..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

السوريون بين أسدين وهدنتين

إبراهيم الجبين

٢ مارس ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3806

السوريون بين أسدين وهدنتين
1327663187.jpg

شـــــارك المادة

لم تكن تجربته الأولى في التعامل مع حالة “الهدنة”. حين وافق بشار الأسد على تطبيقها في الحرب الدائرة في سوريا. فقد سبقه إليها والده حافظ الأسد. حينها أشرف عليها اللاعبون ذاتهم. وربما لاعب وحيد وأساسي يقف في الخلفية لكنه مستمر في ممارسة تأثيره على مجريات الأمور.

لا يفهم العقل السياسي لنظام الأسد “الهدنة” بالطريقة ذاتها التي يفهمها بها العالم. شأنها في ذلك شأن مفاهيم أخرى يتعامل معها وفق مصالحه، مثل “المقاومة” و”الممانعة” و”حماية الأقليات” و”الحرب على الإرهاب” وخرافة “الحاضنة الشعبية للإرهاب”.

الشهر الماضي شباط ـ فبراير زار موسكو الشخص الأكثر إدهاشاً للرئيس بوتين. ومن يعتبره مثاله الأعلى في عالم السياسة. وقد أصغى إليه بوتين قبل أن يقتنع بفكرة الهدنة التي سيعرضه كيري على لافروف. وربما كان لافروف هو من عرضها على كيري وليس العكس.

ضيف الكرملين الذي وصفه بالصديق القديم، بعد أن التقاه سابقاً  في جلسات خاصة أكثر من عشر مرات في أوقات مختلفة، كان الدبلوماسي الأميركي الشهير هنري كيسنجر. الذي يتدخل في شأن حرب تدور على الأراضي السورية للمرة الثانية في التاريخ المعاصر. فكما هو معروف، فإن كيسنجر كان قد قام بجولاته قبل اثنين وأربعين عاماً بعد شهور قليلة من اندلاع حرب العام 1973. ليرسّخ وقفاً لإطلاق النار ما بين السوريين والمصريين من جهة والإسرائيليين من جهة أخرى. لا يشبه شيئاً مثلما يشبه وقف إطلاق النار الحالي الذي تحاول ترسيخه روسيا والولايات المتحدة اليوم.

اتفاقية “فصل القوات” في ربيع العام 1974، يقول كيسنجر إن والد بشار الأسد كان قد رفض التوقيع عليها قبل أن “يحصل على متر مربع من مدينة القنيطرة يرفع فيه العلم السوري، لإقناع السوريين بأن أكثر من ثلاثة آلاف عسكري سقطوا في الحرب لم يسقطوا سدى”.

كان الجيش الإسرائيلي قد شن هجوماً معاكساً استطاع بفضله استرداد ما تم تحريره في بدايات الحرب. احتل القنيطرة واستولى على أراض جديدة، لم تكن محتلة من قبل أن يقرر الأسد والسادات إعلان حرب التحرير.

أصبح الجيش العبري على بعد أمتار من دمشق. وأعلنت إسرائيل تهديداتها بأنها قد تحتل دمشق. بعد أن تمكنت من عزل جنوب سوريا درعا والسويداء عن العاصمة السورية.

وكما يحدث اليوم. فقد ساعد الروس حافظ الأسد حينها. بتزويده بمنظومة بطاريات كفادرات. تحسباً لتقدم القوات الإسرائيلية برياً وجوياً. أعلن حافظ الأسد لقادة جيشه حينها، إنه يجب تجهيز سبع فرق مدرعة لشن الهجوم المضاد في فجر يوم 23 تشرين الأول ـ أكتوبر من العام 1973. لكن هذا لم يحدث. فتحولت الحرب إلى مناوشات متبادلة على الأرض، مقابل تحركات دبلوماسية على أعلى مستوى قادها هنري كيسنجر.

قدّم كيسنجر لحافظ الأسد حينها انتصاره المشهدي الذي طلبه. ليرفع العلم في يوم 26 من حزيران يونيو في القنيطرة. مقابل عقد اتفاقية “هدنة” ستغيّر شكل سوريا وشكل الشرق الأوسط والعلاقات الإقليمية والدولية فيه ومعها مصائر الشعوب. وُقّعت الاتفاقية في 31 أيار ـ مايو من العام 1974. وكتب كيسنجر في مذكراته “إن السعودية ومصر مارستا ضغوطا على الولايات المتحدة حتى توقف الحرب”.

استعمل كيسنجر حينها أندريه غروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفييتي للتأكيد على مطلبه بإعلان الهدنة.  وهو ما ورد في البيان المشترك السوري ـ السوفياتي الذي صدر بعيد زيارة غروميكو إلى دمشق في السادس من أيار من العام 1974 و جاء فيه أن “فصل القوات في الجولان جزء من القضية العامة لمسألة تحقيق تسوية الشرق الأوسط”.

اتفاقية الهدنة وفصل القوات نصت على انسحاب إسرائيل إلى الوراء بعيداً عن دمشق، مع احتفاظها بالجولان. وإخلاء مدينة القنيطرة، وأرض مساحتها 60 كيلومترا مربعا من حولها، وإقامة حزام أمني منزوع السلاح تماما على طول الحدود، عرضه يبدأ بعشرات قليلة من الأمتار في النوب، جنوبا، ويتسع ليصبح بعرض 6 كيلومترات في القنيطرة ثم يصبح عرضه 10 كيلومترات في جبل الشيخ.

الاتفاقية التي وافق عليها حافظ الأسد ألزمت سوريا بعدم  إدخال صواريخ «سام» المضادة للطائرات في الأرض السورية حتى عمق 25 كيلومترا. وتضمنت “بندين شفهيين”، كما تذكر الوثائق الإسرائيلية، قدمهما كل طرف إلى كيسنجر؛ في الأول تعهدت إسرائيل بأن لا تعترض على عودة السوريين المهجرين خلال الحرب من منطقة الحزام. وفي الثاني تعهد حافظ الأسد بأن لا يسمح بالقيام بعمليات مقاومة من الأراضي السورية ضد المناطق التي ظلت تحت سيطرة إسرائيل.

اليوم يعود نهج كيسنجر مع كيسنجر شخصياً. في استعمال الروس للقيام بالمهمة. ففي مقاله في صحيفة ناشيونال إنترست في الرابع من الشهر الماضي شباط ـ فبراير، وصف كيسنجر المستوى الحرج الذي وصلت إليه العلاقات الروسية الأميركية، وحالة انعدام الثقة، والندية التي أعادت مناخ الحرب الباردة. داعياً لتشكيل منظومة عالمية “جديدة” متعددة الأقطاب، تراعي التوازنات الجديدة، ما من شأنه إنهاء الاضطرابات والتوترات الحالية.

قال كسينجر إن روسيا“عنصر رئيسي في أي توازن عالمي جديد”. على النقيض مما يشاع من أنها الخطر الرئيسي والمطلق الذي يهدد الولايات المتحدة، وعبّر عن قناعته بأن التنسيق بين موسكو وواشنطن كفيل بإيجاد حلول سياسية لما سمّاها بالأزمة السورية. بعد فشل الأطراف المحلية والإقليمية.

وحتى تاريخ إعلان الهدنة قبل أيام، في الحرب الدائرة ما بين جيش بشار الأسد والميليشيات الإيرانية والشيعية العراقية واللبنانية والأفغانية الداعمة له، والقصف الروسي العنيف من جهة، وبين فصائل المعارضة السورية من جهة أخرى. كان بشار الأسد قد استنزف كل الأوراق التي لعب بها والده حافظ الأسد من قبل. ولم يتبق سوى “الهدنة” التي أراد لها الأسد الأب بوحي من كيسنجر أن تكون اتفاقية ليس لوقف العمليات العسكرية وحسب. ولكن لترسيخ نظام حكمه في سوريا باتفاق أكبر من اتفاق سلام مع القوة الأخطر في المنطقة، ذات النفود العالمي الواسع “إسرائيل”. ورغم كل ما كاله حافظ الأسد من اتهامات وتخوين لكل من حاول عقد اتفاق سلام مع إسرائيل من العرب. بدءاً من السادات ومروراً بالملك حسين واللبنانيين وغيرهم، فإن التاريخ يذكر جيداً أن حافظ الأسد هو أول من وقع اتفاقية لترسيم حدوده وحفظ أمن إسرائيل صريحة وواضحة وبضمانات دولية وبرعاية أميركية روسية. وهي ما أتاحت له أن يصف الحالة التي أبقى السوريين فيها طيلة سنوات حكمه الثلاثين بحالة “اللاسلم واللاحرب”. وبالطبع كان هدفاها الأساسيان؛ الاستمرار في الحكم وأمن إسرائيل.

كان الأسد الأب يتعامل مع عدو واضح. بينما ابنه بشار يشن الحرب على الشعب في المحافظات السورية المختلفة، في حرب يستحيل عليه إقناع العالم بشرعيتها وإن حاول جاهدا تلبيسها بلباس الإرهاب وخلطها مع ملف داعش. كان حافظ الأسد أقوى من ابنه فمن خلفه كان الدعم العربي ممثلاً بالسعودية الدولة المحورية في المنطقة. بينما يخسر الأسد الابن هذا الحليف اليوم. فالرياض لم تتخل عنه فقط، بل هي تقود التحالف العربي الإسلامي الدولي الذي يعمل على الإطاحة بنظام حكمه. ولم يتبق لديه سوى الإيرانيين الذي بدأوا يسحبون قوات حرسهم الثوري من أراضيها بسبب الضغط الروسي عليهم وحرصهم على ألا يتعرض اتفاقهم النووي مع الغرب إلى هزات يتراجع معها إلى الخلف.

باستعمال ورقة الهدنة. يرمي كيسنجر وبوتين والأسد الابن بآخر أوراقهم. ولكن من قال إن ثعلب الدبلوماسية الأميركية لا يخطئ في الحساب؟

واليوم لا تبدو تركيبة نظام الأسد والعلاقات المافيوية التي شكلها ومعها إيران وخطابها، أكثر شباباً من هنري كيسنجر. بل هي صورته وصورة شيخوخة السياسة القديمة. التي لا تستثني كيري وما تريد الولايات المتحدة فعله حيال مفاجأة الربيع العربي، حين تعتقد أنها بإمكانها إعادة التاريخ إلى الوراء إلى زمن الوكلاء الكبار والشعوب المجمّدة في ثلاجة التاريخ.

 

 

كلنا شركاء

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع