..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

تطور فكرة تقسيم المشرق العربي في مراكز الفكر الغربية (2001-2013)

بشير زين العابدين

٩ نوفمبر ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6963

تطور فكرة تقسيم المشرق العربي في مراكز الفكر الغربية (2001-2013)
زين العابدين00.jpg

شـــــارك المادة

تناولت العديد من المصنفات الحديثة ظاهرة تأثير الأزمات الداخلية في بلدان العالم العربي على الأمن الدولي؛ حيث مثلت هشاشة البنى التحتية للجمهوريات العربية الحديثة منذ تأسيسها نموذجاً لحالة انعدام الاستقرار الذي يمكن أن يؤثر على منظومات الأمن الإقليمي.

 


وتأتي هشاشة البنى التحتية لهذه الجمهوريات كنتيجة حتمية لانعدام التوازن بين مفهومي "الدولة" (state) و"الأمة" (nation)، خاصة وأن معظم الجمهوريات العربية قد نشأت على أساس صفقات بين قوى استعمارية في مطلع القرن العشرين دون مراعاة لمفهوم "الدولة القومية" (nation state)، مما أدى إلى خضوع هذه الدول للأنظمة العسكرية الشمولية بعد خروج المستعمر، واندلاع النزاعات الحدودية، وتدهور العلاقة بين الدولة وبين مختلف فئات المجتمع إثر ارتكاز السلطة على قواعد ضيقة من الفئات المستفيدة.
ونظراً لضعف مؤسسات الإدارة وأجهزة الحكم في هذه الدول؛ فإن المهددات التي تواجهها غالباً ما تأتي من عوامل داخلية، وذلك نتيجة عجزها عن تشكيل علاقة متوازنة بين السلطة والمجتمع، ثم تأتي عوامل: الضعف الاقتصادي، وسوء توزيع الثروة، والتوتر بين مختلف المجموعات الإثنية والمذهبية داخل المجتمع كعوامل تنخر في جسد هذه الدول، وتمنعها من تشكيل نظام أمني متوازن.
وبناء على هذه المعطيات فقد ذهب بعض المنظرين الغربيين إلى أن الخلافات الحدودية وتدهور العلاقة بين المذاهب والإثنيات داخل الدولة يمكن أن تهدد منظومات الأمن الدولية برمتها، مما يستدعي التدخل الخارجي لمعالجة بؤر التوتر المحلية لبعض الدول الشرقية بهدف درء هذه المخاطر، خاصة وأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد دفعت بالمجتمع الدولي للاعتراف بتنامي خطر الجماعات المتطرفة العابرة للحدود، وإمكانية تعرض طرق الإمداد ومصادر الطاقة للتهديد من قبل جماعات راديكالية تتخذ من بعض الدول الهشة قواعد ارتكاز لها.
وساعد بروز القوى الفاعلة خارج إطار الدول (non state actors) على ترسيخ الارتباط بين الأمن الإقليمي والأمن الدولي؛ حيث مثلت حادثة تفجير برجي التجارة العالميين نقطة تحول في تبني واشنطن إستراتيجية أمنية جديدة لمواجهة الفكر المتطرف الذي انتشر في بعض دول الشرق الأوسط وذلك من خلال العمل على توظيف القوى المجتمعية داخل هذه الدول لفرض تغييرات في بنية مؤسسات الإدارة والحكم.
ويمكن تلمس تلك التوجهات من خلال رصد الدراسات التي نشرها باحثون مقربون من دوائر اتخاذ القرار السياسي في الغرب، وعلى الرغم من عدم تبني الحكومات الغربية أياً من هذه الدراسات؛ إلا أن المشاريع التي تقدمت بها معاهد الفكر لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط قد عرضت على كبار المسؤولين في الحكومات الغربية المتعاقبة منذ عام 2001 وحظيت باهتمامهم، كما أنها نوقشت على مستوى مؤسسات التخطيط الإستراتيجي وصنع القرار، ويمكن تفصيل تطور فكرة التقسيم المنطقة العربية فيما يأتي:
أولاً: تطور فكرة التقسيم والتسويق لمشاريع الحكم الفيدرالي عبر دعم القوى المجتمعية (2001-2006)
ارتكزت الأطروحات المتعلقة بضرورة إعادة رسم خريطة المشرق العربي على نقد مخرجات معاهدة: "سايكس بيكو" (1916)، والتي نصت على منح فرنسا كلاً من: الموصل وسوريا ولبنان، ومنح بريطانيا جنوب بلاد الشام وصولاً إلى بغداد والبصرة، وجاءت بعد ذلك معاهدة "سيفر" (1920) لإقرار الحدود التي تم ترسيمها من قبل، ومن ثم معاهدة "سان ريمون" في العام نفسه والتي نصت على وضع سوريا والعراق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني تباعاً.
وعلى إثر انعتاق الجمهوريات العربية من الانتداب الأوروبي؛ انتشرت ظاهرة الانقلابات العسكرية والحكم الشمولي، فيما اندلعت الصراعات الحدودية بين هذه الدول نظراً لعدم رضاها بالتركة التي توافقت عليها الدول الغربية لاقتسام مناطق النفوذ فيما بينها، وواجهت هذه الدول مشاكل كبيرة في ترسيخ مفهوم المواطنة ضمن إطار الدولة وذلك في مقابل انتشار الأطروحات الأممية والإثنية، وأخذت العديد من القوى المجتمعية تعزز وجودها السياسي والإعلامي خارج إطار الدولة إثر انحسار المد القومي، وتنامي تيارات التطرف الديني، وخاصة في العراق وسوريا ودول الخليج العربي.
وكان أول من طرح فكرة تغيير البنية الجيو-سياسية للشرق الأوسط في مطلع الألفية الثالثة؛ الضابط المتقاعد رالف بيترز الذي نشر دراسة ذكر فيها أن الحرب على الإرهاب ستبقى ناقصة ما لم تتم معالجة: "قضايا الإرهاب الأصولي والتخريب والكراهية الصادرة من الدول المحافظة التي لعبت دوراً في تقويض الأنظمة العلمانية ونشر التطرف في العالم الإسلامي وإعادة حقوق الإنسان إلى الوراء".
وفي هذه الأثناء بدأت الصحافة ومراكز البحث الغربية المقربة تتقدم بأطروحات لإعادة رسم خريطة المنطقة العربية كحل لمواجهة التشدد الديني وإمكانية استخدام القوة العسكرية لتحقيق ذلك؛ ففي ورقة مقدمة إلى وزارة الدفاع الأمريكية في شهر يونيو 2002 دعا الخبير الإستراتيجي بمؤسسة "راند" لوران موريس الإدارة الأمريكية إلى تبني حلول عسكرية متشددة إذا فشلت جهود الإصلاح في المنطقة العربية.
وفي الفترة ذاتها؛ شارك القيادي في أوساط المحافظين الجدد وليام كريستول في مؤتمر بإيطاليا (يونيو 2002)، وتحدث في مداخلته عن وجود أجندة أمريكية ستبدأ بالحرب على العراق وتنتهي: "بإسقاط الأنظمة الملكية في الخليج العربي"، وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن المستمعين من النخبة الأوروبية قد صعقوا من صراحة كريستول وأسلوبه المباشر في الطرح.
وتزامنت تلك الأطروحات المتطرفة مع نشر تقرير تقدم به مؤسس معهد "هدسون" للدراسات الإستراتيجية ماكس سنجر لوزارة الدفاع الأمريكية (أغسطس 2002) يتلخص في الدعوة إلى إسقاط الأنظمة الملكية ودعم المعارضة في الخارج لإنشاء جمهورية مستقلة في شرقي شبه الجزيرة العربية، وذكر المتحدث باسم البنتاغون اللفتنانت مايكل هوم أن سنجر قد اجتمع بأندرو مارشال، وهو أحد المقربين من وزير الدفاع الأمريكي الأسبق؛ ودار الحديث بينهما حول إمكانية إنشاء كيان جديد على أسس طائفية في الخليج العربي.
وفي الفترة التي ظهرت فيها التقارير الداعية إلى إعادة رسم الخارطة العربية عام 2002؛ كانت الإدارة الأمريكية منهمكة في إعداد خططها لغزو العراق؛ الذي تأسس فيه منذ عام 2003 نظام سياسي يقوم على محاصصة إثنية-طائفية شبه رسمية، وأصبح الانقسام العرقي والطائفي في المحافظات العراقية أمراً لا يمكن تجاهله على أرض الواقع.
ومنذ ذلك الحين بدأت تتضح ملامح الإستراتيجية الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط والتي ارتكزت على دعامتي: "دعم الديمقراطية" و"تمكين الأقليات"، ابتداء من العراق وانتهاء بدول الخليج العربية؛ ففي شهر مارس 2003 نشر الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ليسلي غليب مقالاً بعنوان: "العراق، حل الدول الثلاث"، دعا فيه إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول على أساس عرقي وطائفي، وقد تبنت لجنة بيكر هذا المقترح الذي أيده أبرز أعضاء المجلس، ودعا غليب في مقاله إلى إنشاء دولة جديدة على أسس مذهبية في الخليج العربي بعد إنجاز مشروع تقسيم العراق.
وفي شهر أبريل 2006؛ نشر معهد "غلوبال ريسيرتش" الكندي مقالاً لغاري هلبرت تحدث فيه عن وجود مخططات أمريكية لتقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس إثنية وطائفية، وأكدت الدراسة أن نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني ونائب وزير الدفاع الأسبق بول ولفويتز كانا من أبرز المؤيدين لفكرة التقسيم، كما نشر المعهد تقريراً آخر في شهر نوفمبر من العام نفسه؛ تحدث الكاتب فيه عن إمكانية أن تشهد المرحلة المقبلة بذل جهود استخباراتية لتشجيع الأقليات في المنطقة للمطالبة بكيانات سياسية مستقلة.
وتزامن صدور هذا المقال المثير للجدل مع قيام مركز "ستراتفور" للدراسات الجيوسياسية بنشر تقرير يشير إلى اعتزام الإدارة الأمريكية تقسيم العراق إلى ثلاث دول؛ بحيث يكون القسم الأول وسط العراق وعاصمته بغداد، والقسم الثاني في إقليم "كردستان العراق" الذي يمكن أن يتحول إلى دولة تتمتع بحكم ذاتي، أما القسم الثالث فيقع جنوب العراق وعاصمته البصرة ويقوم على أسس مذهبية بحتة، وورد الحديث عن إمكانية أن يضم القسم الثالث أجزاء من الخليج العربي، وأكد التقرير أن هذه المقترحات قد طرحت للنقاش في لندن مع بعض الساسة العراقيين في شهر يوليو 2005.
وفي شهر يوليو 2006 نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية دراسة للنائب الأسبق لرئيس هيئة الأركان الأمريكي رالف بيترز دعا فيه إلى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن هذه الخطة لم تعتمد من قبل الإدارة الأمريكية إلا أنها عرضت للنقاش في كلية حلف شمال الأطلسي، وتم تداولها في دوائر رسمية عدة بالولايات المتحدة الأمريكية، وأكد أحد الباحثين بمعهد الدراسات الدولية وجود خرائط أخرى لا تقل أهمية عن خارطة بيترز إلا أنها لم تتسرب إلى الصحافة، وقد أدى نشر هذه الخارطة ومناقشتها في أروقة الناتو إلى احتجاج رئيس هيئة الأركان التركي لدى نظيره الأمريكي من التجاوز الخطير المتمثل في الدعوة إلى إنشاء دولة كردية على حساب تركيا.
ثانياً: الدعوة إلى دعم مطالب المعارضة الراديكالية بالانفصال السياسي والحكم الذاتي (2007-2010)
بحلول عام 2007 بدأت تظهر ملامح تفاعل القوى المجتمعية الأكثر تشدداً في المشرق العربي مع دعوات التقسيم الغربية؛ وبدا ذلك جلياً في تعالي أصوات الجماعات المتطرفة للمطالبة بالانفصال السياسي؛ حيث نشرت مجلة "ميدل إيست بوليسي" في عددها الصادر بتاريخ 22 يونيو 2007 تقريراً يؤكد أن الأنظمة العربية باتت تشعر بالقلق من تنامي نشاط التنظيمات المتطرفة المرتبطة بإيران، مما دفع بعدد من القادة والزعماء العرب لتحذير الدول الغربية من مخاطر دعم هذه الجماعات التي تهدد حالة السلم الاجتماعي وتتسبب بشرخ خطير في العلاقات الإقليمية.
وفي مطلع عام 2008 صعّدت طهران موقفها ضد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وكررت إدعاءاتها بتبعية البحرين لها، وذلك بالتزامن مع مطالبة زعماء الحركات الراديكالية في المنطقة بتقسيم الدول العربية على أسس مذهبية؛ ونقلت وكالة رويترز عن أحد زعماء هذه الجماعات المتطرفة قوله: "عندما يستقر الوضع في العراق وتسود ديمقراطية حقيقية، سيسود كيان شيعي آخر في المنطقة إضافة إلى إيران"، وأكد المحلل الألماني ماكسميلان تيرهال أن أنظار هذه الجماعات في شرقي شبه الجزيرة العربية ترنو إلى تحقيق الحكم الذاتي.
في هذه الأثناء واجهت مؤسسات دعم الديمقراطية تهماً رسمية بدعم الجماعات الراديكالية من خلال: إقامة ندوات حوارية وعقد اجتماعات تنسيقية مع زعماء هذه الجماعات، وتنظيم برامج تدريبية لهم في دول عربية وغربية، كبرنامج "قادة الديمقراطية" الذي رعته وزارة الخارجية الأمريكية عام 2008 وشارك فيه عدد من قادة الجماعات المتطرفة التي لا تؤمن بالديمقراطية من حيث المبدأ.
وتعتبر مؤسسة: "الوقف القومي للديمقراطية" (NED) أحد أبرز المؤسسات التي اتهمت بدعم جماعات المعارضة المتطرفة وتمويلها فيما يخالف قانون الدول التي تنشط فيها هذه الجماعات، وقد واجهت هذه المؤسسة –التي تعمل في أكثر من 100 دولة حول العالم- تهماً بخرق قوانين البلاد التي تعمل فيها، وخاصة فيما يتعلق بتمويل هذه الجماعات.
وعلى هامش برامج "دعم الديمقراطية" و"تمكين الأقليات"؛ شهدت الفترة الممتدة ما بين عامي 2008 و2010 لقاءات مكثفة بين مسؤولين غربيين وزعماء جماعات راديكالية تناولت سبل دعم هذه الجماعات في ممارسة دور أكثر فاعلية في شؤون المنطقة، ومناقشة إمكانية تأسيس كيان جديد في شرقي الجزيرة العربية على أسس مذهبية، وقد أكد هذه الحقيقة أحد المعارضين في الخارج بقوله: "حين أثير موضوع تقسيم المملكة؛ ركز المواطنون الشيعة على موضوع الإصلاح السياسي والبقاء ضمن البوتقة الوطنية رغم الإغراءات الكثيرة التي حاولت بعض الجهات الأمريكية الدخول من خلالها لتفتيت الوضع المحلي".
وشهد عام 2009 بصفة خاصة محاولات حثيثة من قبل هذه المجموعات لتأزيم الموقف السياسي في دول الخليج العربية والمطالبة بتشكيل كيانات مستقلة، ونظمت هذه الجماعات حملات احتجاجية اتسمت بالعنف وتتوجت بدعوة أحد رجال الدين المتشددين إلى الانفصال السياسي، وحض أتباعه على حمل السلاح ضد الدولة قائلاً: "كرامتنا أغلى من وحدة هذه البلاد... لن تنالوا عدلاً إلا بالجهاد".
وقد دأب العديد من المحللين الغربيين على دراسة مظاهر الدعم الأمريكي لهذه الجماعات المتطرفة وإبداء التفهم لمطالبها بالانفصال السياسي أو الحكم الذاتي، ومن أبرز هذه الدراسات كتابات الباحث الأمريكي من أصل إيراني ولي نصر، الذي أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تبنت مبدأ "تمكين الأقليات" في العالم العربي منذ عام 2003، وقد فرض ذلك عليها وضع سياسة جديدة للتعامل مع الأقليات في المنطقة الممتدة ما بين لبنان وباكستان.
ورأى نصر أن مصالح الولايات المتحدة قد ارتبطت منذ ذلك الحين بجماعات إثنية وطائفية متحمسة لمشاريع دعم الديمقراطية الأمريكية، مؤكداً أن مفتاح التغيير في الشرق الأوسط ينبع من العراق التي تم تغيير موازين القوى فيها بصورة "أكثر واقعية"، حيث يضمحل دور الحركات العلمانية فيها وتندرس معالم الإيديولوجيا والفكر، في حين تفرز العمليات الانتخابية ممثلين عن الأعراق والطوائف بدلاً من منسوبي الأحزاب والحركات السياسية، مشيراً إلى أن هذه القوى المجتمعية هي التي ستهيمن على الساحة السياسية في الشرق الأوسط وستستحوذ على الموارد والثروات في مرحلة ما بعد الإطاحة بالدكتاتوريات.
وفي دراسة حول ارتباط المصالح الأمريكية بالأقليات؛ توقع الباحث الأمريكي جيمس لي زيادة تأثير الأقليات على الشؤون السياسية والاقتصادية في منطقة الخليج العربي، خاصة وأن إيران هي الدولة الأكبر في المنطقة وتمارس نفوذاً على عدد من الجماعات المرتبطة بها فكرياً وعقائدياً، ورأى لي أنه بات من المتعين على الدول الغربية أن تبدي اهتماماً أكبر بالعوامل الجيوسياسية في الخليج العربي بدلاً من الاقتصار على سياسة الضغط الاقتصادي والسياسي على إيران.
وفي عام 2011 نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية دراسة للباحث أ. بينات؛ انتقد فيها نزوع الأنظمة الملكية إلى المحافظة على الوضع القائم مما ينذر بعواقب وخيمة على الأوضاع الأمنية في المنطقة، وأشار الباحث إلى إمكانية أن تتعاون الإدارة الأمريكية مع إيران لدعم جماعات المعارضة بهدف تعزيز الديمقراطية في هذه الدول.
وقد مثلت مرحلة الربيع العربي فرصة سانحة لأن يتقدم مجموعة من الباحثين الغربيين بأطروحات أكثر جرأة فيما يتعلق بإعادة رسم خريطة المنطقة العربية على أسس إثنية ومذهبية؛ ففي الوقت الذي ركزت فيه الحركات الشعبية في الجمهوريات العربية على تعزيز الحريات العامة وإصلاح أنظمة الإدارة والحكم؛ انخرطت بعض مراكز الفكر الغربية في دعم توجهات جماعات اللوبي الإيراني والإسرائيلي لمناقشة المشاريع التفتيتية وترجيح كفة مطالب الجماعات المتشددة بالحكم الذاتي والانفصال السياسي.
ويمكن القول بأن المرحلة 2011-2013 قد مثلت تحولاً كبيراً في الفكر الغربي نحو ترجيح مشاريع إعادة تشكيل المنطقة على أسس فيدرالية، وذلك في ظل اضمحلال دور الدولة وانحسار الإيديولوجيا، وعجز المجتمعات العربية عن إفراز نخب سياسية ناضجة لتحل محل الأحزاب الشمولية البائدة.
ثالثاً: مرحلة الثورات الشعبية وظهور مفهوم "التجزئة داخل الحدود" (2011-2013)
في أتون حالة الفوضى التي انتابت الجمهوريات العربية ابتداء من عام 2011؛ تنامت ظاهرة الولع الغربي بخريطة المنطقة العربية؛ إذ بدأت تظهر رسومات جديدة وخرائط مستحدثة لإعادة تقسيم المنطقة وفق مصالح القوى الدولية المتنافسة، ومثل المشهد الإنساني المروع للأزمة السورية فرصة لتناول الثورات العربية من منظور جديد؛ ففي محاضرة بمدرسة: "جيرالد فورد للسياسة العامة" طرح عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر فكرة تقسيم سوريا على أسس إثنية وطائفية؛ قائلاً: "هنالك ثلاث نتائج ممكنة: انتصار الأسد، أو انتصار السنّة، أو نتيجة تنطوي على قبول مختلف القوميات بالتعايش معاً، ولكن في مناطق مستقلة ذاتياً على نحو أو آخر، بحيث لا تقمع بعضها البعض وهذه هي النتيجة التي أفضّل رؤيتها تتحقق".
والحقيقة هي أن رؤية كيسنجر لحل الأزمة السورية عبر تقسيم الكيان الجمهوري على أسس إثنية ومذهبية لا تنبع من محض هواجس ذاتية لدى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق؛ بل تأتي ضمن مراجعات تجريها مراكز الفكر الغربية وبعض الجهات الرسمية التي بدأت تدعو في مرحلة الثورات العربية إلى إعادة فرز القوى السياسية وفق معادلة تفتيتية تقوم على المحاصصة داخل إطار الدولة.
فقد رأى الباحث في جامعة هارفرد "روجر أوين" أن التسوية الغربية للمنطقة العربية عقب الحرب العالمية الأولى قد أنتجت دولاً مصطنعة لا يزال تحقيق الاستقرار متعذراً دون حكم عسكري استبدادي، مما يدفع بالمجتمع الدولي اليوم للبحث عن ترتيبات جديدة تهدف إلى تحقيق الاستقرار بصورة أكثر واقعية، وذلك من خلال إعادة تقسيم المنطقة وفق حدود جديدة تحظى باعتراف عالمي كما وقع في السودان، أو من خلال تطبيق مفهوم: "التجزئة ضمن الحدود" كما هو الحال في العراق، ورأى أوين أن السيناريو الأخير هو الأفضل بالنسبة للحالة السورية إذ إن البديل قد يتمثل في نشوء دولة فاشلة يمكن أن تؤثر سلباً على جيرانها.
وفي دراسة موازية أشار الكاتب بصحيفة "نيويورك بوست" أرنولد ألرت إلى ظهور عوامل التحلل على خريطة المنطقة العربية بعد مرور نحو قرن ساد فيه الحكم الاستعماري ثم العسكري الشمولي، ورأى ألرت أن الصورة الأنسب لضمان استقرار الكيان الجمهوري في سوريا تكمن في تأسيس نظام "ترويكا" تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين، مشدداً على ضرورة وضع المصالح الأمريكية على قمة الحسابات في ترتيبات المرحلة القادمة للبلاد.
وعلى نهج سابقيه نشر الباحث بجامعة "جورج تاون" غبريال شينمان بحثاً أشار فيه إلى أن الشرق الأوسط يدفع ثمن أخطاء الدول الغربية عندما رسمت خارطة المنطقة في مطلع القرن العشرين، مؤكداً أن مفتاح حل الأزمات السياسية في مرحلة الربيع العربي يكمن في إعادة رسم خريطة المنطقة فيما يتناسب مع طموحات الأقليات الإثنية والمذهبية، مستشهداً بمبادئ ولسون الأربعة عشر التي أقرت حق الشعوب في تقرير مصيرها خلال مفاوضات السلام التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
جدير بالذكر أن المؤسسات الإعلامية ومراكز البحث الإسرائيلية قد بادرت من جهتها إلى تبني مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي وفق مفهوم "التجزئة ضمن الحدود" باعتبارها حلقة في سلسلة الترتيبات النهائية لعملية السلام؛ فقد نشر رئيس تحرير صحيفة "هآرتز" العبرية ألوف بن مقالاً أكد فيه على ضرورة أن تسفر تطورات المنطقة عن صياغة خريطة سياسية جديدة تحترم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وذلك عبر تأسيس كيانات سياسية جديدة، وهو الأمر الذي سيكسر عزلة إسرائيل ويتيح لها مجال المناورة ويعزز فرص تواصلها مع شعوب المنطقة، واختتم بن مقالته بالقول: "لا نستطيع تجاهل أن إسرائيل هي لاعب أساسي في السعي نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وترسيم حدودها، وفي سياق متصل لن تكون إسرائيل بمنأى عن تأثيرات تفكك الدول المجاورة لها، لا سيما الأردن وسوريا والمملكة العربية السعودية، حيث يمكن لإسرائيل أن تتبنى سياسة ذكية تمكنها من تحديد الفرص الكامنة لانبثاق دول جديدة، وتساعدها على استغلال هذه الفرص، وتجعلها قادرة على احتواء عملية التحول الحتمي بهدف تعزيز قوتها ونفوذها في المنطقة".
ومنذ ظهور مؤلفه "كيف تدير العالم" عام 2011؛ يعتبر الباحث في مؤسسة "أمريكا الجديدة" باراج خانا أحد أبرز المنادين بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، حيث توقع أن يصل عدد الدول المستقلة في العالم خلال الفترة القادمة إلى 300 دولة بدلاً من 200 دولة اليوم، وبناء على ذلك فقد دعا خانا في مقال نشر بصحيفة "نيويورك تايمز" إلى التعامل مع الأزمات السياسية بالمنطقة من خلال حلول جذرية تتلخص في تأسيس دول طائفية وإثنية (علوية وكردية) في المشرق العربي، وأخرى قومية في آسيا الوسطى تحت مسمى: "أذربيجان الكبرى".
وفي مقال آخر نشرته مجلة "فورين بوليسي" بعنوان: "الانفصال قد يكون مفيداً" رأى خانا أن ولادة دولة جنوب السودان تمثل بداية الترتيبات لولادة دول جديدة في الشرق الأوسط على أسس إثنية ومذهبية، واقترح الباحث حزمة من الآليات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لضمان استمرار هذه الدول واستقرارها، منبهاً إلى ضرورة المزج بين المرونة والقسوة في تحقيق طموحات شعوب المنطقة، إذ إن البديل الوحيد لحالة "الصراع الدائم" داخل هذه الدول يكمن في منح الشعوب حق تقرير المصير مهما كانت التكلفة، ودعا الغربية إلى تقديم الدعم للهيئات الإقليمية والجماعات الانفصالية لتأهيلها حتى تكون قادرة على إنجاز عملية إعادة التقسيم.
ويمكن القول أن الأزمة السورية الراهنة قد مثلت نموذجاً لدى العديد من مراكز الفكر الغربية لتطبيق مفهوم "التجزئة ضمن الحدود" وفق النسق العراقي، حيث نشرت في الأشهر الثلاثة الماضية مجموعة من الدراسات  التي تقترح حل الأزمة السورية على أساس إعادة الفرز الجيو-سياسي ضمن إطار الحدود القائمة، ولعل أبرزها الخريطة التي نشرها "معهد دراسات الحرب" والتي توقعت تقسيم الكيان الجمهوري إلى ثلاثة أقسام: رقعة شمالية شرقية يسيطر عليها الأكراد، وأخرى وسط وشمال غربي البلاد تسيطر عليها المعارضة في حلب، وذلك مقابل الاعتراف الدولي بسيطرة النظام على دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.

رابعاَ: مشاريع التقسيم وتحديات الهوية السياسية في المشرق العربي:
استعرضت هذه الدراسة تطور وجهات نظر بعض مراكز البحث الغربية في المستقبل السياسي للمنطقة العربية خلال الفترة: 2001-2013، من خلال الإستراتيجيات الثلاث التالية:
1- طرحت مؤسسات أمريكية مقربة من دوائر اتخاذ القرار في وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين فكرة إعادة رسم الخريطة العربية، عبر استنساخ التجربة العراقية وإعادة تطبيقها في الخليج العربي، وقد استقطبت هذه المخططات اهتمام عدد من المسؤولين الأمريكيين في الفترة: 2003-2007، إلا أنه لا تتوفر دلائل واقعية تثبت اقتناع الموقف الرسمي بأي من هذه المشاريع، ولا شك أن تدهور الأوضاع الأمنية عقب الانسحاب الأمريكي من العراق قد دفع بمراكز البحث لتبني خيارات أخرى لإعادة الفرز السياسي في المنطقة.
2- في مقابل مشاريع التقسيم التي طرحتها مراكز الفكر؛ تبنت الحكومات الغربية مفاهيم تعزيز الإصلاح السياسي في البلاد العربية كخيار إستراتيجي، وترتكز هذه السياسة على إعادة صياغة الأنظمة السياسية من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي ودعم المجموعات الإثنية والمذهبية التي تطالب بدور أكبر في إدارة شؤونها ضمن إطار الدولة، وفي الفترة الممتدة ما بين 2007 و2010؛ ظهرت ملامح التعاون بين الإدارة الأمريكية وبعض المنظمات التي تمتلك أجندات مذهبية، مما أدى إلى تنامي مشاعر القلق لدى بعض الحكومات العربية، خاصة وأن هذه الجماعات قد تغلغلت في مؤسسات صنع القرار الغربي وتمكنت من توصيل منظومة من الأفكار المتعلقة برفع وتيرة تمثيلها السياسي في المنطقة.
3- في مرحلة الثورات الشعبية التي اجتاحت المنطقة في الفترة 2011-2013، بدأت تظهر مفاهيم جديدة في تطبيقات التقسيم والتي يمكن تسميتها: "التجزئة داخل الحدود" والتي تنطلق من القناعة بعدم جدوى مشاريع التقسيم في ظل المعادلة الإقليمية المعقدة.
لكن المعضلة الأكبر تكمن في عجز النخب العربية المثقفة عن التقدم بأطروحات ناضجة للتعامل مع المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي، وذلك في ظل تنامي الفكر المتطرف واضمحلال دور الدولة ومؤسسات الحكم المركزي.
وفي ظل غياب الدراسات العربية الجادة لمعالجة مشاكل الهوية السياسية في المنطقة العربية ومستقبل الكيانات الجمهورية؛ تنتج مراكز البحث الغربية دراسات تنطلق من منظور قاصر عن استيعاب المجتمعات العربية وبنيتها التعددية؛ حيث يعمد الباحثون الغربيون إلى عقد مقارنات خاطئة بين تشكل الدول العربية وتشكل الدول القومية في البلقان إثر انهيار الإمبراطوريتين: العثمانية والنمساوية-الهنغارية، ويظهر الخلط لدى الباحثين الغربيين بين مفهوم "الدولة القومية" من جهة، والدولة "الإثنية" و"المذهبية" من جهة أخرى.
وسواء كان ذلك الخلط متعمداً أو ناتجاً عن ضحالة في الرؤية لدى الباحثين الغربيين المحدثين؛ فإنه يجدر التنبيه إلى أن تشكل الدول الحديثة شرقي أوروبا قد تزامن مع وقوع حربين عالميتين كلفتا أوروبا ملايين الأرواح، وجاءت حروب التطهير الديني والعرقي في يوغوسلافيا خلال الفترة: 1991-1999 لتذكر المجتمع الدولي بأن دول أوروبا الشرقية لا تزال بعيدة عن تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي.
أما في المنطقة العربية فإنه لا يمكن تصور قيام دول مستقلة على أساس مذهبي أو إثني؛ إذ إن المجتمعات العربية تتسم بالتعددية، في حين يغلب على المدن العربية ظاهرة الاختلاط بين مختلف المجموعات مما يجعل مفاهيم الفرز السياسي على أسس إثنية ومذهبية أمراً متعذراً، وقد حاولت فرنسا إنشاء منظومة من الدول الطائفية في سوريا خلال الفترة: 1920-1936، إلا أن جميع محاولاتها باءت بالفشل.
وفي مقابل هذه الأطروحات التفتيتية التي تتبناها معاهد الغرب؛ يمكن القول بأن الوقت قد حان لتقصي النماذج الناجحة في مجال التكامل الإقليمي، وتحفيز النخب العربية لملء الفراغ والخروج بأطروحات علمية جادة لمعالجة الهوية السياسية للكيانات العربية في هذه المرحلة الحرجة من التحول البنيوي.


هيئة الشام الإسلامية

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع