عبيدة عامر
تصدير المادة
المشاهدات : 3537
شـــــارك المادة
إذا كان جورج أورويل يقول إن عليهم “أن يثوروا حتى يعوا، وأن يعوا حتى يثوروا”؛ فإن المجال التداولي اللغوي هو المجال الأكبر للتغيير والتأثير في حالة الثورة والوعي، لا كوسيلة تواصل وتعبير؛ بل كوعاء ثقافي اجتماعي.
وإذا كانت الثورة فعلَ تغييرٍ جذريٍ على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، متجاوزًا للفروقات الفكرية والطبقية؛ فإن اللغة هي الوعاء المشترك -وربما الوحيد- لهذه الفروقات والمتجاوز لها، ومن اللغة ينطلق كل عمل ثوري يتخلى عن المتداول في الأفكار التي أثبتتها السلطة عقودًا، وتثبيت غيرها في الأذهان والواقع.
ولعل الكلمة الوحيدة التي حافظت الثورة السورية على مسافتها ما بين دالها ومدلولها هي كلمة “الثورة” نفسها؛ إذ أتت بمعجم دلالي ثوري جديد، هدم المصطلحات التي شوهّها النظام وأهانها واحتكرها لعقود طويلة وأرجعها لأصلها اللغوي -كالمقاومة والوطن والثورة-، أو نحتت مصطلحاتها الخاصة في الفضاء المعرفي الاجتماعي والتاريخي -كالقاشوش والبخاخ-، أو حوّلت دلالات الكلمات عن المعتاد عليه؛ لتصير الكلمات غطاءً لتحوّلات وتحرّكات أكبر وأضخم، ولعل أبرزها هي كلمة “الجيش” التي أخذت دلالات متعددة بتغير الظروف السياسية والعسكرية التي نشأت بها.
تحمل كلمة “جيش” في الثورة السورية دلالات لأفكار وقضايا أكبر؛ بحسب الجيش الذي يمثل هذه الكلمة، ومن الطريف غياب الدلالة الأصلية للجيش -كبنية عسكرية منظمة تراتبية- في كثير من الحالات التي تُستحضر بها هذه الكلمة.
الجيش الحر:
لعل أول جيوش الثورة السورية، وأول تحويل لمعنى الجيش، كانت في حالة الجيش الحر؛ الذي بدأ كانشقاق لجنود وضباط اختاروا الانحياز إلى الشعب وثورة حريته، وبذلك حصل على كلمة “الحر”، في إشارة إلى المقابل للجيش النظامي الذي لا زال مستعبدًا.
بدأ الجيش الحر من المنشقين للدفاع عن المظاهرات المسلحة، فحملت كلمة “الجيش الحر” هذه الدلالة بداية، وتوسعت الدراسات والتقارير للحديث عن بنية الجيش الحر وأعداد أفراده …إلخ، مع اختلاف ذلك عن بنيته الحقيقية التي ازدادت، في أوقات مبكرة ومع الوقت، بها نسبة المدنيين الذين يحملون السلاح، بالنظر إلى نسبة التدريب العالي للمدنيين في سوريا بسبب التدريب العسكري الإلزامي عند الـ18 عامًا؛ فأخذت كلمة “الجيش الحر” دلالة التسليح مقابل الحالة المدنية.
آخر الدلالات التي حملها الجيش الحر، أو حملتها فكرته -إذ إنه لم يكن يومًا جيشًا بالمعنى النظامي للكلمة ضمن تقسيمات عسكرية تراتبية بنيوية- هي استحضاره للحديث عن التمثيل المسلح للحالة الاجتماعية الثورية، أي إن جنوده هم الشباب الـ”average” -الذين قد يدخنون مثلًا ويستمعون الأغاني وغير ذلك-؛ ولعل ذلك ما يجعله هو الأقرب للشعب وبنيته وتدينه، وعادة ما يكون استحضاره مقابل استحضار الكتائب الإسلامية التي تقاتل ضمن أيديولوجيات وخطابات مختلفة، كما أن الغرب يعتبره أكثر تمثيلًا وشبهًا بـ “المعارضة المعتدلة” التي يسعى لتسليحها وتدريبها.
ومن الجدير بالذكر هنا استحضار كلمة الباحث والكاتب السوري أحمد أبازيد، المتابع والراصد للحالة الثورية والإسلامية بشكلها المسلح؛ إذ يقول: “بعد أربع سنين، ثبت أن الفصائل المسماة الجيش الحر هي الأكثر تورعًا في الدماء، والأقرب إلى الناس، والأكثر حرصًا على مصلحة الثورة، والأقل تخريبًا”.
جيش الفتح:
آخر “جيوش” الثورة تشكلًا وإعلانًا هو جيش الفتح، الذي تشكل مع معركة إدلب قبل شهر تقريبًا، دون أن يتبين تمامًا حتى الآن هل يمثل “جيش الفتح” اسمًا لغرفة العمليات التي خاضت معركة تحرير إدلب، وبعدها “معركة النصر” التي حررت جسر الشغور؛ أم أنه تشكيلٌ عسكريٌ واندماجٌ للفصائل التي شكلته فعليًا، ومن بينها جبهة النصرة وأحرار الشام وفيلق الشام وأجناد الأقصى وفصائل أخرى من “الجيش الحر”، لكن الغالب أنه تمثيل رمزي، أكثر من فكرة الاندماج.
ارتبط جيش الفتح بفكرة التوحد التي غابت طويلًا عن الثورة السورية؛ فأصبح استحضاره تمثيلًا لهذه الفكرة وتمثيلًا لها واستبشارًا بها، خصوصًا مع النتائج العسكرية والاجتماعية الفعلية التي أدت لها هذه النتيجة، وهي تحرير إدلب بعد سنوات من المحاولات، وجسر الشغور التي كان النظام يحتلها، لكنه لا زال “فكرة” كذلك، أكثر مما يمثل جيشًا بالمعنى الفعلي كذلك.
جيش الإسلام:
لعل أقرب مسافة بين دال ومدلول كلمة “الجيش” في الحالة الثورية السورية، هي جيش الإسلام، المتمركز في الغوطة الشرقية، وخصوصًا عاصمتها دوما، الذي أسسه وشكله الشيخ زهران علوش، أحد شيوخ المدينة ووجهائها حتى من قبل الثورة، والذي قيل إنه تلقى دعمًا سعوديًا، خصوصًا مع عمل الشيخ بالسعودية، وتوجهاته السلفية “التقليدية” التي تناسب السعودية.
جيش الإسلام ليس أكبر الفصائل الثورية المسلحة بالعدد، لكنه كذلك بالتسليح من ناحية، والتنظيم، وهو الأهم، من ناحية أخرى؛ إذ إنه ذو بنية عسكرية تنظيمية فعلية بحسب الألوية والفصائل، كما أن بنيته يتضمنها تدريب وتأهيل من الناحيتين المعنوية والنظامية؛ وهذا ما يبرزه آخر المقاطع التي نشرها، وتظهر تدريب وتسليح ما يقارب 1700 عنصر من عناصره.
من الأسباب التي ساهمت بذلك التشكل التدريجي لجيش الإسلام، إذ بدأ فصيلًا صغيرًا في دوما، تحت اسم كتيبة الإسلام، ثم أصبح لواءً، حتى أعلن نفسه جيشًا، كما أن المساحة التي يتمركز بها الجيش -بشكل رئيس- محددة وواضحة ومرتبطة بعناصره ارتباطًا وثيقًا؛ وهي مدينة دوما، التي يرجع إليها أكثر مسلحي الجيش.
وليس الحديث هنا لنقد أو توصيف “جيوش الثورة السورية” كفصائل أو أجسام، وحسب، بل يرجع بالدرجة الرئيسة لمحاولة فهم وتغيير الواقع العسكري الثوري المسلح الذي لم يستطع القيام بالمهمة الصعبة بإنتاج وتشكيل جسم موحّد بعد أربع سنوات من الثورة السورية، مع الحاجة الملحة له.
فإذا كانت جيوش الثورة تمثيلًا لأفكار غيرت الوعي ودخلت إليه؛ فإن نصر الثورة يتطلب جسمًا يجسد ويمثل أفكار التسلح والتوحد والتنظيم، من أفكار، لتكون “الحرية” و”الفتح” وتتحقق مطالب “الإسلام”، وإلا؛ فإنها ستظل أحلامًا، وستظل الجيوش المسماة بها أفكارًا، صحيح أنها لا تموت، لكنها لا تمنع الموت اليومي ولا تحمي منه كما ينبغي لها بمعناها الأصلي أن تكون.
التقرير
أحمد أرسلان
أنور قاسم الخضري
أحمد دعدوش
هاني بن عبد الله آل ملحم
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة