..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

فقه التراكمات

محمد الأمين مقراوي الوغليسي

٢٢ فبراير ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3776

فقه التراكمات
9603.jpg

شـــــارك المادة

قصة الإنسان في هذه الدنيا عبارة عن سلسلة من التراكمات الناتجة عن الحركة المستمرة للحياة، واطراد الأحداث وتجدد الوقائع، فالاستمرارية والحركة سنتان عظيمتان من السنن الكونية، التي تمضي عليها الحياة على هذه البسيطة، وهو ما نبهت عليه الكثير من نصوص الوحيين، التي تعمق في نفس المسلم معانى الاستمرار والحركة، ولعل أبرزها حديث الفسيلة العظيم، الذي يتجاوز بالمسلم أخص ظرف وأخطر مرحلة- نهاية العالم- ليرسخ فيه مبدأ التفاعل مع الحياة، لذلك يعد نصاً محكماً في تعميق معاني الاستمرار والتواصل.

ورغم حيوية وأهمية عنصر التراكمات في حياة الأمم، باعتباره يشمل العنصر الزمني والمكاني والبشري، إلا أن الاهتمام به لم يجد حقه من الرصد والاستقراء والتحليل والاستنتاج، ولعل قلة الدراسات العميقة والأصيلة منذ عصر ابن خلدون إلى يومنا هذا-اللهم إلا صنيع مالك بن نبي رحمه الله- دليل قوي على هذه الملحوظة التي تنبئ عن ضعف الأمة في تجسيد منهج علمي حقيقي، ترصد به حركة كل مرحلة من البداية إلى المصير، بل إن الأمة صارت عاجزة حتى عن تحديد البدايات والنهايات المرتبطة بالمراحل التي تمر بها، وهو إخفاق له ما بعده، من تعارض وتناقض في النظر لكل مرحلة وتجسيد كل مشكلة، وبناء الحلول عليها، وهوما نعيشه واقعاً اليوم.

لماذا فقه التراكمات؟ لأن الحياة مراحل تتوالى، لا قطع منفصلة تسقط مرة واحدة على الناس بين الفترة الزمنية والأخرى، وهذا ما نجده في كل الأمم عند استقراء تاريخها المسطور، ومادامت الحياة عبارة عن مراحل متسلسلة فإن هذا يعني بداهة تأثير كل مرحلة في الأخرى، وهذا ما نغفل عنه بصورة لا يقبلها عقل، ولا يتصورها منطق، حيث ضاعت الأمة بين تراكم التراكمات المهملة، والمرمية في زوايا التهميش والتجاهل، والدليل على ذلك أننا نخرج من مرحلة إلى مرحلة ونحن لم نفقه ما عشناه في الأولى، ولم نحدد مشكلاتها ولا عقباتها ولا تحدياتها، ولا العلاجات التي كان يفترض تقريرها، وندخل الثانية ونحن مثقلون بتراكمات الأولى، مما يجعل تحديد الغايات والأولويات خارجاً عن أيدينا، بل إن التراكمات التي استصحبناها معنا هي التي تحدد غايات وأولويات وتصورات المرحلة الجديدة، مما يورث غبشاً في الرؤية، وغموضا ًفي التصور، وتخبطاً في تحديد الأولويات، والثمن ضياع أجيالنا وضمور حاضرنا وجهل مصيرنا، ولعل تعدد الجواب عن السؤال الذي حارت عقول المثقفين والنخبة في الإجابة عنه برهان ناصع في ذلك، وهوسؤال الأزمة: أي أزمة تعيش الأمة الإسلامية؟ حيث تتعدد الإجابات وتتضارب الرؤى، وتتصادم الاقتراحات وتتنافر المشاريع.

وكان يفترض أن تستقرئ العقول الفذة تراكمات كل مرحلة، ابتداء من مرافقة أحداثها إلى رصد صيرورتها، انتهاء لتقرير المشكلات وتجسيد الحلول، وإقصاء السلبيات واستصحاب الإيجابيات إلى ساحة المرحلة الجديدة.

الإسلام وفقه التراكمات وإن المرء ليتعجب من غياب هذا الفقه الثقيل العميق، رغم وجود عشرات النصوص من الكتاب والسنة والتي تدل على أهميته كفقه ركين لفهم صيرورة الحياة وسننها، والمطلع على تراث الخلفاء الراشدين وخاصة عمر رضي الله عنه، يجد أن ممارساتهم تحمل في طياتها ركائز هذا الفقه المؤصل في نصوص الوحيين، وسنضرب لذلك نماذج للتأصيل والتوضيح: فقد عبرت الكثير من نصوص القرآن على أهمية التراكمات في التحكم في الواقع والمستقبل والمصير، ومن أهم النصوص التي تناولت عنصر التراكمات كمؤثر فاعل في حياة الأمم القصص التي تتحدث عن بني اسرائيل، كيف كانوا وكيف تراكمت جناياتهم حتى أوصلتهم للضياع، وإلى التيه في الأرض عقوداً طويلة، وما حكاية القرآن عن المشكلات والآفات التي جاء يعالجها كل نبي في قومه إلا تأصيل لهذا الفقه المكين، فتراكمات الجريمة الاقتصادية في قوم شعيب عليه السلام جعلت العلاج النبوي لها في ترسيخ قيم التعاملات الشرعية السليمة من الخبث والغش، وتراكمات الجريمة الأخلاقية في قوم لوط جعلت دعوة لوط عليه السلام أخلاقية بالدرجة الأولى، وتراكمات عقدة العلو والاستعلاء في ثمود، جعلت دعوة صالح عليه السلام تركز على ضعف المخلوق أمام جبروت الجبار، تنبه على خطر الاغترار بالقوة، وتدعو لنبذ الكبر الذي جعلهم يتباهون بتحدي الخالق، وإرجاع الإنسان إلى حقيقته، وهي أنه عبد ضعيف أمام قوة الخالق العظيم.

كما يتحدث القرآن عن سبب الجمود الفكري، وموت المنطق، ويربطه بالتقليد الأعمى الذي تراكم في العقل الجمعي السلبي للكفار (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم لمقتدون)، ولا يتوقف القرآن هنا في توصيف التراكمات تلك، بل يحدد العلاج انطلاقاً منها، فيستعمل الحجاج العقلي والحوار المنطقي لتفكيكها وهدمها، تمهيداً لإحلال مفاهيم الحق مكانها (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) دعوة للتحرر من التقليد ومن ربقة عقيدة الآباء، نحو رحابة الفكر والتأمل والسؤال.

إن نصوصاً من أمثلة (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلقَ ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) وقوله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) كلها تأصيل لوجود تراكمات يجب على الإنسان دراستها، وهذه الآية ومثيلاتها تحمل تنبيهات هامة، على أن نفس التراكمات تعطي نفس النتائج، مما يجعل مؤشرات الصلاح والفساد والنجاة والهلاك واضحة جداً في الخطاب القرآني على ضوء فقه التراكمات.

ولو جئنا للسنة واستقرأناها، لوجدنا أمثلة كثيرة على فقه التراكمات المركوز فيها، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) رواه ابن ماجه في سننه، إنه حديث عظيم، يؤصل لهذا المنهج السديد، ويدعو لرصد التراكمات في الأمة وفقهها، وإرسال أي إنذار أوخطة عمل إصلاحية بناء عليها.

والناظر في عصر الخلفاء الراشدين يجد أن فقه التراكمات كان له حضور قوي في فتاويهم وسياساتهم، ولاشك أن أبرز فترة تجسد فيها هذا الفقه هي مرحلة العهد العمري، لما عرف عن الفاروق عمر رضي الله عنه من فقه سديد وسياسة محكمة، فها هو يجعل الطلاق الثلاث في المجلس الواحد طلاقاً بائنا بينونة كبرى، حماية للأسر من التفكك، بعد تراكم تساهل الناس في الطلاق، وها هو يجعل حداً ثابتاً لشارب الخمر بعد أن كثر شربه في عهده، حفاظاً على طهر المجتمع، بل إن عمر رضي الله عنه لا يقف عند اطراد الوقائع في الحاضر، بل يستشرف المستقبل وتراكماته، فيمنع انتشار الزواج بالكتابيات خشية الجوسسة وعنوسة المسلمات، مما يخلق بعد ذلك واقعاً يصعب مجابهته، ويستشرف توالي وتكاشف المستجدات والنوازل، فيمنع خروج الصحابة رضوان الله عليهم، في حركة فقهية استباقية بارعة تضمن له وجود أكبر مجمع فقهي قادر على تحريك دواليب الحياة والحفاظ على استقرارها الديني والدنيوي.

بل يتضح فقه عمر رضي الله عنه في فهم التراكمات أكثر فأكثر في قضية منعه سهم المؤلفة قلوبهم عن سيد غطفان، بناء على ما تراكم عنده من فهم عميق لمقاصد الإسلام، حيث ربط ذلك بفقهين تراكميين هما فقه الضعف وفقه القوة، اللذين يحددان ميزة كل مرحلة، فتراكم عناصر القوة لها فقهها الخاص، وتراكم عناصر الضعف في الأمة تجعل الفقيه يتجنب الفتوى انطلاقاً مما تقرر في مرحلة القوة، وفقه عمري لامع استمده من فقهه للمرحلة المكية والمرحلة المدنية، باعتبارهما محلا هذين الفقهين. وهذا الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله يرد على ابنه الذي طالبه بتطبيق الشريعة تطبيقاً كاملاً، بفقه التراكمات حيث يقول له مجيباً (يا بني لو حملتهم على الحق جملة لخرجوا منه جملة) ولاشك أن هذا الفقه الراشد نتاج فقه لما تراكم عنده من علم وخبرات وسياسة سابقة.

فقه التركات وفقه التراكمات: إن الراصد للحركة الفقهية والفكرية والسلوكية لأمتنا، يجد أن تعاملها مع الوقائع الحادثة، والنوازل الخطيرة، لا يخرج عن تعامل الفقيه مع تركة ميت يستعجل ورثته نصيبهم منها، فبدل استقراء الماضي ورصد الحاضر ودراسته، ثم تحديد مشكلاته ومعضلاته، نجدها تتعامل معه بصورة رياضية جافة، فتقدم إجابات سريعة تتسم بالسطحية، والبعد عن المنهجية العلمية التي قررها علماء الإسلام بعد استلهامها من روح الشريعة وفلسفة التشريع، وعلى رأسها رصد التراكمات، وربطها وتحليلها، وبناء الاستنتاجات والعلاج عليها، خاصة مع ما تعانيه الأمة من تداخل في التخصصات تداخلا غير مدروس، فترى أن أغلب من يخوض في أزمات الأمة، ينظِّر ويؤصل ويطرح الحلول ويجزم بنجاعتها، بعد أن يؤكد بقطعية تحديده للمعضلة، وهذا ينبغي أن يختفي أو أن يقلل أهل البصيرة من وجوده في واقعنا، فضرره عظيم على مجموع الأمة.. وشتان بين فقه التركات وفقه التراكمات.

لماذا فشلنا في دراسة التراكمات؟ قد تكون إشكالية الإخفاق في استغلال التراكمات، في غرق العقل المسلم اليوم في ذهنية التجميع والتكديس، واعطائها جل اهتمامه، تأصيلاً وحماية، وهذا قطعاً ليس بالمنهج الذي تستقرأ به كتلة التراكمات الضخمة التي تزخر بها حياتنا، ومن المؤشرات الدالة على انغماسنا في تحويل كل جهودنا نحوعملية التكديس، ضعفنا في مناهج البحث، بل إن غالبية الباحثين يشكون من معاناتهم الشديدة في جانب المنهجية العلمية الرصينة، التي لم يتمكنوا من الإلمام بها وتحقيقها، بسبب ضعف حلقة مناهج البحث في عالمنا الإسلامي اليوم، وما لم نعمل على تحقيق التخصص الدقيق في كافة الشعب والتخصصات الانسانية، وإيجاد ملكة البحث والتنقيب فيها، فإننا لن نكرس إلا العجز في التعرف على طبيعة الأشياء، والتعمق في فهم منطقها، والتمكن من تحديد مساراتها وتفاعلاتها أثناء ذلك ومحاولة تحديد مصيرها، ونحن لم نستخدم أدواتها أصلا.

إننا نحتاج إلى مأسسة الفكر، من أجل خلق تحول ناجح ينتقل بنا من ذهنية التكديس، نحوصناعة فكر التنقيب والانتاج، لأجل التعرف على طبيعة الأشياء، والتعمق في فهم منطقها، والتمكن من تحديد مساراتها وتفاعلاتها أثناء ذلك ومحاولة تحديد مصيرها وهذا لا يتم إلا من خلال عمل مؤسساتي شامل يتصف بالتكامل، ويستند إلى دعامة الوحيين (قل إن هدى الله هوالهدى)، لأن أي بحث وتنقيب معرفي يبقى ناقصا قاصرا ما لم يستنر بقيم الوحيين، والمقصود هنا هو الاستظلال بظلال السنن الكونية في التعامل مع كل الظواهر الكونية، والتمسك بسنن الله في الحياة والأحياء أثناء ممارسة ذلك.

الغرب والتراكمات: لعل أهم ميدان يمكن من خلاله الحكم على فقه التراكمات عند الغرب هو ميدان التاريخ، الذي عرف في القرن التاسع عشر جهوداً راقية في استقراء التاريخ، ومحاولة التعرف على ماهيته، ثم استغلاله والتحكم في مساراته ليكون في خدمة الغرب، وهذا ما يفسر ظهور نظريات مرموقة في تفسير حركة التاريخ في العالم الغربي، ولعل أبرز من تعمق في ذلك هم المؤرخون الألمان وأشهرهم أوزفالد شبنغلر، ولا يمكن تجاهل ألمع مؤرخي الغرب في ميدان دراسة التراكمات، الإنجليزي أرنولد توينبي، الذي أنتج في واحد وأربعين سنة موسوعة علمية هامة سمّاها "دراسة للتاريخ" أبدع فيها وهو يصول ويجول في استقراء لتراكمات التاريخ والحضارات، وممارسة لعملية الحفر والتنقيب بشكل رأسي مكثف، مستعملاً ملكته العلمية الثقيلة وخبرته الحصيفة.

إننا نجزم أنه لم يصل إلى حقائق كاملة أو نهائية في بحوثه تلك، لاعتبارات عدة أهمها عدم معرفته بقيم الوحيين، لكننا نصر على أن الغربيين تمكنوا فعلاً من إيجاد بعض أدوات التنقيب والحفر في التاريخ وتجاوز مرحلة الجمع والرصد، مما يجعل الاستفادة منهم أمراً مطلوباً، مادامت الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها. خاصة أن هذا الغرب أثبت حلم عقله في الميل إلى المنهجية في التعامل مع أزماته من خلال فقه التراكمات، وما فعله الانجليز في الحرب العالمية الثانية إلا دليل على ذلك، فعندما تعرضت لندن للقصف مدة سبعة أشهر كاملة وبشكل مستمر، ومقتل الألاف، وظهور علامة الهزيمة الساحقة، جمع الانجليز خيرة خبراءهم ومهندسيهم ومفكريهم وعلماءهم من مختلف التخصصات، وقرروا دراسة أسباب إخفاقهم في الحرب، وسبب التفوق الألماني عليهم، وظلت هذه النخبة شهوراً تحت الأقبية تدرس وتراجع كل المنظومات التي تحكم الحياة والانسان في انجلترا، وكان ونستون تشرشل رئيس وزرائهم في ذلك الحين يقول لهم بصوت عال "لا أعدكم بشيء سوى مزيد من الدماء مزيد من الدموع مزيد من التضحيات" وفعلاً بعد شهور طويلة نهض الانجليز ودارت الدائرة وقصف الإنجليز برلين وأغرقوا السفينة الأسطورة البسمارك، كانت التراكمات التي وقف عليها نخبة إنجلترا رصداً وتحليلا ومدارسة بداية الحل ومفتاح النصر في الحرب، والناظر في القرآن يجد أن الآيات التي نزلت بعد غزوة أحد حددت لهم تلك التراكمات النفسية التي قلبت المعركة من نصر إلى خسارة، داعية أهل الإيمان إلى الاعتبار بعد أن غيرت مفاهيم وقيم الحرب في نفوسهم.

كيف نتعامل مع التراكمات؟ إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى عمل جبار، تقوده نخب متمكنة من مختلف العلوم الانسانية، وتتميز بالعمق في النظر والطرح، ولا يمكن الإجابة عليه في هذه العجالة ومن منطلق غير مؤسساتي، ولكننا نكتفي بذكر هذه القاعدة الذهبية التي ذكرها عالم المقاصد الطاهر بن عاشور رحمه الله عندما قرر قاعدة "الشريعة تقرير وتغيير" وهي قاعدة جليلة عظيمة الفائدة، تؤصل لكيفية التعامل مع الواقع، انطلاقا من رصده وتحليله، وانتهاء بإرساء الكيفية الصحيحة للتعامل مع مشكلاته وحل عقباته، وترسخ مبدأ أن الواقع لا يقبل التعامل معه كوحدة موحدة لا تقبل التجزؤ ودليل هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فهو حديث أصل في هذا الباب أي فقه التراكمات، فالحكم الذي نطق به الحديث لم يبنى من فراغ بل بني على واقع حقيقي يربط الماضي بالحاضر، لذلك جاء الإسلام فأقرّ ما تراكم من الأعمال الصالحة، وغيّر ما لا يتوافق مع الفطرة ورسالة الإسلام، وهذا هو المنهج الصحيح الذي على الأمة سلوكه والتلبس به، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، لكن منهج التقرير والتغيير هو نهاية وثمرة لمرحلة سابقة هي مرحلة الرصد والدراسة والتأمل في الواقع، وليس منهجاً منفصلاً عن باقي الحلقات والسلاسل التي يربط بعضها بعضاً، ويسلم بعضها ما فيه للبعض الآخر.

فقه التراكمات ومراكز الدراسات الاستراتيجية: إن هذا الفقه العظيم يستدعي منا الحرص على إنشاء مراكز للدراسات الاستراتيجية المتنوعة، التي تتولى هذه المهمة الشاقة والعظيمة، والتي تستحق التعب والنصب لما لها من فوائد عظيمة تعود على الأمة في حاضرها ومستقبلها، ونظرة سريعة على واقعها في الغرب يدلنا على أهميتها.

وهنا يجب التطرق لنقطة هامة جداً وهي أن هذه الكيانات العلمية القوية، لم تظهر في أوروبا ثم أمريكا إلا بعد ظهور ثورة علمية هائلة في كل المجالات، تميزت بتسارعها في التطور، والتدفق العالي في المعلومات، ما جعلهم يتفرغون لها عن طريق خلق مراكز حسب كل مجال، ثم التخصص داخل كل مجال، وكان الأساس الذي تعمل عليه هذه المراكز هو التراكمي الحيوي الذي أنتجته الثورة العلمية والنهضة الأوروبية، التي تمخضت عن الواقع الجديد بعد الثورة الفرنسية.

ولم يكتف الغرب بذلك بل سخر لها كافة الوسائل المادية والمالية والبشرية التي تكفل استمرارها ونجاعتها، وهذا أمر منطقي مادامت هذه المراكز تشكل الإنذار المبكر، وتشكل أبرز الأسس التي يعتمدها الغرب في صناعة القرارات واختيار الوسائل والمكان والزمان في الصراع الحضاري المشتد يوماً بعد يوم.

وفكرة الإنذار المبكر هي فكرة عرفها المسلمون منذ قرون طويلة فهذا خالد بن الوليد يقول قولته الشهيرة لقادة الجيوش الفاتحة في الشام" " إنذار مبكر خير من طليعة جيش" فهذه المراكز هي الإنذار المبكر الذي يدرس الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل، ولا يترك فرصة للارتجال والعشوائية.

فقه التراكمات والمعادلات الاجتماعية: يجب أن نقر بأن لكل شيء معادلته الاجتماعية التي من دون فهمها لا يمكن التعامل معها، وهذا يعني أن فهم واقع الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة والعلاقات الدولية، لا يتأتى إلا من خلال فهم قاعدتها الاجتماعية والتاريخية، وهذا يتأتى للدارس حتماً من خلال الإلمام بالأدوات التي تكفل له التحقق بفقه التراكمات تنظيراً وتطبيقاً.

وهنا يجب أن نستدعي مفاهيم معينة وهي: العمق في فهم الرصيد الضخم الذي تراكم في أمتنا، والابتعاد عن التوصيف السطحي لما نريد دراسته ومعرفته، ويكون ذلك بتكوين قاعدة بحثية قوية وصلبة علمياً وعملياً، وطريق ذلك جذب أهم وأجود الكفاءات البشرية التي تتمتع بها الأمة، وجعلها تتفرغ لهذا الفرض الكفائي الهام، وقد سبق فعل عمر رضي الله عنه فعل الغرب بقرون مديدة، عندما جعل مجلس شورى المسلمين قائماً على خيرة الصحابة وأهل بدر الكرام.

فقه التراكمات وعلم الاستشراف.. وصناعة المستقبل: بدأت الأمة تعقد المؤتمرات والملتقيات وتؤلف الكتب في علم الاستشراف، بل أنشأت بعض الدول وزارات خاصة سمتها وزارة الإحصاء والاستشراف، وهذا أمر محمود، لكن الملاحظ أن الاستشراف الذي يتحدث عنه الكثيرون، جاء في نسخته تقليداً للغرب الذي ينطلق في الكثير من الأحيان من تحيين الواقع الحاضر والانطلاق منه وفصله عن القيم وعالم الأفكار وربطه بعالم الأشياء، بينما تختلف أمتنا في ذلك حيث تستند على رصيد تاريخي هام- باعتبارها أمة شاهدة على الناس، مدعوة لتبوؤ الريادة في الحياة باعتبارها الأمة الهادية للبشرية أجمع- لا يزال يؤثر في حاضرها تأثيراً قوياً وملموساً، لأجل ذلك وجب التنبيه على قضية هامة وهي أن مراكز الاستشراف لا يمكن أن تنجح ما لم تهتم بفقه التراكمات ،وما لم تتقيد بحقيقة وهوية الأمة ماضياً وحاضراً أثناء الخوض في ذلك. إن صناعة المستقبل لم تعد مركونة للمفاجآت ، والمسارات العشوائية، ولم تعد الحياة تتقبل التغيرات الغير مدروسة، وأمتنا لم تعد تتحمل توالي أثقال المراحل، وتحكمها في الحاضر والمستقبل، وقد علمنا الإسلام أن تصحيح الوجهة قبل وقوع الكارثة والاصطدام ممكن في كل الأحوال، لذلك وجب علينا الاهتمام بثنائية الرصد والاستشراف، والجمع بينهما جمعاً حقيقياً لا صورياً وصفياً.

وختاماً: فإن المشتغل بميدان المعرفة ليدرك حجم السعادة التي يعيشها الباحث وهو يقف على الجديد في ميدان بحثه، فكيف وهو يصل إلى مستوى أرقى في نظرته للأشياء، وإدراك أعمق للأشياء، وخصائها وتفاعلاتها وتطوراتها، وتزداد سعادة البشرية أيضاً كلما وصل وعيها للأشياء وللذات مرحلة متقدمة في تاريخ البشرية، وتزداد سعادة الباحث وهو في ذلك كله يشتغل بثغر من أهم ثغور الحياة.

هذه الصفحات لا تعدو أن تكون تنبيها لأهمية هذا الفقه، وحضاً للنخبة على الاهتمام به، وعقد الملتقيات والندوات التي تنبه إليه وترسخ قدمه في حياة المسلمين، لأجل مساعدة الأمة على الخروج من عثراتها، والوقوف على رجليها، والدفع بها نحو النهوض والشهود الحضاري.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع