..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

موازين الصراع في الجولة الثورية القادمة

جهاد صقر

٣٠ نوفمبر ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6630

موازين الصراع في الجولة الثورية القادمة
صقر00.jpg

شـــــارك المادة

لم يدر في خلد فتية درعا وشباب القاهرة وشبيبة تونس يوم خرجوا كاسرين قيود عقود من الوهن أن شعارهم الخالد "الشعب يريد إسقاط النظام" يتجاوز نظام الأسد وبن علي ومبارك إلى النظام العالمي القديم منه والجديد.

وما مشهد حشود أساطيل الطائرات والسفن والناقلات ورائحة البارود ودوي القنابل والصواريخ برا وبحرا وجوا إلا مجرد شواهد على أن هذا النظام العالمي قائم في بلادنا، شاء من شاء وأبى من أبى رغم أنف كل من يحاول الاقتراب من الخطوط المحرمة.

وهي خطوط أقدم من مرحلة تقسيمات سايكس-بيكو مع نهاية الدولة العثمانية بكثير، إذ تستمد وجودها عبر قرون من الإرث الاستعماري ذاته، فمن حروب صليبية إلى غزوات استعمارية تلت سقوط الأندلس فضمت حملات إسبانية وبرتغالية وهولندية وفرنسية وبريطانية وروسية وسيطرة أميركية وإيرانية، بما يرتبط بها من اتفاقات حماية ومعاهدات -بأغلظ الأيمان- عسكرية واقتصادية وتجارية وثقافية، وما ترتب عليها من قواعد عسكرية ومناطق نفوذ وتقاسم ثروات محلية لحساب القوى والمصالح والشركات متعددة الجنسيات، وكلها بالطبع أجنبية.

إذن، هي مؤثرات خارجية أسدلت تأثيرها على إنسان المشرق العربي ومغربه لتطول كل شيء من تكوينه إلى اختياراته، انتهاء بالربيع العربي الثائر على مخلفات ذلك الإرث الاستعماري من واقع تمثله أنظمة تدور في فلك الاستعمار عمليا لا تفارقه قيد أنملة.

على صعيد حرية الاختيار شعبيا، نجد أن من بين أبرز ما استوعبه الشعب العربي عقب جولتين من جولات الربيع العربي (جولته الأولى نصف ثورة شعبية والثانية ثورة مضادة دموية) أمرين: الأول أن ديمقراطية الصندوق الحقيقية -لا الزائفة- مخرجها الوحيد استرداد الشعب قراره وسيادته الوطنية؛ وهو ما لن تتنازل عنهما -طوعا- منظومة القوى والمصالح الدولية التي يخضع لنفوذها الكثير من العرب حكاما ونخبة.

والثاني أن الديمقراطية بلا قوة وإرادة وطنية تحميها لا قيمة لها، وهو ما لم يتحقق عندما ظن ثوار ميادين تونس والقاهرة ودمشق أن شعارات الحرية والديمقراطية المرفوعة تضمن اصطفاف العالم "الحر" لجانبه، كما كانت الحال في الثورات البرتقالية والمخملية بدول أوروبا الشرقية، وهو ما لم يتحقق لسبب بسيط أدركه الجميع لاحقا، وهو أن من ناصر الثورات الملونة كانت له فيها مصلحة، أما ثورات الربيع العربي فيراها تهديدا للمصلحة، فوقف منها موقف النصير للثورة المضادة.

بين المغرب والمشرق:
على صعيد الفهم، نجد ثوار الربيع العربي ونخبه أدركوا -بعد وقت قصير وعبر تسلسل الأحداث- قواعد لعبة مصالح القوى الكبرى في ما يتعلق بثوراتهم. وإن تساوى الجميع في الفهم كجزء من معركة الوعي، نجد الاختلاف -بين الثوار والمتطلعين للتغيير- في كيفية التعاطي مع الواقع الجديد.

وهنا يبرز الاختلاف بين مدرستي الربيع العربي المغربية والمشرقية؛ إذ امتصت الأولى بنسختيها المغربية والتونسية صدمة الثورة المضادة بسلاسة، ملقية الكرة مبكرا في ملعب الأخيرة أن تعالوا نتفق على قواعد جديدة للعبة الجديدة قوامها المشاركة لا المغالبة بين مكونات الحلبة، وهلم نتفق على أُطر الشرعية من دستور جديد كأساس لبناء للدولة مقدم على المحاصصة الحزبية الضيقة.

وعلى النقيض نجد التجربة المشرقية تؤثر مبدأ المغالبة والإقصاء المتبادل بين من هتفوا بالأمس معا في ميدان واحد "الشعب يريد إسقاط النظام"، بكل ما يترتب على ذلك الإقصاء من عدم مراوحة الثورة مربعها الصفري، لا الأول.

وبالطبع لا نبرئ هنا كل من انقلب على الشرعية أو ركب قطار الثورة أو تحالف مع قوى الثورة المضادة أو نكص عن مبادئه أمام إغراء "الرز" والدور الموعود في مرحلة لاحقة؛ بل نقول إن إخفاق فريقي الثورة المضادة والنخب التي لم توفق في طرح نفسها بديلا مؤهلا لتنزيل الشعار أرض الواقع، هو جزء من عملية تصحيح ذاتي لمسار الثورة وتطهير لجسمها من معوقات تحملها بداخلها، ليكتسب شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" أبعادا أعمق تشمل إسقاط ما ورثه الثوار من عوامل الوهن على مدى أجيال من عبودية جبلتها كلمة "أنا".

تحديات الجولة الجديدة:
على ضوء التوحد الجلي لقوى الثورة المضادة، سواء عرابو الخارج أو وكلاء الداخل، في مشروع استئصالي واضح المعالم، يقابله تشرذم فصائل الثوار بلا مشروع جامع أو خارطة طريق واضحة المعالم، تبدو استفادة جناح الربيع العربي الشرقي من تجربة جناحه المغاربي أمرا منطقيا، وإن تجاوزت الأحداث النقطة التي يسهل عندها تصويب البوصلة غربا.

ليس المطلوب هنا استنساخ تجربة وتنزيلها بغير موضعها، بل استلهام عوامل قوتها على صعيدي النهج والعبرة، وبمعنى أدق تقديم مصلحة الأوطان على مصالح الذوات، ومصلحة الكل على مصالح الأجزاء، دون تخل عن مصطلحي الشرعية أو الحقوق الإنسانية.

ينطبق ذلك أيضا على حراك اصطفاف قوى الثورة المصرية على قاعدة الشرعية، أو التقاء أوعية الثورة السورية -ولاحقا العراقية بعد استعادة مكوناتها الثورية- على إطار جامع يضع في مقدمة القطار قاطرة الشرعية.

ليس المقام هنا مقام ترديد شعارات، بل تمثلها مقصدا وممارسات، فرب رافع شعار كتحكيم شرع الله يسبقه -بمراحل على طريق القسط والعدل- من يطبق الشعار واقعا بلا ضجيج ولا لافتات ضخمة أو عناوين رنانة، لأن العبرة صحة الهدف وسلامة القصد ونجاعة الوسيلة.

وحتى الرسول المصطفى -عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم- ألم يراعِ ظروف المرحلة؟ ترى هل شهدناه في عهد الدعوة المكي رافعا شعار تحكيم الشريعة أم أنه كان عاملا بها لا يألو جهدا في بناء الإنسان ركيزة لبناء مجتمع العدل فيما بعد؟

جولتان من ربيع العرب كانتا كافيتين لسقوط الكثير من الشعارات والرموز والمقامات والأوهام بعدما أيقن القوم أن أكثر من يرفع الشعار يحيد عنه -ومقصده- عند التطبيق. من أراد أن يخدم الناس فليقترب من واقعهم وليشعر بمعاناتهم وهمومهم وتطلعاتهم ثم ليتفضل بعدها لخدمتهم بلا جعجعة أو اشتراطات، وإنما ببرامج تطبيق ذات سقف معقول يناسب واقع المرحلة.

وعلى وقع الصدمات بات أهل الربيع على وعي بأن ما فسد على مدى قرن كامل لن يصلحه عام واحد، وأن تفاني من توكل له مهمة علاج همومها سيقابله كيد دول عميقة بالجملة، لا دولة عميقة واحدة.

لن يطالبك الناس بغزو الفضاء، ولا أن تنقلهم لمصاف الدول العظمى، بل تتلخص مطالبهم بالحد الأدنى لتحقيق الكرامة والمعاش في مرحلة أولى، وخدمتهم على قاعدة "المؤمن كيس فطن"، لأن مكان نية من أراد الصلاة هو القلب، وما قيامه وركوعه وسجوده سوى مصداق لخشوعه وتسليم جوارحه، لا يعلم بعدها أقُبِلت صلاته أم لم تقبل. وكذا كشف حساب العمل العام -ومن ضمنه مؤسسة الحكم- في نهاية الخدمة؛ فإما أن يمنحك الناس أصواتهم لفترة جديدة، أو يعاقبوك بمنحها لآخر.

دروس من الأتراك:
ثوار الشرق مدعوون، بجانب الاستفادة من تجربة إخوتهم المغاربية، للاستفادة من تجربة الجار التركي على مرمى حجر، وهي التجربة التي كشفت الكثير من عوار أنظمة المنطقة، ومعها عوار جل رافعي لواء الثورة على تلك الأنظمة.

مختصر التجربة التركية الحديثة "قليلُ كلامٍ وكثيرُ فعالٍ" بلا متاجرة بقضايا الناس وهمومهم، وفي النهاية أفلح القوم معا بإسقاط نظام دولي بامتياز وإقامة ما يناسبهم مكانه، تاركين لغيرهم الاختيار ما بين إعجاب ونباح. من يرفع لواء الحرب المقدسة -كبوتين- يهاجمهم متهما إياهم "بالأسلمة"، وبينما يتهمهم صهاينة العرب بالعلمنة، يتهمهم دواعش العرب والفرس والشرق والغرب بالكفر والرّدة عن الشريعة أيا كانت الشريعة!

ما ينبغي تعلمه هنا أن شعار القوم بالتركية لم يجاوز كلمتين: أولاهما "عدالة" وثانيتهما "تنمية". وهل يختلف اثنان على أن إقامة العدل في الأرض وتنمية الإنسان بعد تحريره ومنحه حرية الاختيار -قبل السهر على خدمته- مبادئ عالمية تطابق جوهر الشرائع كافة، أثنى خلالها الهدي النبوي على ملك -يكتم معتقده ويسوس الناس بعدله- كالنجاشي؟

آن لثوار الشرق الالتفات نحو المشترك لا المفرق، والتركيز على عام المبدأ لا جزئي التفاصيل مما يُترك لمرحلة لاحقة، وآن لهم طرح العناوين الكبيرة جانبا، اتباعا لمنهج التدرج بما تطيقه المجتمعات بدلا من التوقف عند جزئية من يتقدم الآخر؛ العربة أم الحصان؟ وآن للجميع أن يؤمنوا أن الثورة ماضية بهم أو بغيرهم، وأن الوحدة قضية مصيرية تصنعها إرادات محلية لا قوى خارجية.

كما آن لكل من يرفع شعار نصرة البلد أن يعي أن العون لا يعني أداء فروض الطاعة لك من أهل ذلك البلد؛ فالحل ما يراه الأهل لا ضيوف البلد ولا أولياء نعمتها.

وأخيرا آن للجميع أن يدركوا أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" لا يعني استبدال طاغية بطاغية أيا كانت خلفيته وأيديولوجيته، فتلك مرحلة تجاوزتها شعوب الربيع العربي على أعتاب جولة جديدة لن تخذلهم إن تمت الاستفادة من دروس الطريق الصعب نحو الكرامة والحرية.

 

 

الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع