مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3985
شـــــارك المادة
-تمهيد-
هذه المقالة طويلة، لكنها ليست أطولَ من النفق المظلم الذي توشك الغوطة أن تدخل فيه لا قدّر الله، وكلماتها ومعانيها ثقيلة، لكنها ليست أثقلَ من الكارثة التي ستحل بالغوطة لو تجاهل أهلُ الرأي والقرار فيها المشكلةَ وعجزوا عن حلها حلاً يحقق العدالة ويرضي الله.
أما الدافع إلى نشرها نشراً عاماً فأمران، أولهما أن الغرف الخاصة ضاقت عن سماع الرأي والنصيحة وأعرضت عن الاستجابة وسمحت للمشكلة بالتعاظم والتعقيد، فصار النشر العام ضرورياً ليعرف الناس أن الوقت يمضي بلا تقدم وأن الخطر يتفاقم يوماً بعد يوم، فإنْ عجزت الأصواتُ المفرَدة في الغرف والمجموعات المغلقة أن تصنع شيئاً فعسى أن تصنعه الإرادةُ العامة والوعي الجمعي لجمهور الثورة الكبير.
وثانيهما أن الدعاة إلى الحل والسعاة في الإصلاح حصروا اهتمامهم بالمشكلة الكبيرة الخطيرة التي تخيّم على الغوطة بظلالها الكئيبة في هذه الأيام، أما أنا فإنني على يقين أن حل هذه المشكلة دون حل جذورها الحقيقية سيُنتج غيرَها من المشكلات الجِسام في قادم الأيام، ولن نزال ننتقل من مشكلة كبيرة إلى مشكلة أكبر حتى يتفجّر بركانُ الغوطة المكتوم لا سمح الله، أو نستبق الكارثةَ ونعالج الأسباب والجذور، وهو ما تجتهد هذه المقالة في تحقيقه بأمر الله.
-1-
في الغوطة عدة فصائل، أكبرها وأقواها هو جيش الإسلام، وهو خط الدفاع الأول والأهم في مواجهة عصابتَي النظام وداعش اللتين تتربصان بالغوطة وتسعيان إلى اقتحامها والسيطرة عليها. هذا يعني أن بقاء جيش الإسلام قوياً متماسكاً واجبٌ على أصحاب الجيش وعلى قُوى الغوطة العسكرية والشعبية الأخرى، وهو أمر يُقِرّ به أهل الغوطة وتتفق عليه فصائلها المختلفة، فما سمعت قَطّ -على كثرة ما وقع بين الجيش وغيره من مشكلات- مَن يجيز إضعافه أو يدعو إلى إسقاطه، معاذ الله.
نعم، إن المحافظة على قوة وتماسك جيش الإسلام أمرٌ يريده ويحرص عليه الجميع، لكنْ هل يسوّغ هذا الهدفُ النبيل التغاضي والسكوتَ عن التجاوزات التي تصدر عن بعض أجهزة الجيش ومنتسبيه في بعض الأحيان؟ لا، فإن السكوت يفاقم المشكلة ويزيد الشقاق بين إخْوة السلاح، وهو يدفع الغوطة إلى الانفجار ويعرّضها إلى مهلكة محتومة لا قدّر الله.
-2-
لقد بات معروفاً أنّ تنظيمَ القاعدة بفروعه كلها مصدرُ خطر كامن على الثورة وأن له مشروعاً غير مشروعها، ورأينا الدليل على ذلك في جبهة النصرة التي عانت منها فصائلُ الشمال الكثيرَ وذاقت على يديها المُرّ المرير، فهل سيختلف الحال في الغوطة عنه في غيرها؟
لا، ليس بين نصرة الشمال ونصرة الغوطة فرق إلا في القوة، فإذا تمكنت بغَتْ وباتت فصائلُ الغوطة ضحيةً لها، فلا يصحّ التحالف معها ولا يجوز أن يساهم أي فصيل من فصائل الغوطة في زيادة قوتها ونفوذها، إلا إذا كان أعمى أصمّ لم يسمع ولم يبصر ما صنعته النصرة في الشمال، ولا يتعلم إلا عندما يدفع الثمن من كيسه ونفسه. ومن صنع ذلك لن يضر نفسه فحسب، بل سيضر الغوطة كلها ويقذف بها إلى المجهول، فصار منعُ هذا الخطأ ودرء الخطر مهمة عامة ينبغي أن يتداعي إليها ويقوم بها أهلُ الغوطة وعقلاؤها أجمعون.
-3-
هل تجهل فصائل الغوطة خطر التفرق وضرر التحالف مع النصرة؟ لا، بل هي بصيرة بالأمرين معاً وهي حريصة على تجنب الخطر ودفع الضرر، فما الذي دفع بعض الفصائل في بعض الأوقات إلى الدخول مع جبهة النصرة في تحالفات دائمة أو مؤقتة وإلى الاصطفاف معها مقابل جيش الإسلام؟ هل النصرة أقرب إليها من الجيش؟ لا، بل هو أقرب والعملُ معه أوجب، وليست الفصائل خائنة ولا حمقاء، فلا بد إذن من سببٍ وجيهٍ دفعها إلى ما آلت إليه.
إنّ معرفة هذا السبب أصلٌ في الحل الجذري، وتجاهله لا يصنع سوى خياطة الجرح على القيح ودفع المشكلة إلى الأمام، بل إنه قد يتسبب في عودتها بعد حين بأسوأ وأخطر مما هي عليه الآن. فلنبحث عن هذا السبب، ولنجتهد في علاجه قبل أن نَغرق في مفردات القضايا وفي التفاصيل والجزئيات.
-4-
إن الكيانَ الكبير الذي يعمل العمل الكثير أكثرُ عرضةً للخطأ من الكيان الضئيل ذي العمل الصغير. هذه قاعدة عامة، وجيش الإسلام كيان كبير يتحمل حملاً ثقيلاً في الغوطة، فلن يكون مستغرَباً أن يرتكب أخطاء وتصدر عنه تجاوزات بين آن وآن، ولكن سيكون مستغرَباً ومستنكَراً أن لا يعالج أخطاءه ولا يحاسب المتجاوزين، وأن يصرّ على عدم ابتكار آليات للمحاسبة والتصحيح.
إن الجيش ليس مُلك نفسه، بل هو ملك للغوطة والثورة، وله على الغوطة حق كبير، وللغوطة عليه أيضاً حق كبير. إن من حقه على الغوطة العرفان والتقدير لدوره الكبير، ومن حق الغوطة عليه ومن حق الثورة، بل ومن حق آلاف المجاهدين الصادقين الذين التحقوا به وقاتلوا تحت رايته، أن يقوّم أخطاءه وينقّي صفه من الشوائب، وأن لا يُضيّع جهد وجهاد خمسة عشر ألف مجاهد بسبب تجاوزات بعض العناصر والمسؤولين.
-5-
منذ وقت طويل تتوارد الشكاوى من تجاوزات ومظالم الجهاز الأمني لجيش الإسلام، ومن ثلاثةٍ من مسؤوليه على التخصيص. لو كانت تلك الشكاوى قليلة لما بالى بها محبّو الجيش ولَعَدّوها في الشكاوى الكيدية، ولكنها بلغت مبلغاً لا يجوز الاستهانة به ولا السكوت عنه، فالناس شهود الله في الأرض، وأنا نفسي تابعت ذات يوم وتوثقت من تجاوزات خطيرة لا يجوز السكوت عنها، فثَمّ خاطبتُ الإخوة في الجيش عبر القنوات الخاصة، ثم نشرت في نقد الجهاز الأمني نشراً عاماً، ولا تزال التجاوزات قائمة كما كانت، ولا حل لها -كما قلت ذات يوم- إلا بإصلاح الجهاز وإعادة هيكلته على أساس صحيح.
إن الثورة أكبر من الفصائل والفصائل أكبر من الأفراد، فماذا يمنع قيادةَ جيش الإسلام من التحقيق والمحاسبة وفصل المسيئين؟ من ثبت عليه ارتكابُ مظالم وجنايات فليُطرَح في "سجن الباطون" ليتجرّع من الكأس التي جرّعها للناس، ولن ينهار جيش الإسلام الذي بقي صامداً بعد استشهاد قائده المؤسس رحمه الله لو فقد بعض قادته الأمنيين.
-6-
رغم الضرر الذي نتج عن التجاوزات الأمنية ورغم إساءتها الهائلة إلى سمعة جيش الإسلام والتسبب في تردّي شعبيته في الغوطة خلال السنة الأخيرة، إلا أنها ليست السببَ الوحيد الذي دفع بعض الفصائل إلى البحث عن حليف وإلى الارتماء المحرَّم في حضن جبهة النصرة. لقد كان السبب الأقوى هو نزعة إلى التغلّب ظهرت على جيش الإسلام الذي نحبه ونعيذه بالله أن يُصاب بعدوى التغلب القاعدية.
هذه النزعة -مع ما يرافقها من روح استعلائية إقصائية- تسببت في نفور كثير من الفعاليات المدنية في الغوطة من الجيش وباعدت الشقّة بينه وبين بقية الفصائل. وقد نصح الناصحون وألحّوا على الجيش كثيراً أن يتعامل مع الآخرين تعامل الأخ الكبير الذي يتسع صدره لإخوته الصغار ويترفق بهم ويلين لهم، ولكن هذه الدعوات لم تلقَ استجابة حقيقية حتى الآن، فما تزال الشكوى عامة -بين فصائل الغوطة العسكرية وفعالياتها المدنية- من تسلط الجيش واستعلائه عليها في كثير من الأحيان.
-7-
يتمتع جيش الإسلام بدرجة عالية من التنظيم والكفاءة والاحترافية، وقد كان يسعه أن يحتوي غالبية القوى المدنية والعسكرية في الغوطة بالرفق واللين وخفض الجناح، ولكنه -للأسف- صنع العكس، فقد مارس على القُوى الثورية والعسكرية في الغوطة ضغطاً شديداً لوقت طويل، ولعله مارس أيضاً -سواء بوعي أو دون وعي-بعض الاستعلاء والإقصاء والتهميش.
هذا كله تسبب في حالة استقطاب حادّة سيطرت على الغوطة وكان الجيش هو محورها، فاختارت أطرافٌ (أفراد ومؤسسات) الانحيازَ مع الجيش واختارت أطرافٌ الانحيازَ ضده، وفي الحالتين كان الانحياز ردّ فعل عشوائياً وسلوكاً ضاراً بكل الأطراف، وضاراً بالغوطة كلها في المحصلة. الطرف الوحيد الذي استفاد من تلك الحالة هو جبهة النصرة، فهي تتغذى على التناقضات والخلافات وتستمد قوّتها من ضعف الآخرين، وخيرُ طريقة لتحقيق تلك الغاية هي شغل الأطراف كلها وضرب بعضها ببعض، لذلك نقول إن كل طرف يساهم في تعطيل الحل وفي تغذية الخلافات وزيادة حالة الاستقطاب الحادة هو عدو للثورة وعدو للغوطة وشريك للغلاة.
-8-
أخيراً ارتكب جيش الإسلام القويّ الكبير في الغوطة الخطأ القاتل ذاتَه الذي ارتكبته كل الفصائل الكبيرة القوية في الثورة السورية، حينما دفعتها قوتها العسكرية إلى مصادرة الإرادة الشعبية وتعطيل الإدارة المدنية وتسييس القضاء أو تهميشه. هذا الخطأ الهائل ارتكبته عدة فصائل قوية في الشمال المحرر، وارتكبه في الغوطة جيشُ الإسلام.
وهكذا فقدت الغوطة كل صمامات الأمان التي كان ينبغي أن تحميها من الوقوع في الكارثة، وعلى رأسها "مجلس القضاء الموحد" الذي نزع الجيشُ سلطتَه وهيبته عندما منح نفسَه حق الملاحقة والاعتقال والحبس والتحقيق خارج القضاء، و"الهيئة العامة للغوطة" التي كانت أفضل مشروع للإدارة المدنية على مستوى المناطق المحررة في سوريا، لكن جيش الإسلام حاربها وعطلها وفرّغها من مضمونها، فقضى على حلم الغوطة الجميل وعلى أرشد نموذج للإدارة المدنية في سوريا الجديدة.
* * *
المقدمات السابقة تساعدنا على تفكيك المشكلة المزمنة في الغوطة إلى عناصرها الأوّلية، وعلى فهم جذور تلك المشكلة قبل الانتقال إلى حلها الذي ستقترحه الحلقةُ الثانية من هذه المقالة إن شاء الله.
الزلزال السوري
أحمد أبازيد
عمار النوري
أبو بصير الطرطوسي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة