مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 4273
شـــــارك المادة
-1-
لم يكفِ ثورتَنا اليتيمة ما لقيَته من ظلم وهوان وهجران من الناس جميعاً، فعانت -فوق ذلك كله- من ظلم طائفة من أبنائها، عَقّوها وظلموا عَلَمها فقاطعوه وطرحوه، بل إن منهم من دعسه بحذائه أو أضرم فيه النار.
نشأ هذا الموقف السلبي المحزن من مغالطتين كبيرتين، شرعية وتاريخية، فقد اعتمد خصوم راية الثورة وعلم الاستقلال على مقدّمة شرعية موغلة في الخطأ فوصلوا إلى نتيجة بعيدة عن الصواب، وراجت بينهم معلوماتٌ تاريخية مضلّلة زادتهم من علم ثورتهم نفوراً. فهذه دعوة أوجهها لهؤلاء الناس، وهم أفاضلُ كرامٌ منّا ومن ثورتنا، لكي يقرؤوا المناقشة التاريخية والشرعية لتلك الافتراءات، حتى لا يكونوا شركاء في الظلم والعقوق.
-2-
روّج بعض المتحمسين -جهلاً أو علماً، بحسن نيّة أو بسوئها- أن علَم الاستقلال الأخضر هو علم الانتداب الفرنسي. ولمّا كان الانتداب كريهاً فإنّ عَلَمه لا بد أن يكون كريهاً مثله، وما دمنا حرباً على الاستعمار والانتداب وكل صور الاحتلال المباشر وغير المباشر لبلدان المسلمين فإننا -قطعاً- حربٌ على كل عَلَم من أعلام المحتلّين والمستعمرين.
إذا كان هذا العلَمُ هو علَمَ الانتداب حقيقةً فسوف أكون أول المطالبين بإسقاطه وسأدعو إلى تمزيقه وتحريقه أنّى وُجد، ولكنْ دعونا نتقصَّ المسألة بمنهجية دقيقة قبل المجازفة بالحكم العشوائي: متى وُلد هذا العلم؟ وماذا كانت أعلام سوريا قبل ولادته؟ للجواب عن هذه الأسئلة نحتاج إلى استعراض بعض الأحداث المهمة في تاريخ سوريا المعاصر، فهلمّوا بنا نستعرض معاً هذه الأحداث.
-3-
كان من الثمرات المريرة للحرب العالمية الأولى سقوط الدولة العثمانية وتمزقها واحتلالها، فدخلت الجيوش البريطانية والفرنسية والأمريكية والإيطالية واليونانية إلى الأناضول، وفُرضت على السلطان محمد وحيد الدين "معاهدة سيفر" التي تخلّت الدولةُ العثمانية بموجبها عن جميع أملاكها الخارجية، بما فيها بلاد الشام. على الأثر اجتمع "المؤتمر السوري العام" في دمشق في الثامن من آذار عام 1920 وأعلن استقلال سوريا بحدودها الطبيعية (بما فيها لبنان والأردن وفلسطين) وإنشاء حكومة مسؤولة أمام المؤتمر وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على البلاد.
في ذلك اليوم طُوي علم الدولة العثمانية، العلم الأحمر الذي يتوسطه هلال أبيض ونجمة بيضاء (وما يزال هو نفسُه علمَ الدولة التركية إلى اليوم) ونُشر محلّه عَلَم المملكة السورية، وهو شبيه بعلم الأردن الحالي، إلا أن الشريطين الأخضر والأبيض فيه معكوسان.
-4-
بعد ستة أسابيع اجتمع الحلفاء المنتصرون في سان ريمو ورفضوا الإعلان السوري، وأصدروا قرار الانتداب الذي وضع سوريا الشمالية تحت الوصاية الفرنسية وسوريا الجنوبية مع العراق تحت الوصاية الإنكليزية، وكان ذلك الإعلان هو التطبيق العملي لاتفاقية سايكس بيكو السيئة الذكر التي اتفق فيها وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا، جورج بيكو ومارك سايكس، على اقتسام تركة الدولة العثمانية بينهما وتنفيذ وعد بلفور بتقديم فلسطين لليهود.
بعد ذلك وجّهت فرنسا إنذارها الشهير إلى الحكومة السورية التي كان رئيسها هاشم الأتاسي ووزير دفاعها يوسف العظمة، وكان من شروط الإنذار تسريح الجيش وتسليم البلاد للفرنسيين. قَبِل الأمير فيصل الإنذار وحلّ الجيش، لكن الحكومة السورية رفضته، ومن ثَمّ كانت المواجهة بين جيشين غير متكافئين في ميسلون في ذلك اليوم الحزين، الرابع والعشرين من تموز سنة 1920: جيش سوري عدّته ثلاثة آلاف من المتطوعين لا سلاحَ في أيديهم سوى البنادق، بل إن بعضهم قد خرج بعصاه فحسب! وجيش فرنسي عدته اثنا عشر ألفاً من الجنود المحترفين معه المدافع والدبابات والطيارات.
استمرت المعركة عدة ساعات، واستُشهد يوسف العظمة ومئات من رفاقه، وهُزم الجيش، ودخل غورو دمشق، وفرّ فيصل إلى فلسطين ثم إلى أوربا، وسقطت سوريا في يد الفرنسيين.
سقطت سوريا وسقطت المملكة السورية فسقط علمُها ولمّا يخفقْ في سماء سوريا غيرَ أربعة أشهر، وحل محله علمُ الانتداب الذي كان مستطيلاً أزرق تتوسطه دائرة بيضاء وفي زاويته العليا اليسرى علم فرنسا الثلاثي الألوان، واستمر لسنتين، ثم استُبدل به علمٌ أخضر يتوسطه شريط أبيض مع بقاء العلم الفرنسي المصغّر في زاويته العليا اليسرى، واستمر هذا العلم عشرَ سنين.
-5-
في عام 1925 تفجرت الثورة السورية الكبرى التي انتشرت في طول البلاد وعرضها وغطّت سوريا كلها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، واستمرت لمدة سنتين، وعلى إثرها رضخت فرنسا لمطالب السوريين، فأجريت سنة 1928 انتخابات شارك فيها سكان البلاد وانتخبوا جمعية تأسيسية برئاسة هاشم الأتاسي، ثم كلفت الجمعيةُ التأسيسية إبراهيم هنانو بتأليف لجنة لتصميم العلَم وكتابة الدستور، فوضعت اللجنة دستوراً جديداً للبلاد وقدمت تصميماً للعلم السوري، وهو العلم الأخضر الذي صار علمَ سوريا بعد الاستقلال ثم صار أخيراً علمَ الثورة السورية المباركة.
لقد وُلد هذا العلم مع الدستور الجديد رغم أنف الفرنسيين، وكان نصراً استحقّه السوريون بدمائهم وتضحياتهم التي قدموها في الثورة السورية الكبرى ولم يكن منّة من الفرنسيين ولا هدية منهم، ويكفي لإثبات نظافة وشرف هذا العلم أن يكون إبراهيم هنانو هو رئيس اللجنة التي قامت بتصميمه. هل تعرفون هذا الرجل وهل تعرفون سيرته وجهاده؟
-6-
كان إبراهيم هنانو واحداً من كبار المجاهدين في التاريخ السوري الحديث. وُلد ونشأ في كفرتخاريم في إدلب ودرس الحقوق في إسطنبول، ولمّا احتل الفرنسيون سوريا سنة 1919 كان رئيس ديوان ولاية حلب، فجمع أعيان حلب وإدلب واللاذقية والحفة وأنطاكية وجبل الزاوية وأعلن الثورة على الفرنسيين، وشكّل جيشاً من المجاهدين المتطوعين وألّف حكومة وطنية شمال سوريا استمرت عشرين شهراً، خاض خلالها سبعاً وعشرين معركة مع الفرنسيين ظفر فيها جميعاً، واتسع نفوذه ولُقّب باسم "المتوكل على الله". ثم اعتقله الإنكليز في فلسطين وسلّموه للفرنسيين الذين حاكموه محاكمة شغلت سوريا شهوراً وانتهت باعتبار ثورته "سياسية مشروعة"، وأُطلق سراحه فانصرف إلى العمل السياسي، واجتمعت عليه سوريا كلها إلى أن توفي في حلب بداء السل سنة 1935، قبل الجلاء بإحدى عشرة سنة.
إن إبراهيم هنانو مجاهد حر شريف، من أشرف وأصدق قادة الجهاد في سوريا في عهد الاستعمار الفرنسي، وهو الذي رأس لجنة تصميم العلم وصياغة الدستور في ظل جمعية تأسيسية منتخَبة استحقها السوريون بثورتهم وجهادهم بلا فضل ولا منّة من دولة الانتداب، فكيف يُقال -بعد ذلك كله- أنه علم الانتداب؟
بل إن من المعروف والثابت تاريخياً أن الفرنسيين غدروا ونكثوا بعهدهم فعطّلوا الجمعية في السنة التالية ورفضوا توصياتها، فثار السوريون عام 1930 وغطّت المظاهراتُ الصاخبة غالبيةَ المدن السورية، فرضخت فرنسا مرة ثانية وسعت إلى تسوية مع القوى الوطنية، فوافقت على الدستور وعلى العلم الجديد، فرُفع للمرة الأولى في سماء سوريا في الثاني عشر من حزيران سنة 1932، ثم أصبح هو العلم الرسمي بعد الاستقلال، إلى أن أُعلنت الوحدة مع مصر سنة 1958 فاستُبدِل به العلم الأحمر ذو النجمتين، فلمّا تم الانفصال عام 1961 أعاد ضباط الانفصال الوطنيون علم الاستقلال الأخضر، ولكنه لم يعش طويلاً، فما لبث البعثيون أن قاموا بانقلابهم المشؤوم، فسلبوا السوريين حريتهم وكرامتهم وحرموا سوريا من استقلالها ومن علَم الاستقلال.
-الخلاصة-
إنّ علمَ الاستقلال الذي اعتمدته الثورةُ السورية المباركة علماً لها هو إنتاجٌ سوري وطني خالص، لا علاقةَ لسلطة الانتداب الفرنسية به من قريب ولا بعيد، بل إن تلك السلطة قاومته وأعاقت رفعه في سماء سوريا لمدة أربع سنين بعدما قامت بتصميمه المعارضةُ السوريةُ الوطنيةُ بقيادة المجاهد الكبير إبراهيم هنانو.
أما الإشاعة التي انتشرت أخيراً وتزعم أن نجمات العلم الثلاث ترمز للدويلات السنية والعلوية والنصيرية فإنها كذبة من أقبح وأسخف الكذبات، وقد بذلتُ جهدي في تتبّعها فوجدت أنها وُلدت في صفحات تشبيحية موالية للنظام ثم تلقفتها حسابات داعشية فروّجتها على أنها حقيقة. والحقيقة أن اللون الأخضر في العلم يرمز للعصر الإسلامي الأول، والأبيض للعهد الأموي، والأسود للعباسي، وترمز النجوم الحمراء للتضحية ودماء الشهداء.
هذا هو التفسير الذي قدمته اللجنة التي صمّمت العلم، وهو التفسير الحقيقي لشكل العلم وألوانه، أما ربطه بالدويلات الطائفية فإنه خيالات خبيثة روجّتها طوائف من المرضى والخونة والعملاء لتدفعنا إلى التخلي عن الراية التي سوّدت أيامهم وأقضّت مضاجعهم، وأفضلُ ردّ عليهم هو رفعها في كل محفل واعتمادها من قِبَل فصائل الثورة كلها، ولو كره الكارهون.
الزلزال السوري
رضوان الأخرس
محمد بسام يوسف
أحمد موفق زيدان
حسان الحموي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة