..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

المغيَّبون وراء القضبان: ماذا يصنعون في هذا الحر الشديد؟

مجاهد مأمون ديرانية

١١ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2746

المغيَّبون وراء القضبان: ماذا يصنعون في هذا الحر الشديد؟
مامون +00.jpg

شـــــارك المادة

-1-

مشكلة هذا الرجل أنه يقرأ كثيراً، وقد جمع في مكتبته رفَّين كاملَين من كتب "أدب السجون" -التي تروي قصص وذكريات الحبس والتعذيب- وقرأها كلها، أكثرُها من مصر عبد الناصر وقليلٌ منها من مغرب الحسن وعراق صدّام، حتى صار يُغمض عينيه ويسرح في عالم الخيال فيرى حياة كاملة في الحُبوس والمعتقلات، ويحسّ بما فيها من معاناة وكربات وعذابات، ويتصوّر ما يختلج في نفوس المحبوسين من مشاعر وما يدور في أذهانهم من أفكار.

-2-

وقعَتْ في يده ذات يوم روايةٌ صغيرة اسمها "الورطة". كانت النافذةَ الأولى التي أطلّ منها على عالم "تدمر" الرهيب. كانت نافذةً ضيّقة، ولكنّ ما رآه من خلالها كان أكثرَ ممّا تُطيق نفسُه المرهَفة، فبقي أسابيعَ لا يَسوغ لقمةً من طعام ولا يستغرق ساعةً في منام، حتى أرغم نفسَه على نسيان تلك الصورة المرعبة لأنها -كما أوحى لنفسه- خيالاتُ أديبٍ فنّان. ثم التقى بعد سنوات بالأستاذ شريف الراس فسأله: هل كانت تلك رواية حقيقية؟ قال: إنّ شخصيات الرواية متخيَّلة، ولكني لم أستخرج أحداثها وتفاصيلها من عالم العدم، بل جمعتها من شهادات حقيقية حصلتُ عليها من شهود كانوا في ذلك الجحيم. ردَّ صاحبُنا على مؤلف الرواية بأسى: ليتك قلت إنها محضُ خيالات! ثم تجدّدَ حزنُه فبقي زماناً آخَرَ لا يهنأ بطعام أو منام.

-3-

ثم انفتحت نافذةٌ أعرض على ذلك العالم الرهيب؛ صدرت رواية محمد سليم حمّاد: "تدمر شاهد ومشهود". حرص صاحبنا على تلقي الخبر من مؤلفها الأردني الزرقاوي، الذي قذفته المخابرات السورية على الحدود الأردنية بعدما حبسته أحدَ عشر عاماً في الباستيل الرهيب. لم يهتم بسماع المزيد من الفظائع والأهوال، فالرواية (الشهادة) كانت كافية، لكنه كان مهتماً بمعرفة مصير بعض الأشخاص الذين انقطعت أخبارهم منذ بداية المأساة، وهم ابن عم وابنا خالة كانوا من خيرة شباب الشام. تذكّر محمد سليم ابنَ العم. نعم، إنه يعرفه، كان في مهجع مجاور يُمضي الأيام الثقيلة الطويلة المحمَّلة بالقهر والعذاب. وابنا الخالة؟ قال: رحمهما الله، أُعدما في السنة الأولى بتهمة حمل السلاح. قال صاحبنا: رحمهما الله، ارتاحا من بلاء الدنيا وأقبلا على الرحمن الرحيم.

-4-

لم يكن صاحبُنا قد بَرئ بعدُ من جراح القلب حينما نكأتها الشهادةُ الجديدة: "خمس دقائق وحسب"، التي روت فيها ابنةُ حماة المؤمنةُ الصابرة المحتسبة، هبة الدباغ، قصةَ السنوات التسع التي أمضتها في فروع الأمن وسجون النظام. بعد ذلك بسنوات طويلة قرأ صاحبُنا قصةَ خمس دقائق أخرى، قصة براء السراج القادم أيضاً من حماة. قالوا له كما قالوا لهبة: "نريدك خمس دقائق"، إلا أن دقائقه كانت أطولَ من دقائقها بألف يوم، ولم تكن بين سجنَي قطنا ودوما، بل كان جُلّها في باستيل تدمر الرهيب. وبين هذه الرواية وهذه قرأ صاحبُنا "القوقعة"؛ إحدى عشرة سنة أخرى في الباستيل مقابل طرفة (نكتة) أضحك الرجلُ بها رفاقَه ذات يوم! نكتة من أحد عشر حرفاً، دفع مصطفى خليفة من عمره -مقابلَ كل حرف فيها- سنةً في العذاب.

-5-

الضغط يولّد الانفجار. إن شعباً عاش في مثل هذا الأسْر والقهر لا بد أن ينفجر، وقد انفجر أخيراً في واحدة من أعظم الثورات في التاريخ، للخلاص من واحد من أسوأ أنظمة الحكم في التاريخ.

انفجرت الثورة السورية المباركة، فحاول النظام المجرم وقفَها بالاعتقالات التي بلغت عشرات الآلاف في بضعة أشهر. وما لبثت قصص الاعتقال والتعذيب أن بدأت تخرج شيئاً بعد شيء، فعاهد صاحبُنا نفسَه أن لا يقرأ شيئاً منها. ولماذا يفعل؟ ليزداد كرهاً بهذا النظام المجرم وحقداً عليه؟ لو جُمِعت الكراهية التي نُثِرت في قلوب أهل الأرض ثم وُزنت بما في قلبه من كراهية لنظام الأسد لرجح ما قلبه. ليزداد إصراراً على الثورة؟ لو بقيت في حياته دقيقة لنطق بالشهادتين أولاً ثم استودعَ أهلَ سوريا ثورتَهم وأوصاهم أن يَمضوا فيها إلى لحظة الانتصار، ولو جالدوا هذا النظام المجرم وحلفاءه الأقوياء ألف عام.

نعم، قال صاحبنا لنفسه: لا حاجة لي بقراءة قصص الاعتقال والتعذيب، ولا سيما القصص التي تكون حرائرُ سوريا الصيّنات العفيفات جزءاً منها. لكنّ مشكلة هذا الرجل أنه يقرأ كثيراً، فما لبث أن عاد إلى عادته وراح يقرأ كل ما نشرته الصفحات، فعاد الكابوس ثقيلاً أسوأ من أي وقت كان.

-6-

لو حلف صاحبُنا أنه لا يكاد يمرّ يوم لا يفكر فيه بالمغيَّبين وراء القضبان لما حنث. إذا اشتد حر الصيف تساءل: كيف يعيشون في هذا الحر الخانق بلا نسيم من هواء؟ وإذا اشتد برد الشتاء تساءل: ماذا يصنعون في هذا البرد الشديد بلا وطاء ولا غطاء؟ إذا أصابه الصداع (وما أكثرَ ما يصيبه الصداع) فكر: كيف يصنع المصدوعون هناك بلا دواء؟ فإذا فكر في الصداع فكر في كل داء يَبقى صاحبُه بلا دواء، ثم فكر فيما يصيب الحرائر كل شهر مرة... فإذا وصلت أفكاره إلى الحرائر شهق ووقف عن التفكير، ورفع يديه إلى السماء فنادى: اللهم اكشف هذه الغمّة وارفع هذا البلاء!

-7-

والأطفال؟ كيف يحتمل الأطفال الضعفاء ما يكاد يعجز عن حمله الرجال الأشداء؟ منذ أن نشر صاحبنا ذات يوم في صفحته منشوراً بعنوان "أقمار وراء الشمس" وهو لا يكاد ينسى تلك الوجوهَ البريئةَ في ليلٍ أو نهار، فهي تتراءى له في اليقظة كما تتراءى له في المنام. فإذا عجز عن نسيانها (وأنّى له أن ينسى تلك الزهرات!) راح يفكر: هؤلاء البُنَيّات وصلَنا خبرُهنّ ورأينا صُوَرَهنّ، فماذا عن آلافٍ لم نعرفهم من الأطفال وآلاف؟ واحرّ قلباه ويا دمعَ عيناه على الطفولة البريئة المسفوحة في مذابح الطغاة.

-8-

مهما طال الليل لا بد له من آخر، وإنّ أشد ساعات الليل ظلاماً هُنّ آخرُه. طال ليل الشام وطال حتى بلغ الخمسين وزاد عامَين ونصف عام، فقد أوشك فجر الحرية أن يطلع على الشام عمّا قريب بإذن الله. الفجر طالع حتماً والظلم زائل لا محالة، فاصبروا يا إخْوةَ السجن، اثبُتوا في هذه الساعة الأخيرة، الموعد في الشام المحررة قريبٌ إن شاء الله، ومَن سبقَ فالموعد في جِنان الخُلد بإذن المولى الكريم الرحيم.

عرشُ الطغاة وحكم الظلم منسحقٌ   ***   أبشر أُخَيَّ فإن الله راعينا

أبشر أُخَيَّ سيُمسي السجنُ ملحمةً   ***   مثلَ الأساطير تُروَى عبرَ ماضينا

 

 

الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع