نبيل شبيب
تصدير المادة
المشاهدات : 3734
شـــــارك المادة
نميز بدقة بالغة بين: ١- التعصب الطائفي تصوّرا وممارسة وهو ما شاع التعبير عنه بكلمة طائفية.. ٢- وتعددية طائفية أي واقع بشري، يتمثل في وجود طوائف عدة في نطاق أي دين سماوي وغير سماوي، وفي نطاق أي تصور بشري شمولي كالقوميات، وحتى في نطاق تصورات علمانية، يتمثل جوهر "عقيدتها" في اعتبار تحييد كل انتماء عقدي آخر شرطا للتعايش البشري.
يسري هذا على تاريخ سورية بطبيعة الحال، فما انقطع خلاله تعدّد الطوائف الدينية وداخل نطاق الدين الواحد، ولكن لم تعرف سورية أو بلاد الشام عموما الطائفية بمعنى التعصب والممارسات العدوانية المنبثقة عنه، إلا في نطاق مشاريع "الهيمنة الإقليمية" الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، كمشروعي الهيمنة الصهيوني والإيراني، وهذا ما يُصنّف في إطاره عهد التسلّط الأسدي الاستبدادي الفاسد. لقد صبغ هذا "التعصب الطائفي" الدموي حقبة من تاريخ سورية وبلاد الشام، تعدّ "بضعة عقود" فقط من أصل ما يربو على ثمانية آلاف عام، أي زهاء مليون عقد من السنين، ولا ينبغي أن يبقى شيء من موبقات تلك "البرهة" الدموية الاستثنائية القصيرة بعد الثورة عليها. إن القضاء المطلق على التعصب الطائفي هدف جوهري من أهداف الثورة الشعبية في سورية.. بل كان ذاك التعصب في مقدمة الأسباب والدوافع التي أوصلت إلى اندلاع الثورة أصلا.
الطائفية أداة تسلّط: الاستبداد لا دين له هذه قاعدة تاريخية ثابتة، ولهذا نجد أن ممارسته كانت في عهود الفراعنة والفرس والرومان والإغريق وسواهم من الأمم قديما، مثلما كانت في عهود الكنيسة والإقطاع لاحقا، كما كانت في بعض ما نشأ من دول „إسلامية“، مثل باكستان عبر الانقلابات العسكرية، وفي بعض ما نشأ من دول قومية علمانية، مثل اليونان وأسبانيا. الاستبداد لا دين له وتتعدّد وسائله، ومحورها العنف العدواني المعتمد لديه على الدوام لفرض إرادة المتسلط استبداديا وتحقيق مطامعه ومنافعه فسادا، وتختلف „الآلية والهيكلية“ فنجد استبدادا فرديا أو أسرويا أو عسكريا أو حزبيا أو سوى ذلك. الاستبداد لا دين له.. ويعتمد دوما على ملأ يركب ظهره، بغض النظر عن انتماءات أفراده وارتباطاتهم في نطاق الشعب نفسه، إذ يصبحون طرفا في „صفقة منفعية“، هم أذرع الأخطبوط، يقدّم لهم رأس الأخطبوط بعض ما تسلّط عليه، ويقدمون له خدمات تمكّن من استمرار ذلك التسلّط.. وقد يتحوّل بعضهم عنه إذا ظهر بوار تلك الصفقة أو خطرها عليهم، أو اكتشفوا حقيقتها، كما كان مع سحرة فرعون. الجديد في سورية منذ إحدى وخمسين سنة هو استخدام "التعصّب" أداة إضافية في تكوين ذلك الملأ الاستبدادي.. فعايشنا: (١) أداة التعصب القومي أولاً: أي عقب الانقلاب البعثي „الحزبي-العسكري“ سنة ١٩٦٣ مباشرة، فكان مسلسل التسريحات والتعديلات في البنى العسكرية والأمنية والتعليمية والإعلامية، وكان استخدام عنف البطش الاستبدادي مثل أول حلقة في مسلسل إعدام "الآخر" ونفيه، ومثل القصف الجوي لمسجد السلطان في حماة، والاقتحام العسكري للمسجد الأموي في دمشق. (٢) أداة "التعصب الطائفي" ثانياً: وهي الأداة الأشنع والأخطر، وهذا ما بدأ في العهد الأسدي منذ ١٩٧٠م وما نزال نعايش ما يصنعه حتى الآن.
الولاء للاستبداد فوق الطائفة: الاستبداد لا دين له وبتعبير أصح: دين الاستبداد هو الولاء له. إن اعتماد الولاء الاستبدادي في العهد الأسدي على تجييش التعصب الطائفي واستخدامه أداة لها الأولوية على سواها، بدأ من اللحظة الأولى باستهداف من لا يوالي للاستبداد، سواء من الطائفة التي ينتمي إليها أو سواها، ومن أراد أمثلة -وهي كثيرة- فليتذكر ما كان يدين به حاطوم وعفلق وجديد والبيطار وعمران. لقد تزامن مع مطلع السبعينات من القرن الميلادي العشرين البطش حتى برفاق درب الانقلابات نحو التسلّط، وتكوين الملأ الأسدي تدريجيا، وشمل هذا وذاك علويين ودروز وسنة ومسيحيين وأكرادا وغيرهم. كان واضحا كل الوضوح: (١) درجات الاستئصال والإقصاء والتحييد والتقريب والصلاحيات تفاوتت تفاوتا يتطابق مع درجة الاستعداد للمشاركة في ممارسات التسلّط أو عدم المشاركة، بغض النظر عن سبب الاستعداد، هل هو تعصب طائفي ذاتي أو صفقات منفعية محضة. (٢) انطلق في الوقت نفسه تجييش التعصب الطائفي في نطاق الطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة التسلّط الاستبدادي الفاسد. يجب أن نستحضر هذه الخلفية عندما نقول بعد عقود: أصبحت النسبة الأعظم من الموالين المشاركين في جرائم الاستبداد والفساد من طائفة العلويين مع عدم غياب الموالين المشاركين من سواها. هذا ما بلغ مداه قبل اندلاع الثورة الشعبية ووصل أثناء الثورة، إلى درك دموي منحطّ من حضيض التعصب الطائفي كأداة استبدادية إجرامية همجية.
تجييش التعصب للانتقام: مثلما نميّز من المنطلق الثوري والتاريخي الواقعي بين التعددية الطائفية والتعصب الطائفي، يجب أن نميّز بمنظور دولة الثورة المنشودة بين الجزاء العادل البصير والتعصب للانتقام الأعمى. كل من يرتكب جريمة.. يجب أن ينال الجزاء العادل، مهما كان انتماؤه وموقعه. كل من لم يرتكب جريمة.. يجب أن يعامل كمواطن في دولة الثورة، مهما كان انتماؤه وموقعه. كل انتقام مطلق من أي فرد، بذريعة انتمائه إلى فئة، أيا كانت، قد ارتكب بعض أفرادها أو غالب أفرادها جرائم توجب القصاص هو انتقام أعمى مرفوض، وبالغ الخطورة، إذ يفضي واقعيا إلى استهداف جميع الفئات وجميع الطوائف، فالاستبداد الذي ركز على تجييش نسبة عالية من طائفة بعينها، استخدم أيضا نسبا متفاوتة من الطوائف الأخرى، جميعا دون استثناء. العنصر الحاسم في دولة الثورة هو القضاء النزيه العادل في إطار سلطة نزيهة عادلة ومجتمع مستقر آمن. أما التسامح والعفو وجميع ما يتردد تحت عنوان عدالة انتقالية فلا ينبغي أن يكون على حساب العدالة الدستورية بل رديفا لها، أي يخضع لقواعد ثابتة، فلا يمكن مثلا القبول بتعهد مسبق من جانب أي طرف سياسي أو عسكري أو مدني بالعفو الشامل أو الجزئي عن مجرمين دون أن يكون ذلك مشروطا بموافقة من استهدفهم الإجرام وذويهم، فالعفو حق خاص بهم، ولا يمكن استخدامه دون تفويض دستوري مباشر، ولا ينبغي أن يكون أثناء مسار الثورة، وقبل قيام الدولة، كيلا يتحول إلى ما يشبه صك التشجيع على مواصلة ارتكاب الجرائم، نتيجة اطمئنان مرتكبيها إلى العفو عنهم في نهاية المطاف الدموي الذي يصنعونه.
ثورة ضد الاستبداد والطائفية إن الثورة الشعبية في سورية ثورة ضد الاستبداد والفساد بجميع ما تفرع عنه من موبقات، وفي مقدمة تلك الموبقات تجييش التعصب الطائفي، فإذا سقط من صنع ذلك، أي سقط الأسديون عائلة وأعوانا، وبقيت موبقات التعصب الطائفي، في الاتجاه القائم عبر العقود الماضية أو في اتجاه معاكس، لا تحقق الثورة الشعبية أحد أهدافها المحورية الأصيلة والتاريخية الجليلة. يجب استئصال الاستبداد والفساد من جذوره، ومن بين جذوره: الطائفية بجميع أدواتها من بنى هيكلية وحملات تجييش وممارسات إجرامية، وبجميع توجهاتها الحالية وسواها. لا يمكن أن يتحقق هذا الاستئصال كهدف ثوري شعبي، دون أن نستوعب في مسار الثورة، وثقافة الثورة، ومواقف الثوار، وممارسات الثوار، أنها ثورة ضد الطائفية مطلقا، وليست ضد شكل واحد من أشكالها مقابل نشأة شكل آخر. نلتقي في ذلك مع كل من يقول به معتمدا على أي نهج يتبناه، سيان ما منطلقه وانتماؤه، وما هدفه وغايته، إنما يملي علينا ما سبق: (١) انطلاقنا من الواقع الراهن: الوطن الجامع لنا.. (٢) تطلعنا إلى مستقبل إنساني للإنسان في هذا الوطن كغاية مشروعة.. (٣) ومن نهجنا: الإسلام، الذي يحرّم التعصب بجميع أشكاله، وتجاه سائر البشر، وفي مختلف الظروف، ويفرض العدل للناس، جميع الناس، ويوجب القصاص بالعدل ويوجب الكرامة وما ينبثق عنها من حقوق وحريات لبني آدم، دون تمييز في هذه الحياة الدنيا، وهو من قبل ذلك ومن بعد، دين الرحمة للعالمين، كما قضى بذلك رب العالمين، وهو من يتولّى يوم القيامة الفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويتولّى حسابهم الأخير على ما كانوا يقولون ويعملون.
عمار ديوب
خالد مصطفى
محمود جبار
ياسر الزعاترة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة