حسن عبد الحي
تصدير المادة
المشاهدات : 9727
شـــــارك المادة
عن عمرو بن سلَمة قال: كُنَّا نجلِس على باب عبدالله بن مسعود قبل صَلاة الغَداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد. فجاءنا أبو موسى الأشعريُّ فقال: أخَرَجَ إليكم أبو عبدالرحمن بعدُ؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلمَّا خرج قمنا إليه جميعًا.
فقال له أبو موسى: يا أبا عبدالرحمن، إني رأيت في المسجد آنِفًا أمرًا أنكرتُه، ولم أرَ -والحمد لله- إلا خيرًا. قال ابن مسعود: فما هو؟ فقال أبو موسى: إن عشتَ فستراه. قال أبو موسى: رأيت في المسجد قومًا حِلَقًا جلوسًا ينتَظِرون الصلاة، في كلِّ حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبِّروا مائة، فيُكبِّرون مائة، فيقول: هَلِّلوا مائة، فيُهَلِّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيُسَبِّحون مائة. قال ابن مسعود: فماذا قلتَ لهم؟ قال أبو موسى: ما قلتُ لهم شيئًا انتِظار رأيك أو انتظار أمرك. قال ابن مسعود: أفلا أمرتهم أن يَعُدُّوا سيِّئاتهم، وضمنت لهم ألاَّ يَضِيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحِلَق، فوَقَف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبدالرحمن، حصى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعُدُّوا سيِّئاتكم، فأنا ضامِنٌ ألاَّ يَضِيع من حسناتكم شيء، ويْحَكم يا أمَّة محمد! ما أسرعَ هلكتَكم! هؤلاء صحابة نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُتوافِرون، وهذه ثِيابُه لم تبلَ، وآنيته لم تُكسَر، والذي نفسي بيده إنَّكم لعلى مِلَّة هي أهدى من ملَّة محمد، أو مُفتَتِحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبدالرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مُريدٍ للخير لن يُصِيبَه، إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حدَّثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يُجاوِز تَراقِيَهم، وايمُ الله ما أدري لعلَّ أكثرهم منكم، ثم تولَّى عنهم. فقال عمرو بن سلَمة: رأينا عامَّة أولئك الحِلَق يُطاعِنُوننا يوم النهروان مع الخوارج! (أخرجه الدارمي بسِياقه، وأخرجه ابن أبي شيبة مختصرًا، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة"). في هذا الحديث جملة كبيرة من الفوائد، تستَدعِي الوقوف عليه مِرارًا، وقد كان على كلام ابن مسعود - رضِي الله عنه - نورٌ يُشبِه نور النبوَّة؛ لِمَا أُوتِي من عقل راجح، وفقه نفس، وإدامَة نظر في نصوص الوحيَيْن، كحال كثيرٍ من أصحاب نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين هم هُداتُنا إلى الحقِّ؛ كما في حديث: ((النجوم أمَنَة للسماء، فإذا ذهَبَتِ النجوم أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أمَنَة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أمَنَة لأمَّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يُوعَدون))؛ أخرجه مسلم وغيره. الفائدة الأولى: ضرورة تَواضُع الداعِيَة إلى الله، وخفض جناحه لإخوانه الدُّعَاة، فأبو موسى عالِم فقيه، وهو معلِّم أهل البصرة ووالي الكوفة، ومَعدُود من عُلَماء الصحابة وفُقَهائهم، ومع ذلك لا يَستَنكِف عن الجلوس مع تَلامِذة ابن مسعود أمام بيت شيخهم! بل ويقوم معهم له، ويُكَنِّيه ولا يُنادِيه باسمه. وفي "صحيح البخاري" أنَّ أبا موسى سُئِل عن ابنة وابنة ابن وأخت؟ فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وأتِ ابن مسعود فسيُتابِعني، فسُئِل ابن مسعود وأُخبِر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المُهتَدِين، أقضي فيها بما قضى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبَرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تَسأَلوني ما دام هذا الحبر فيكم. وهكذا يجلُّ ويُوقِّر الدُّعاة بعضهم بعضًا، لا كما يفعل البعض من تَتَبُّع الزلاَّت، والفرح بالهفوات، والتَّعالِي على الإخوان وكسرهم أمام جماهير الناس. الفائدة الثانية: عدم الاغتِرار بالخير إذا تضمَّن شرًّا، كما قال أبو موسى - رضِي الله عنه -: إني رأيتُ في المسجد آنِفًا أمرًا أنكرتُه، ولم أرَ - والحمد لله - إلا خيرًا. فهو أنكَرَه؛ لأنه لم يَعهَدْه من قبلُ، ولم يره شَرًّا؛ لأنه ذِكْرٌ لله وطاعة له - سبحانه وتعالى - في ظاهر الأمر. ومع ذلك لم يغترَّ به؛ بل جاء ابنَ مسعود يستَوضِحه ويستَفتِيه، وهو واجِبُ الدُّعاة عند اشتِباه الأمور وتَداخُل الخير والشرِّ. وكثيرٌ من الناس إنما يَدخُل عليه الشرُّ من باب الخير؛ ولهذا يعمد أصحاب البِدَع إلى تزيين بِدَعِهم وإلباسها لباس الشرع والدين. الفائدة الثالثة: استِيضاح الداعِيَة للأمور، وحرصه على اكتِمال التصوُّر الصحيح للحال حوله، وعدم التعجُّل في السماع أو الحكم، وهذا يُؤخَذ من قول ابن مسعود لأبي موسى - رضي الله عنهم جميعًا -: فما هو؟ وقوله: ماذا قلتَ لهم؟ وقوله لبعض هذه الحِلَق: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ وإن كان هذا الأخِير ربما خرج مخرج الاستِنكار. وإلمام الداعية بعلم ما حولَه يجعله أكثر فَهْمًا للواقع، وأكثر إصابةً للحقِّ. الفائدة الرابعة: رجوع الداعِيَة إلى مَن هو أعلم منه أو أفقه في واقعة معيَّنة إذا ما تطلَّب الأمر، لا سيَّما إذا أَشْكَلَ الأمر عليه ولم يَتَّضِح، فالواجب عليه أن يتوقَّف وأن يكون له مرجعيَّة، كما فعل أبو موسى مع ابن مسعود - رضي الله عنهم جميعًا. الفائدة الخامسة: وجوب تحرُّك الداعِيَة إلى الله وتفاعُله مع مجتمعه، وعدم اكتِفائه بالتَّنظِير والتَّأصِيل فقط، فابن مسعود لَمَّا سمع عن أمر هذه الحلق، أتاها وزجر أصحابها ووَبَّخَهم، وهذا هو عمل كلِّ أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأئمَّة الدين، فالبِدَع والمُنكَرات لا بُدَّ أن تُنكَر على أصحابها في مجالسهم ومجامعهم، ولا يُكتَفَى بالإنكار العام، الذي عادَةً لا يبلغ أهلَ البِدَع، أو يبلغهم مُشوَّشًا غير واضح، وقد كرَّر ابن مسعود كلماته الإنكاريَّة لَمَّا بلغه أمر هذه الحِلَق، ولَمَّا جاءَها. الفائدة السادسة: إنكار الداعِيَة إلى الله على مَن خرج عن الجماعة بقول أو فعل ليس من هديهم؛ لأن الحقَّ يدور معهم؛ إذ لا يجتَمِعون أبدًا على ضلالة، وكما قال ابن مسعود -رضِي الله عنه-: هؤلاء صحابة نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُتوافِرون، ولم يصدر منهم الذي تَفعَلون؛ بل ولم يَستَسِيغوه، فكيف تُقِيمون عليه؟ الفائدة السابعة: تعريف المُبتَدِع أنه على أحد أمرَيْن؛ الأوَّل: على ما هو خيرٌ ممَّا كان عليه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه رضِي الله عنهم! والثاني: أنه على أمرٍ لم يكن عليه النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا أصحابُه، وهو الضلالة والبدعة؛ إذ هو استِحسان لما ترَكَه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع إمكانيَّة فعله. لهذا قال لهم ابن مسعود -رضِي الله عنه-: والذي نفسي بيده، إنَّكم لعلى ملَّة هي أهدى من ملَّة محمد، أو مُفتَتِحو باب ضلالة. الفائدة الثامنة: أنَّ القُرْبَ من العُلَماء والدُّعَاة والبعد عنهم - زمانًا ومكانًا - ممَّا يُعوَّل عليه في تقدير حجم الخطأ، وهذا ممَّا يُدرَج في قضيَّة العذر بالجهل، وعلاقته بإمكانيَّة تحصيل العلم، وابن مسعود هنا زادَ إنكارُه على أصحاب هذه الحِلَق، لقُرْبِهم من العهد النبوي ومُعايَشَتِهم لأصحاب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال لهم: وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تُكسَر! لم يَطُل بكم الزمان فيَندَرِس العلم، فكيف بكم إذا طال الأمد؟! الفائدة التاسعة: أنَّ عادة أهل البِدَع الميلُ إلى الهوى، وترْك تحرِّي الهدى أو ضعفه، فأصحاب هذه الحِلَق مالوا إلى أهوائهم دُونَ أن يُراجِعوا أحدًا من أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم مُتوافِرون، ومع علمهم أنَّ الصحابة هم أهل العلم والهدى. بل ولم يرجعوا بعد حديث ابن مسعود لهم، كما قال عمرو بن سلَمة: رأينا عامَّة أولئك الحِلَق يُطاعِنُوننا يوم النهروان مع الخوارج! الفائدة العاشرة: أنَّ العبرة ليست بإرادة الخير وحسب؛ بل لا بُدَّ من سلوك الطريق الصحيح للخير بعد إرادته، كما جرى بين ابن مسعود وهؤلاء القوم لما قالوا له: والله يا أبا عبدالرحمن، ما أردنا إلا الخير. فقال لهم: وكم من مُرِيدٍ للخير لن يصيبه؛ لأنه لم يسلك جادَّته، وهذا ما يُعَبِّر عنه العُلَماء بقولهم: النيَّة الصالحة لا تُصلِح العمل الفاسد. الفائدة الحادية عشرة: أنَّ أهل البِدَع قد يجتَمِع فيهم الجهل والهوى معًا، كما هو حال هؤلاء الذين حذَّرهم ابن مسعود -رضِي الله عنه- من طريقة الخوارج، ثم اتَّبعوهم وقاتَلُوا معهم صحابة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم! الفائدة الثانية عشرة: أنَّ هذه الأعمال المُبتَدَعة التي تحنَّث بها أصحاب هذه الحِلَق، لم تَزِدهم إلاَّ بُعدًا عن الحقِّ؛ إذ ظنُّوا في أنفسهم بسببها العلم والعمل، فخالَفُوا أصحاب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم - وماتوا على البدعة. هذا ما يَسَّر الله -تعالى- جمعه من فوائد هذا الأثر. وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. والحمد لله ربِّ العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الألوكة
محمود الخزندار
عماد الدين خيتي
شريف محمد جابر
فهد العجلان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة