..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

أسباب تأخر النصر

سيد قطب

٢٣ ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3934

 أسباب تأخر النصر
s_qoutb.jpg

شـــــارك المادة

ضمن الله للمؤمنين أنه هو تعالى يدافع عنهم، ومَن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه, ظاهر حتماً على عدوه.. ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟
وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟
وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح, والجهد والمشقة, والتضحية والآلام.. والعاقبة معروفة, والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة, ولا تضحية ولا ألم, ولا قتل ولا قتال؟!

 

 

والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا, وأن لله الحجةَ البالغة.. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا، أن الله سبحانه لم يُرد أن يكون حَمَلةُ دعوته وحماتُها من "التنابلة" الكسالى, الذين يجلسون في استرخاء, ثم يتنزل عليهم نصرُه سهلاً هيناً بلا عناء, لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء كلما مَسَّهُم الأذى ووقع عليهم الاعتداء.
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء, والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين, يُعَطِّل تلك الطاقاتِ عن الظهور, لأنه لا يُحَفِّزها ولا يدعوها. وذلك فوق أن النصرَ السريعَ الهَيِّن اللين سهلٌ فقدانه وضياعُه؛
أولاً لأنه رخيصُ الثمن لم تبذل فيه تضحياتٌ عزيزة..
وثانياً لأن الذين نالوه لم تُدَرَّبْ قواهم على الاحتفاظ به، ولم تحشد طاقاتهم وتحتشد لكسبه، فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.

من أجل هذا كله.. ومن أجل غيره مما يعلمه الله.. جعل الله دفاعَه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء.
والنصر قد يبطئ على الذين ظُلِمُوا وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فيكون هذا الإبطاء لحكمةٍ يريدها الله؟
قد يبطئ النصرُ لأن بِنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها, ولم يتم بعد تمامها, ولم تحشد بعد طاقاتها, ولم تتحفز كلُّ خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصرَ حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً.
وقد يبطئ النصرُ حتى تَبذل الأمة المؤمنة آخرَ ما في طوقها من قوة, وآخرَ ما تملكه من رصيد, فلا تستبقي عزيزاً ولا غالباً, لا تبذله هَيِّناً رخيصاً في سبيل الله.
وقد يبطئ النصرُ حتى تُجَرِّبَ الأمة المؤمنة آخرَ قواها, فتدرك أن هذه القوى وَحدَها بدون سَندٍ من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصرُ من عندِ الله عندما تبذل آخرَ ما في طوقها، ثم تَكِلُ الأمرَ بعدَها إلى الله.
وقد يبطئ النصرُ لتزيد الأمةُ المؤمنة صِلتَها بالله, وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سنداً إلا الله, ولا مُتَوَجَّهاً إلا إليه وحدَه في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله ، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نَصَرَها به الله.
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بَعدُ في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته..
فهي تقاتل لمغنم تحققه, أو تقاتل حَمِيَّة لذاتِها, أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله, بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه.
وقد سُئل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: الرَّجلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ في سَبِيلِ الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُليَا، فهو في سبيل الله».
كما قد يبطئ النصرُ لأن في الشرِّ الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقيةً من خير, يريد الله أن يُجَرِّدَ الشرَّ منها ليتمحَّض خالصاً, ويذهبَ وَحدَه هالِكاً, لا تتلبس به ذرةٌ من خير تذهب في الغمار.
وقد يبطئ النصرُ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفُه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يَجِدُ له أنصاراً من المخدوعين فيه, لم يقتنعوا بَعدُ بفسادِهِ وضرورةِ زواله، فتظل له جذورٌ في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطلُ حتى يتكشف عارياً للناس, ويذهبَ غيرَ مأسوفٍ عليه من ذي بقية.
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بَعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة لا يستقرُّ لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوسُ من حولِهِ لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه.
من أجل هذا كله.. ومن أجل غيره مما يعلمه الله.. قد يبطئ النصر, فتتضاعف التضحيات, وتتضاعف الآلام.. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.
وللنصر تكاليفُه وأعباؤه حين يتأذن الله به بَعدَ استيفاء أسبابه وأداء ثمنه, وتهيؤ الجَوِّ حوله لاستقباله واستبقائه..
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ} [الحج 40-41].
 

 

 رابطة أدباء الشام
 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع