل الاجتهاد بين الأئمة، بل قال العلماءُ: إجماعُهم حجّةٌ قاطعةٌ، واختلافُهم رحمةٌ واسعةٌ، ومثلُ هذه المسائل الاجتهادية لا تُنكر باليد..". نسأله تعالى أن يوفق القائمين على القضاء للاجتماع على أمرٍ يكون فيه خير البلاد والعباد، والحمد لله رب العالمين.
عمر عبد المجيد البيانوني
أبو محمد الصادق
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة