..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

من مآسي الافتراق على الأمة

رابطة خطباء الشام

٢٤ ديسمبر ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7979

من مآسي الافتراق على الأمة
(1).jpg

شـــــارك المادة

مقدمة:

إن قضية الافتراق قضية مزعجة مؤرقة، مؤلمة مقلقة، وذلك لأنها تفصم العروة الوثقى، وتهدم الآمال العظمى، وتبعد النصر وتزيد القهر.
تقرؤون في هذه المادة بعض الوقائع التي ابتلينا فيها بالافتراق وترتب على إثرها مآسٍ محزنة، فلعل سوق تلك الأحداث يوقظ الضمائر، ويهزُّ المشاعر، ويلهبُ النفوس، ويشدُّ العزائم حتى نخرج من هذا التيه، ونفارق هذا الطريق المعوجّ، ولعله أن يهتدي بها أولو الألباب، ويرتدع بها سالكو هذه المسالك الصعاب.

1- اختلف الصحابة وتنوعت أفهامهم، وما تفرَّقت منهم القلوب:

لقد اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم في المسائل الفقهية والخلافات الفرعية المذهبية، ولكن لم يتركوا الوئام، وتنوعت أفهامهم وفتاواهم وما تفرقت منهم القلوب وما مسهم من الخلاف سقام، وكان كلٌ من كبارهم يمثل اتجاهاً في الاستنباط والتفكير تحوَّل فيما بعد إلى مدرسة لها أتباع وتنظير، فابن عباس له اتجاه، وابن عمر له مسلك آخر، وابن مسعود له طريق ثالثة، وغيرهم رضي الله عنهم سلك مسالك أخرى، ولم يعب واحد منهم الآخر، ورضي كلٌ بما قُسِمَ له من الفهم والاستنباط، وهذا هو المسلك الحميد والرأي السديد، لأنهم يعلمون أنهم يرجعون إلى أصل واحد، ويستمسكون بعروة وثيقة.

بل إن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في بعض مسائل العقيدة، مع بقاء الجماعة والألفة: "كسماع الميت صوت الحيّ، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربَّه قبل الموت"
والمسائل الفقهية التي اختلفوا فيها منها ما يكون أحد القولين فيها خطأ قطعاً، ومنها ما يكون فيه المصيبُ واحدٌ عند الجمهور، والآخرُ مؤَدٍّ لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، بل ويكون فيه مأجوراً.
ومع هذا ما عاب بعضهم على بعض، وما استبعده ولا أقصاه، وإنما قدَّموا النصح في جوٍّ من الألفة ليحافظوا على الاجتماع.
هكذا كان سلف الأمة، وهكذا كان كثيرٌ ممن تبعهم بإحسان كالإمام الشافعي رحمه الله.
فعن يونس الصدفي، قال: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة".

2- بعض مآسي الافتراق بين أهل السنة أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم:

أما النوع الأول - بين أهل السنة أنفسهم - فينقسم إلى افتراق عقدي، وافتراق مذهبيٍّ فقهيٍّ، وافتراقٍ سياسي، وهذا الافتراق هو الأقسى والأقوى أثراً، وهو الأنكى في الأمة؛ وذلك أن أهل السنة كان ينبغي لهم أن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، فلما حصلت هذه الفرقة أدت إلى تمزق في الصف، وانقسام في الجبهة الواحدة، وتجرأ عليهم غيرُهم من أعدائِهم وخصومِهم وضعفت الأمة تبعاً لذلك.

و أكبر مثالٍ على هذا ما حصل في أفغانستان بين الأحزاب المختلفة بعد سقوط كابول ودخول المجاهدين، وكانت الدولة الإسلامية قاب قوسين أو أدنى منهم، ولكنهم ضيعوها بسبب ما حدث بينهم من نزاع خطير أدى إلى قيام حرب حقيقية بينهم، والتراشق بآلاف الصواريخ، ومقتل آلاف الناس، كل ذلك بسبب السعي إلى الزعامة والتفرد، والمطامع الدنيوية، وهذا هو الذي أضاع المشروع الإسلامي الذي كان ينتظره مئات الملايين من المسلمين، وضحوا في سبيله بالغالي والنفيس على مدار اثنتي عشرة سنة أو أكثر من عمر الجهاد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما يحصل اليوم في سوريا من اختلاف وافتراق بين الجماعات المسلمة أكبر دليلٍ على هذا، والعجيب الغريب أن كلَّ هذه الجماعات ما قامت إلا لنصرة الإسلام!
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وبلاد الشرق: من أسباب تسليط اللهِ التترَ عليها كثرةُ التفرقِ والفتن بينهم في المذاهب وغيرها.. "
إن دائرة الإسلام واسعة، ولئن اختلفنا مع بعض الجماعات في شيء عقدي أو سياسي فما الضيرُ في ذلك ما دامت تلك الجماعة في دائرة الإسلام والذي يجمعنا معها أكثر مما يفرقنا؟!
ووالله لو اجتمعت جهود تلك الجماعات على اختلاف مدارسها ومشاربها وصبت في اتجاه واحد وهو نصرة دين الله ونصرة المستضعفين لصار للمسلمين اليوم كيانٌ ودولة ولتغير وجهُ التاريخ في العصر الحديث.
وحسبَ الغالب من سنة التاريخ، فإن الأمة تنشغلُ بالخلافات بينها في أزمنة الاسترخاء والترف الفكري، وتضمُرُ هذه الظاهرة حين تواجه الأمة خطراً محدقاً وعدواً متربصاً،
فما بالنا اليوم والعدو قد أحاط بنا من كلِّ جانب، بل وانتهك حُرَمنا وأرضنا وإسلامنا، ورمانا الناس عن قوسٍ واحدةٍ، حتى كاد العدو أن يفنيَنا، والفرقة كلَّ يوم تزداد والهوَّةُ تتعمق!!
اجتمع عدونا علينا رغم اختلاف مِلَلِهِ ونِحَلِهِ ورغم اختلاف مصالحه، ونحن تفرقنا وديننا واحد وربنا واحد وقضيتنا واحدة،
ليس المهم يا أيها الناس.. يا أيها القادة.. يا أيتها الفصائل.. ليس المهم من يُظهِرُ الحقَّ، ولكنَّ المهم والمهم أن يظهرَ الحقُّ.
(طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ..)
"إن الأمة حين تقعُ في الغفلة فلا تبالي بالأخطار المحدقة بها، يسلطُ الله عليها أعداءها، إلى أن تستوعب الدرس وتشتغل بالمهمات، وتحرص على وحدة الصف الداخلي في مواجهة عدوٍّ مخالفٍ في أصل الملة - يا عباد الله -وليس مخالف في مسائل او اجتهادات يسوغ فيها الاختلاف!!
وإن العاقلَ الحصيفَ، الفقيهَ بموازنة المصالح والمفاسد تذوبُ في نظره الخلافات الصغيرة أمام طامةٍ كبيرة، فلا يستجيب لمن يريد أن يجعل من هذه الخلافات سبباً في تفريق الأمة، بل يذكِّرُ وينصح ويعظ ويدعو ويحاجج في جوٍّ من الألفة والإنصاف، لا بأسلوب البغي والاستعداء.."
وفي إثر الخلاف العقدي الذي حصل في عصر الإمام الذهبي يذكر رحمه الله نصاً ثميناً ما أحوجنا إليه اليوم، ويبين فيه أثار الافتراق السيئة كما يذكر العلاج الناجح الواجب:
"ينبغي للمسلم أن يستعيذ من الفتن، ولا يَشْغب بذكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيت الحركة في ذلك تحصِّلُ خيراً، بل تثيرُ شراً وعداوةً ومقتاً للصلحاء والعباد من الفريقين، فتمسَّك بالسنة، والزم الصمت، ولا تخض فيما لا يعنيك، وما أشكل عليك فردَّه إلى الله ورسوله، وقف وقل: الله ورسوله أعلم"
أما النوع الثاني من الافتراق الذي هو بين أهل السنة وغيرهم من الطوائف فكثيرٌ جداً، ونكتفي بذكر نوع واحدٍ منه، وهو الخلاف بين أهل السنة والخوارج:
وهو خلاف حادٌّ وصعبٌ، أدى إلى نتائج وخيمة على أمة الإسلام كلِّها، ومن تلك المآسي:
سفك الدماء المعصومة على وجه غريب لا يراعون فيه حرمة ولا سابقة لأحد، فقد قتل على أيديهم عشرات الآلاف من المسلمين منهم سادة كرماء نجباء مثل الخليفة الراشد عثمان والخليفة الراشد علي رضي الله عنهم.
ومن تلك المآسي تكفير المسلمين بل وتكفير علماءهم وساداتهم، واشتد غلو بعض فرقهم إلى أن قالوا باستباحة قتل نساء مخالفيهم وقتل أطفالهم.
ومن تلك المآسي أيضاً: إثارة الفتن وإيقاف مد الفتوحات، ولولا الفتن التي أثاروها لوصل الإسلام إلى كلِّ أجزاء المعمورة، لكنَّ عليا رضي الله عنه وخلفاء بني أمية شغلوا بتوجيه مئات الآلاف من الجنود إلى الخوارج، كما هو اليوم فقد قعدنا عن جهاد عدونا الأول وصرفنا جلَّ قوتنا في قتال أولئك الغلاة الذين أفسدوا الجهاد وشغلوا الساحة واستعْدَوا علينا الشرق والغرب.. والله المستعان..
يقول أحد السلف:"لما قُتلَ عثمان ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزوٌ حتى اجتمعوا على معاوية فأغزاهم مرات".
ولا زال للخوارج اليوم ذيولٌ يتبنون بعض أقوالهم وفعالهم، بل وفاقوهم في الإجرام بحق الإسلام والمسلمين، وجرَّ ذلك فتناً صعبة وآثاراً وخيمة لا طاقة للمسلمين اليوم بها، ومنها:
تدخل الدول الصليبية ودول الكفر في شئون المسلمين، وبروز طابور خامس في الأمة ينادي بتجفيف منابع الغلو والتطرف، وهي كلمة حق أريد بها باطل، حيث يريدون من وراء ذلك وأد الصحوة الإسلامية والحيلولة بين الدعاة وقيادة الشباب، وإزهاق أرواح، وإتلاف أموال ضخمة كان من المفترض أن توجه لنصرة المستضعفين، ناهيك عن تشويه صورة الإسلام والصدِّ عنه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

3- سقوط الأندلس جرحٌ لم يندمل:

وهو بسبب ما كان من استئثار بعض الحكام بجهته أو مدينته، ورضاه بها عن الاجتماع الإسلامي، والأدهى من ذلك والأمرّ أن صار بعض الحكام يكيد للآخر، ويرضى أن يخدش دينه بمعاونة الكافرين على أخيه المسلم.

اجتاحت النصارى بلاد الأندلس بلداً بلداً، والأمثلة على المآسي المترتبة على ما حصل من فرقة أكثر من أن تحصر، لكن اسمحوا لي بإيراد بعض الأمثلة التي تؤذي القلوب وتُهْمي العيون، لكن لا بد حتى تُعرف المأساة المترتبة على الافتراق من ضياع الأوطان، بل الدين والعياذ بالله:
"وبعد سقوط بَرْيَشْتَر قُدِّرَ عددُ الأسرى والقتلى ما بين خمسين إلى مائة ألف شخص، "وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، وخصَّ قائدُ خيل رومة بعضَ مقدمي العدو نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أحمال الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل، واقتسم الفرنجةُ الناسَ وأخذَ كلُ واحد منهم داراً بمن فيها من أهلها، وكان الفرنج ــ لعنهم الله تعالى ــ يفتضون البكر بحضرة أبيها، والثيب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في الأسيرات الخدم أو ذات المهنة أعطاهن خدمه وغلمانه يعيثون فيهن عَيْثة، ولما عزم ملك الروم على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار، والثيِّبات ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان، ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من هم فوقه"
وأورد ابن حيان ــ رحمه الله تعالى ــ قصة تبكي القارئ وتذهل العاقل، وحاصلها أن تاجراً من تجار اليهود جاء بَرْيَشْتَر يفتدي لنفسه بعض بنات ذوي الوجوه من المسلمين، وكن تلك البنات قد وقعن في سهم رجل من النصارى يعرفه ذلك اليهودي، قال اليهودي: "فهُديت إلى منزله فيها، واستأذنت عليه فوجدته جالساً مكان رب الدار، مستوياً على فراشه، رافلاً في نفيس ثيابه، وخدمه مضمومات الشعور، قائمات على رأسه، ساعيات في خدمته، فرحب بي وسألني عن قصدي.. فأشرت إلى وفور ما أبذله من مالٍ في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي، فتبسم وقال بلسانه: ما أسرع ما طمعت فيما عرضناه لك، أعرض عمن هنا وتعرَّض لمن شئت ممن صَيَّرْتُهُ لحصني من سبيٍ وأسارى أُقَارِبْك فيمن شئت منهم.
فقلت له: إني أنستُ في قربك، واطمأننت في كنفك، فسُمْني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك.
فقال: وما عندك؟ قلت: العِيْنُ الكثيرُ الطيب، والبَزّ الرفيع الغريب،
فقال: يا مَجّة، - ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد "يا بهجة" فغيَّره بعجمته -، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه وأقبلت بِبَدَرِ الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلي، فكُشِفَ وجُعِلَ بين يدي العلج حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبُهِتُّ، واسترذلتُ ما عندي.
ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذُّ به، ثم حلف بإلـهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا المال والحليّ ثم بُذِلَ له بمثله في ثمن تلك الفتاة ما سخت بها يداه، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي، وأزيدك بأن تلك الفتاة الشابة الناعمة ــ وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى ــ مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته إلى أن أيقظناه من نوماته، يافلانة -يناديها بلكنته- خذي عودك فغني زائرنا بشجوك.
قال: فأَخَذَتِ العودَ، وقعدت تسويه وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسارقَ العلجُ مَسْحَهُ، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلاً عن العلج، فصار من الغريب أن أظهر الطرب منه، فلما يئست مما عنده قمت منطلقاً عنه، وارتدت لتجارتي، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به."
وكفى بهذه القصة دليلاً على ما أصاب المسلمين من الذل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ياراكبين عِتَاقَ الخيل ضامــــــرة *** كأنها في مجال السبق عِقْبَان
وحاملين سيوف الهند مرهفــــــة  ***  كأنها في ظلام النقع نيـــران
وراتعين وراء البحر في دَعَـــــة  ***  لهم بأوطانهم عز وسلـــــطان
أعندكم نبأٌ من أهـــــــل أنــــــدل  ***  فقد سرى بحديث القوم رُكبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم  ***  قتلى وأسرى فما يهتز إنســان
لماذا التقاطع في الإســـــلام بينكم  ***  وأنتمُ يا عبــــــــاد الله إخــوان
ألا نفوسٌ أبيّـــــــــات لها همـــــمٌ   ***  أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قـــــوم بعــد عـــــــزه  ***  أحالَ حالهمُ كفرٌ وطـــــــــغيان
بالأمس كانوا ملوكاً في منـــازلهم  *** واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليـــل لـــهم  ***  عليهم من ثيـــــــاب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيـــــــــعهم   ***  لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رُبَّ أمٍ وطفلٍ حِــــــيلَ بينــهما  ***  كمــــــا تُفَرَّقُ أرواحٌ وأبـــــدان
وطَفْلة مثل حسن الشمس إذ طلعت  ***  كأنما هي ياقوت ومرجــــــــــان
يقودُها العلجُ للمـــــكروه مـــكرهة  ***  والعين باكية والقلب حيــــــــران
لمثل هذا يذوب القــلب من كمــــد  ***  إن كان في القلب إسلام وإيمـــان

وبعد سقوط غرناطة رُفِعَ الصليب فوق قصر الحمراء، وتقدَّمَ ملك غرناطة أبو عبد الله ممتطياً جواده وتهيَّأ للنزول من على جواده ليقدم التحية للملك النصراني، ولكن الملك النصراني أومأ إليه أن لا يفعل شفقةً عليه، فنزل أبو عبد الله وقبَّلَ ذراع الملك النصراني وقدَّمَ إليه مفاتيح القصر، وهذا الذل الذي قبل به أبو عبد الله الصغير كان رجاء أن يوفي النصارى بوعودهم للمسلمين بالحفاظ على شعائر الإسلام وحرية التدين، فماذا حدث بعد هذه الذلة وهذا التنازل للنصارى؟
لقد نُكِثَت الوعود وأُحرِقَ ما يقارب مليون كتاب مخطوط من كتبُ المسلمين لإزهاق الحضارة الإسلامية، ومُنِعَ المسلمون من أداء شعائر الإسلام، ومُنِعَ التسمي بأسماء عربية، ومُنِعَ الختانُ، ومُنِعَ التحدث بالعربية، إلخ..
"ثم بعد ذلك دعاهم ملك غرناطة النصراني إلى التنصير، وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينه كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبقَ من يقول فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله جهراً إلا من يقولها في قلبه أو خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد أن كان الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية، وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين، ومن قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً مدراراً، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويأكلون الخنزير، ويشربون الخمر، فلا يقدرون على منعهم.. ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب، فيالها من فجيعة ما أمرَّها، ومصيبة ما أعظمها".
فيا قادتنا الأبرار، ويا مجاهدينا الأبطال، هل من معتبر؟
السعيد من اتعظّ بغيره لا من وُعِظَ به غيرُه..
إن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا.. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصف 4
فرصوا صفوفكم، وتنازلوا عن بعض حقوقكم في سبيل حقِّ الإسلام الأكبر.. إن الله سائلُكم عما وكَّلكم واستخلفكم فيه (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) محمد 38

4- علماءٌ ربانيون شخَّصوا الداء وعرفوا الدواء:

يقول ابن القيم رحمه الله: "وقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروري لا بد منه، لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغيُ بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجهٍ لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكلُّ المتحزبين كان قصدُهُ طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمرٌ لابد منه في النشأة الإنسانية" ولو راعت الجماعات المجاهدة اليوم ما ذكره الإمام لما اختلفوا هذا الاختلاف المهلك.
إن الجماعات المسلمة اليوم صارت واقعاً لا يمكن تجاهله او إلغاؤه، وكل جماعة لها وسائلها وغاياتها ومناهجها، والمطلوب إزاءها هو جمعها في جهة واحدة، ولا بأس أن يكون لكل منها خصوصيتها التي تحافظ عليها، ورص صفوفها وتوجيه جهودها إلى هدف سام واحد، والابتعاد عن الحزبية التي تضر وتفرق، ولا بأس بالحزبية بمعنى المحافظة على الخصوصية والمبادئ التي تراها كلُّ جماعة نافعة لها بدون تنازع ولا خلاف مُضِرٍّ، وإلى أتباع تلك الجماعات: ألا فتعلقوا بالله وحده وبمبادئ الإسلام ولا تتعلقوا بالشخصيات أو الجماعة مهما بلغت منزلتها، فإن هذا التعلق يقدح في مبدأ الولاء والبراء إذا تجاوز الحدّ أو صار تعصباً وانصرافاً عن الحق، أما التعلق في حدود المشروع الذي لا يصل إلى التقديس فلا بأس به بل هو من جملة الوفاء ومراعاة الذمم،
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبا فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان."
فالله الله في الإسلام أيها المسلمون..
الله الله في نصرة المستضعفين..
الله الله في الدماء التي تسيل..
اللهم اكشف الغمة، ونفس الكربة، وهيء لنا من أمرنا رشداً.

-------------------------------------
1 - ابن تيمية - الفتاوى 19 / 123
2 - نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء 2/846
3 - الفتاوى 22/ 254
4 - البخاري / 2886
5 - فقه الائتلاف / 7- 8
6 - نزهة الفضلاء 4/ 1538
7 - نزهة الفضلاء 1/354
8 - من مآسي الافتراق نقلاً عن نفح الطيب ص 40
9 - من مآسي الافتراق نقلاً عن نفح الطيب ص 42
10 - من مآسي الافتراق نقلاً عن: الأندلسيون وهجرتهم إلى المغرب ص 44
11 - الصواعق المرسلة 2/ 519
12 - الفتاوى 11/ 92

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع