ياسر الزعاترة
تصدير المادة
المشاهدات : 6112
شـــــارك المادة
سنتحدث في هذه السطور من زاوية التحليل السياسي الصرف، بعيدا عن الموقف من الأفكار التي يتبناها التنظيم على الصعيد الشرعي والفكري، وذلك حتى لا ندخل في جدل لا طائل من ورائه، ولم ينته يوما حول الموقف من طبيعة الدولة وآليات حكمها بين الإسلاميين بشتى تصنيفاتهم.
لا بد من التذكير ابتداء بأن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق هو نتاج تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، والأخير نتاج تنظيم التوحيد والجهاد الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي بعد احتلال العراق مباشرة، والذي لم يكن على صلة بتنظيم القاعدة، لكنه ما لبث أن انضم إليه بعد رسائل متبادلة مع قيادته التي كانت في وضع صعب بعد هروبها من أفغانستان إثر سقوط دولة طالبان.
حظي تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بدفعة قوية في العراق من منطلق واضح يتعلق بالمعركة التي خاضها مع قوات الاحتلال الأميركي، وهي معركة مشروعة كانت تجد صدى طيبا في أوساط جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج.
نفتح قوسا هنا لنشير إلى أن التنظيمات المسلحة لا تنشأ وتنمو فقط بفعل الأفكار، لأن الأفكار موجودة في بطون الكتب، وربما عقول كثيرين، لكنها تنشأ ابتداء حين تتوفر ظروف موضوعية مواتية، والظروف الموضوعية تتلخص في وجود هدف يلتف الأعضاء من حوله، مع قيادة معقولة، ثم حاضنة شعبية، إضافة إلى مدد خارجي جيد، أو معقول.
في العراق، كان الظرف الموضوعي يسمح بنشوء التنظيم، أولا من زاوية حاجة الأمة إلى من يقاتل غزوا واضحا يستهدفها جمعاء برفعه شعار "إعادة تشكيل المنطقة"، وبالطبع على مقاس المصالح الصهيونية، وثانيا بتوفر الحاضنة الشعبية في مناطق العرب السنّة الذين شعروا بإهانة الغزو، وبثقل تداعياته السياسية عليهم، وثالثا بتوفر مدد خارجي من المال ومن الرجال في ظل حاجة الأمة إلى من يواجه الغزو ويفشله، وفوق ذلك كله توفر أجواء دينية (صحوة) تسمح باحتضان تنظيم من هذا اللون أيضا.
على هذه الخلفية، حصل تنظيم التوحيد والجهاد على مدد قوي، ثم ما لبث أن انضم إلى تنظيم القاعدة الذي لم يكن قد فقد بريقه تماما في ذلك الوقت، وإن كان في وضع هزيمة عملية، وهنا يبدو أن الزرقاوي قد فرض شروطه على قيادة التنظيم، بخاصة ما يتعلق بقتال الشيعة الذي لم يكن، لا الظواهري ولا بن لادن مقتنعين به، كما تبدى ذلك في رسالة أرسلها الظواهري للزرقاوي 2005.
على أن ذلك لم يحلْ دون إعلان تبعية تنظيم التوحيد والجهاد للقاعدة، وتحوّله إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وهو التنظيم الذي احتضن عمليا آلافا من المقاتلين الذين لم يكونوا أصلا ينتمون إلى تيار السلفية الجهادية، بل حفزتهم بشاعة الاحتلال والإهانة التي تلقتها الأمة إلى الانضمام إليه، وكذلك الحال بالنسبة لتنظيمات إسلامية مقاتلة أخرى في العراق كان لها دورها البارز في إفشال الغزو.
ما لا يمكن لأي عاقل أن ينكره هو أن التنظيم كان الأكثر إثخانا في العدو الأميركي في العراق، من دون التقليل من جهود الآخرين، وهي كبيرة ومهمة، وربما أكبر إذا وضعت مجتمعة، لكن ذلك الدور، وتبعا لما منحه من قوة للتنظيم ما لبث أن أصاب قيادته بقدر من غرور القوة الذي جعله يشتبك مع العشائر والقوى الأخرى في الساحة، بخاصة من دخلوا العملية السياسية، وصولا إلى إعلان الدولة الإسلامية في العراق، وهو القرار الذي اتخذ محليا من التنظيم دون التشاور مع قيادة (القاعدة) العليا.
بمرور الوقت، ومع قرار الانسحاب الأميركي من العراق، بدأت الأجواء تتغير، وشعر قطاع عريض من العرب السنّة بالحاجة للانخراط في العملية السياسية، الأمر الذي واجهه التنظيم بكثير من الشراسة، وهو ما مهّد الأجواء لظهور ما عرف بالصحوات التي دخلت في مواجهة مع التنظيم وصولا إلى ما يمكن القول إنه تحجيمه إلى حد كبير، وأخذ بسبب الأخطاء التي ارتكبها يفقد حاضنته الشعبية.
لا يمكن القول إن الوضع الذي آل إليه العرب السنّة في عراق ما بعد الاحتلال هو نتاج أخطاء التنظيم وحده، إذ أنها كانت جزءا من الأسباب، أما السبب الذي يفوقها أهمية، فيتمثل في المراهقة السياسية التي اتسم بها أداء ممثلي هذه الفئة في العملية السياسية منذ البداية، وهو ما حشرها عمليا في دائرة الأقلية رغم أنها ليست كذلك إذا تذكرنا أن الأكراد يعيشون ما يشبه الانفصال في إقليمهم الخاص، وإن ظلوا تحت لواء الدولة العراقية.
بعد فترة من التراجع بسبب ذلك، عاد التنظيم إلى قوته من جديد بعد أن شعر العرب السنّة أن دخولهم العملية السياسية بكل ثقلهم لم يؤد إلى وقف تهميشهم، وظهر المالكي كزعيم طائفي يتلاعب بالبلد، بل يهمّش القوى الشيعية أيضا.
هذه الأجواء أعادت للتنظيم حاضنته الشعبية، ولم يكن من الصعب توفير المدد الخارجي في ظل حشد طائفي بدأ يسود المنطقة إثر الموقف الإيراني من الثورة السورية، وقبلها دعم سياسات المالكي، بدل نصحه بإيجاد صيغة سياسية معقولة ترضيهم وتستوعبهم.
بعد قليل من الوقت لم يلبث التنظيم أن دخل على خط الثورة السورية، وهي التي جرت عسكرتها بمخطط واضح من النظام. وللتذكير فقد كانت لدى النظام خبرة جيدة مع هذا التيار إبان التعاون معه في مواجهة الغزو الأميركي للعراق، قبل أن ينقلب عليه بعد ذلك حين آل الأمر إلى حلفاء إيران (المالكي تحديدا).
ويتذكر الجميع كيف اتهم المالكي النظام السوري صراحة بدعم "الإرهاب" في العراق، وتصدير المفخخات، وهو اتهام صحيح دون شك، وبالطبع لأهداف سياسية ما لبثت أن تحققت بعد أن اطمأن النظام إلى أن مشروع الغزو قد فشل، وأنه في أمان، لاسيما أن الوضع في العراق قد آل أيضا إلى حليفته إيران التي ما لبثت أن سوت الموقف بين الحليفين (الكلام عن عمالة التنظيم أو صناعته إيرانيا وسوريا ليس له قيمة تذكر، فقيادته وعناصره لم يكونوا عملاء أولا ولا أخيرا، وإنما استفادوا من التناقضات كسائر من يشتغلون في السياسة، وإن لم يقرؤوا المشهد التالي جيدا).
المعضلة الأكبر ستتبدى في العام 2012 حين قرر أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أن يمد نفوذ دولته إلى الشام أيضا دون التشاور مع جبهة النصرة التي كان له دور في تأسيسها باعتراف قائدها الجولاني، والذي كان يردد طوال الوقت أنه سيتجنب الأخطاء التي ارتكبها تنظيم الدولة في العراق، والتي تتلخص كما يعرف الجميع في الاشتباك مع القوى الأخرى، إن كانت المقاومة، أم السياسية.
ورغم عدم اعتراف الظواهري بالدولة الجديدة، وإعلانه أن جبهة النصرة هي ممثل القاعدة في سوريا، إلا أن البغدادي لم يأبه لذلك، واستمر في برنامجه.
واللافت أن ما تجنبته (النصرة) ممثلا في ممارسات الدولة في العراق ما لبث أن انتقل إلى سوريا، بصرف النظر عن حجم المبالغات فيما يجري، لكن الشكوى ما لبثت أن تكاثرت على نحو لافت من قبل الفصائل الإسلامية، وبدأت دائرة الاتهامات تتسع تباعا، وصولا إلى الاقتتال الذي تابعنا بعض فصوله في الأسابيع الأخيرة.
وكما أن إعلان الدولة في العراق لم يستند إلى أسس موضوعية، فقد كان الإعلان عن ضمِّ سوريا إليها مشابها، حتى لو قيل إن ثمة مناطق محررة هنا وهناك، لاسيما أن النظام لا يزال متماسكا بهذا إلى حد ما في ظل دعم رهيب من إيران وحلفائها، وبالتالي فقد كان المشهد يتلخص في اقتتال على جلد الدب قبل صيده، فضلا عن ممارسات بدأت تكرر مشهد العراق وتساهم في حرمان التنظيم من حاضنته الشعبية.
جاء انفجار الموقف في العراق بعد الهجوم على اعتصام الرمادي ليُدخل التنظيم في معركة جديدة في العراق، ولكنها معركة لا تحظى بحدٍ مقبول من الإجماع في الساحة السياسية، بمعنى أن أحدا لا يريد أن يجعل من الأنبار دولة مستقلة، فضلا عن أن تكون تحت إمرة البغدادي، بل يريدون حلا سياسيا، لأن الحرب لا يمكن أن تكون مجدية في ظل خلل ميزان القوى لصالح المالكي الذي يسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية، ويحظى بدعم خارجي واسع، أكان من الولايات المتحدة، أم من إيران.
تزامن ذلك مع الاقتتال بين التنظيم في سوريا مع القوى الأخرى، وإعلانه أن الائتلاف والمجلس الوطني وهيئة الأركان "طوائف ردة" يجب مقاتلتها، وبذلك فتح التنظيم جبهتين في ذات الوقت، والأسوأ أنه فتحهما في ظل إجماع عربي وإقليمي ودولي على مطاردته.
لا يمكن لأي تنظيم مهما بلغت قوته أن يعلن الحرب في كل الاتجاهات ثم ينتصر فيها، فكيف وهو يفقد عمليا الحاضنة الشعبية، بل يفقد بريقه بين الجماهير التي تسمع ما يقال عنه من قبل رموز معتبرين، وفصائل لها ثقلها، والنتيجة أن هذه السياسة التي اختطها قد وضعته على سكة الحصار والتحجيم، وسيؤول إلى وضع صعب عاجلا أم آجلا، من دون القول إنه سينتهي تماما، وبالطبع ما لم يُعد النظر في مسيرته.
كل ذلك، يحيلنا إلى القول إن الإخلاص في عالم السياسة والحروب لا يمكن أن يكون كافيا، إذ لا بد من صواب البوصلة، وحسن تقدير الموقف وموازين القوى، وهنا يبدو أن التنظيم لم يقدر حساباته جيدا، وكرر تجربة العراق في سوريا، فكان من الطبيعي أن يعزل نفسه، ويواجه هذا الإجماع على حربه.
هل ثمة فرصة للمراجعة؟ ربما، لكن ما يجري في الأنبار، واشتباك التنظيم مع قوى إسلامية أخرى في سوريا لا يشير إلى شيء من ذلك، ولكننا نأمل أن يحدث ذلك، على الأقل من أجل إنجاح المواجهة مع نظام مجرم، ومن أجل ألا تذهب تضحيات الشعب السوري الهائلة سدى.
وعلى من يملك القدرة على التأثير في المشهد ألا يتوانى عن بذل الجهد، لأن اقتتال الفصائل لا يمكن إلا أن يصب في صالح النظام، فضلا عن خسائره في صفوف أناس خرجوا من بيوتهم أو جاؤوا من الخارج ينصرون شعبا مظلوما يتعرض للذبح على يد طاغية مجرم.
الجزيرة نت
إياد قنيبي
بندر الشويقي
مجاهد مأمون ديرانية
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة