ميشيل كيلو
تصدير المادة
المشاهدات : 6821
شـــــارك المادة
أفقت صباح أحد الأيام الماضية على بكاء زوجتي. كانت تنظر إلى الـ«آي باد» وتبكي. سألت عن السبب فوضعت الجهاز أمام عيني، فإذا برجل يدفن حيا لأنه يرفض أن يقول: «بشار الأسد ربي». كان الرجل غارقا في التراب إلى عنقه، وكان من الجلي أنه دفن واقفا، بينما تحلق حوله نفر من عناصر الأمن وفي يد كل منهم رفش.
فجأة، ظهر ضابط في المشهد، وسأل إن كان «ابن الكلب» قد شهد أن لا إله إلا بشار الأسد، فقال الرجل بصوت مخنوق: «لا إله إلا الله». عندئذ، وضع فوهة بندقية على صدغه وأمرهم بطمره، فشرعوا يهيلون التراب على رأسه وهو يكرر أن «لا إله إلا الله»، إلى أن غاب ولم يعد يظهر منه أي شيء. بعد ظهر يوم آخر، قبل ساعات من مشهد دفن الرجل حيا، كانت طائرة تقصف مخبزا في بلدة صغيرة قرب حماه اسمها حلفايا، تجمع أهلها طلبا للخبز. أما حصيلة الغارة، فكانت 300 قتيل هشمتهم القنابل التي ألقيت عليهم. ذكرتني هذه الجريمة بأمرين: جريمة نازية وقعت ضد قرية بوهيمية ذبح خلالها قرابة 300 شخص، بقيت إلى اليوم في ذاكرة عالمنا المنافق، الذي لا يرى ما يرتكب من جرائم يومية مماثلة ضد سوريا والسوريين من جميع الأعمار والفئات. وذكرتني كذلك بقصيدة للحطيئة (إن كانت الذاكرة تسعف) تصف صيادا يترصد ظبية ترد الماء، وكيف أمهلها حتى «ارتوت من عطاشها» قبل أن «يرسل فيها من كنانته سهما». هذه الواقعة اعتبرت دوما خير تجسيد لأخلاق الشهامة والكرم العربية، التي لا تجيز قتل ظبية تطلب الماء وهي عطشى. قارنت أخلاق العرب بأخلاق نظام لم يتوقف يوما عن التشدق بالعروبة وقيمها، لكنه ما إن طالبه شعبه بحقوقه أو بشيء منها، حتى سارع إلى دفن بناته وأبنائه أحياء أو قصفهم وهم ينتظرون رغيف خبز لهم ولأحبابهم. قبل أيام من قصف فرن حلفايا، قصف فرن في حلب، واليوم يقصف حي البياضة في حمص بثماني عشرة قنبلة محملة بغاز السارين السام، وغدا ستقصف سوريا الثائرة بكل ما يملكه النظام من أسلحة دمار شامل، بعد أن قصف قبلها داريا بغاز السارين القاتل إياه، دون أن يكون هناك أي رد فعل من أي جهة دولية، وخاصة الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي وضع قبل قرابة شهر خطين أحمرين شجعا السلطة الأسدية على تصعيد القتل، عندما «حذرها» من تجاوز أي منهما، فإذا هما: إسرائيل والحفاظ على الأسلحة الكيماوية كي لا تقع في يد متطرفين أو ترسل إلى حزب الله.
قال أوباما إن تدخلا فوريا سيحدث إن وقع واحد من هذين المحظورين، ففهمنا يومها أنه يطلق يد الأسد في شعبه، ويسمح له بقصفه بكل ما يملك من طائرات ومدافع ودبابات وراجمات صواريخ وصواريخ ثقيلة. وكان المدافعون الدوليون عن الإنسان وحقوقه قد أخبرونا في فترة مبكرة من الصراع أنهم قرروا أن لا يحيلوا أحدا من أرباب نظامنا وأتباعه إلى محكمة الجنايات الدولية، لسبب لا يعلمه إلا الله، رغم أن هؤلاء لم يتركوا بيتنا أو قرية أو بلدة أو مدينة سورية من شرهم، وفتكوا بالبشر كأنهم نمل ليست لهم حياة وحقوق يجب أن تحترم. للتذكير بمعنى مأساتنا: شنت إسرائيل حربا دامت عشرة أيام ضد غزة التي كانت تقصف مدنها المختلفة بالصواريخ، قتل خلالها 108 أشخاص، وهو عدد يوازي عدد من قتلوا في حلب وحدها خلال يوم واحد، مع أن حلب لم تكن تقصف أحدا بالصواريخ، بل كانت تطالب بالحرية والإصلاح. واليوم، والشهادات الميدانية المباشرة تقول إن عدد القتلى من السوريات والسوريين تجاوز عتبة المائة ألف، وعدد من تشردوا وهاموا على وجوههم وهجروا واعتقلوا ولوحقوا وعذبوا وجرحوا واختفوا بالملايين، يبدو العالم وكأنه مرتاح لما يجري، أو كأنه يشارك النظام في إدارة مجزرته المنظمة ضد شعب يتعرض منذ قرابة عامين للقتل، بعد أن تعرض قرابة نصف قرن للإذلال والاضطهاد والإهانة والنهب والإفساد، تحت سمع العالم المؤيد للنظام الأسدي وبصره. ماذا يمكننا أن نقول عن عالم يسكت على هذه المأساة الإنسانية المرعبة؟ وهل نصدق بعد اليوم أن هناك مؤمنين بالإنسان ومدافعين عن حياته وحقوقه، إذا كان ذبح البشر يتم بأكثر الصور علنية وأكثر الأسلحة الحديثة فتكا، دون أن يثير أدنى شعور بالشفقة، ناهيك عن الاعتراض لدى المتفرجين، الذين ينقسمون إلى مؤيدين مصفقين وآخرين صامتين، وفي الحالتين إلى شهود لا يرون شيئا مما يجري، كأن موت السوريين بالجملة لا يعني شيئا، أو كأنهم نمل وليسوا بشرا؟ أليس العالم متواطئا بصمته وموافقته وشريكا في القتل؟
وهو الذي عطل الحمايات القانونية والإنسانية لشعب يباد كالذباب، وبدأ قتله البارحة بالغازات السامة في كل من حمص وداريا، دون أن يصدر ولو رد فعل كلامي على ما وقع، أو يتحرك أصحاب الخطوط الحمراء، التي يبدو أنها لم تبطل ما أعطوه للنظام خلال نصف قرن من خطوط خضراء وبيضاء، تمكنه أن يفعل ما يريد؟ وهل سيعيد العالم السوريات والسوريين إلى الحياة من خلال تصريحات طافحة بالكذب والرياء تتحدث عن التقصير، مثلما حدث في حالات مماثلة سابقة، وقع تجاوزها دوما بواسطة تعهدات لفظية تنم عن انعدام الإنسانية والضمير لدى من أطلقوها، تدعي أنهم لن يسمحوا بتكرارها، لكن هذا لم يمنعهم من الوقوف مكتوفي الأيدي طيلة قرابة عامين على مذبحة منظمة بإتقان ضد شعب سوريا: أحد أقدم الشعوب المتحضرة، الذي يعصف القتل بكل شيء لديه، بما في ذلك أوابده التاريخية التي تتعرض لقصف منهجي يدمرها ويمحوها من الوجود، أو يجعلها عرضة للسرقة والتشويه، مع أنها إرث إنساني يلزم القانون الدولي جميع البلدان بالمحافظة عليه وحمايته؟ ليس الموقف الدولي مما يجري في سوريا مقبولا بأي معيار، ولا شك في أنه ستكون له نتائج خطيرة على حقوق وحياة البشر والشعوب في كل زمان ومكان، وعلى أمن وسلام عالم أثبت أنه لا يقيم وزنا للإنسان، فلا عاصم له عن دفع ثمن فادح سيترتب على امتناعه المقصود عن صيانة أمنه الخاص عبر امتناعه عن احترام ما يمليه القانون الدولي والتضامن الإنساني من احترام حق السوريين في الحياة والحرية والأمان.
ثم لا يخجلون من أنفسهم، ويحدثونك عن جنوح ضحايا الإبادة الشاملة إلى التطرف!
الشرق الأوسط
مجاهد مأمون ديرانية
أحمد أبازيد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة