..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

كتب عليكم القتال وهو كره لكم

البهي الخولي

١٤ أغسطس ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 10562

كتب عليكم القتال وهو كره لكم
عليكم القتال.png

شـــــارك المادة

القرآن الكريم رسالة السعادة، ودستور السلام، السلام الروحي في سريرة المؤمن، والسلام الاجتماعي فيما يأخذ الناس ويدعون من شئون الحياة.
وقد يكون من العجيب أن نرى كتاب السلام يحض على القتال ويجعله على المؤمنين به فريضة مكتوبة في مقل قوله تعالى:[كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ] {البقرة:216}.

 


فإن السلام والقتال يبدوان في التقدير العام أو في رأي النظرة العابرة ضدين لا يلتقيان في رسالة واحدة، ولكن التفكير الهادئ والنظر المتدبر، لا يرى في ذلك أي داعية من دواعي العجب، ويرى افتراض القتال لوناً من ألوان السلم، أو ضرورة من الضرورات لإقراره، على ما فيه من مكاره العناء والبذل، وما يصيب الناس من جروح وتشويه، وإزالة لبعض أعضاء البدن، وإزهاق للروح، على نحو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله:[كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] {البقرة:216}.

وليس المعول عليه في حقيقة السلم، أن تتكدس أموال الناس وتسلم من التلف، أو أن تترف أبدانهم، وتنجو من العطب، فالسلم في الحقيقة سلم الروح، حين تزدهر في المجتمع رياض الخير والفضيلة والمثل العليا، والحرب حرب الروح، حين يُقفر المجتمع من صور الإيثار والسماحة والفضل، والكرامة والطهر.
ورب سلْم شر على فضائل الإنسان من كل حرب، ورب حرب يتنسم فيها ضمير المرء روح اليقين وأريج الملأ الأعلى، وهو مما يعنيه الحق سبحانه بقوله: [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ] {البقرة:216}. [وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا] {الحج:40}.
ذلك هو القتال الحق الذي كتبه الله على المسلمين، أما الفرنجة فأمرهم كله حرب، سلمهم سلم للإثم والشهوة والترف والتحلل من كل فضيلة روحية... وحربهم حرب ينفخ فيها شيطان الأنانية، والبغي والغدر، والطمع الذي لا يقف عند حد، فهم مع أنفسهم ومع الله في حرب دائمة نعوذ بالله منها...
والقرآن الكريم حين يعرض لوقائع القتال، لا ينحو في تسجيلها نحو المؤرخين، ولا يسرد أنباءها سرد المراسلين الحربيين، ولكنه نمط عجيب يعرض عليك من حوادث الأبطال، وكلمات الرجال، ما هو جدير بالخلود والتسجيل...نمط يريك الروح المعنوية للمقاتل المسلم، أعظم ما تكون الروح المعنوية قوة، وأنقى ما تكون طهراً، وأصفى ما تكون إشراقاً...
على أن هذا النمط ينفرد بلون من الإعجاز، إذ يبث في ثنايا الحوادث والمقالات، قوانين الحرب، وأحكام القتال، وآداب الجهاد... فتقرأ حين تقرأ دروساً في البطولات القوية المثيرة، دون أن تشعر بما اعتاد الناس أن يشعروا به حين قراءة القوانين من الملل والركود... فهي بطولة مؤسسة على القانون... وقانون يعرض نفسه عليك في أنباء البطولة، فإن قلت: إن سر القانون لبس القوم فكانوا أبطالاً، فأنت صادق، وإن قلت: إن القوم صاغوا بأعمالهم صوراً حية لهذه القوانين فأنت صادق،  والقرآن الكريم إنما يرمي إلى كلا المعنيين: يشيد بفضل القوانين ليبعث بالهمم إليها، ويشيد بأعمال المؤمنين لتكون منوالاً لمن ينسج عليها.
والمقام يقتضينا أن نورد طرفاً من آداب هذا القتال الكريم، وقوانينه التي تُظهر سموه وفضله، ذهاباً مع نفحة الخير التي تطالعنا كلما عرضنا للون من توجيهات القرآن الكريم.
1 ـ فمن هذه الآداب والقوانين ما يوجب أن يكون القتال في سبيل الله: وقد قرأ المسلمون هذه المادة وفهموها، ورعوها حق رعايتها، لأن قلوبهم استوعبتها، وآمنت بها حق الإيمان ونحن نكتفي بأنواع ثلاثة من ألوان القتال في سبيل الله.
الأول: نشر توحيد الله سبحانه، وتحرير عقائد الناس من الخضوع لأي طاغوت يتعارض مع هذا التوحيد، وذلك إذ يقول الله تعالى:[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ] {الأنفال:39}. أي: أن تكون أوضاع الناس في معاملاتهم وخفايا سرائرهم محكومة بسر: لا إله إلا الله.
الثاني: تحرير الأوطان وتخليص أهلها المستضعفين من ذل السيطرة الأجنبية، والله تعالى يقول: [وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] {النساء:75} .
الثالث: تأديب الغادرين الذين نكثوا أيمانهم ونقضوا عهودهم، وهذا قول الله سبحانه:[أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ] {التوبة:13}.
وقد نزل هذا القرآن في مشركي قريش لما نقضوا عهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ـ ومن هذه القوانين ما يوجب على المقاتل أن لا ينتظر أجراً على قتاله إلا من الله سبحانه، وذلك قوله تعالى:[فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ] {النساء:74}. أما الذين يشرون الحياة الآخرة بالدنيا فليسوا من أهل هذا القانون.
وجزاء الله مكفول لا محالة في الدنيا لمن كتب لهم النصر والغلبة، ومكفول في الآخرة لجميع المقاتلين:[فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:74}.[قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ] {التوبة:52}. والحسنيان هنا هما: النصر في الدنيا، وأجر الشهادة في الآخرة إذا كان القتل...
وأحب بهذه المناسبة أن أنبه إلى خطأ يقع فيه بعضهم بحسن نية، ذلك أنه يفسر إحدى الحسنين بأنها مغانم القتال عند النصر، والأخرى بأنها ثواب الشهادة...
ووجه الخطأ أن المقاتل المسلم إنما يبغي وجه الله لا وجه عرض من أعراض الدنيا، ومقصد القتال في سبيل الله، مقصد سامٍ جليل، يجب أن ننزهه عن أن يكون وسيلة لأعراض رخيصة كهذه.
هذا إلى أن جعل مغانم القتال إحدى الحسنيين في مقابل أجر الشهادة في الآخرة مما لا يسيغه أهل الفقه المستنير، فأين هذه المغانم اليسيرة مما أعده الله للشهداء من جزاء لا يحيط به وصف الواصفين؟ والله تبارك وتعالى يقول: [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ] {النساء:77 }. فانظر ماذا تقع هذه المغانم من متاع الدنيا القليل، ثم انظر ماذا تقع من أجر الشهادة الضخم الجزيل... وسل نفسك بعد هذا: هل تطمئن إلى أن تكون هذه المغانم في ميزان الله إحدى الحسنيين مقابل أجر الشهداء؟!.
إن الذي يطمئن إليه ضمير المؤمن، أن تكون عزة النصر هي إحدى هاتين الحسنيين، وهو الذي يساير قول الله تعالى:[ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:74}. فهل يسمي الله مغانم الحرب أجراً عظيماً، وهو الذي يقول عن متاع الدنيا كلها: إنه قليل؟
وبعد فما كان المؤمنون عبيد درهم ولا دينار، وهم يحملون سيوفهم بأيديهم، وقلوبهم في صدورهم لا تهتف إلا بالله ولا تنظر إلا لثوابه... فإذا وقع أخيراً بين أيديهم شيء من الأسلاب والغنائم، فهو شيء قد أحله الله لهم، ولكنه لا يمكن أن ينزل في قلوبهم منزلة الفرح بنصر الله سبحانه.
3 ـ ومن هذه الآداب ما ينص على أن مصدر القوة والتأييد الذي يلقاه المسلمون في قتالهم، هو الله سبحانه وتعالى، فليس لمخلوق قوة ذاتية إلا أن تكون مستمدة منه جل شأنه... وقد وصف الله ذاته بأنه القوي، وأنه ذو القوة المتين، وأنه القاهر فوق عباده، ولكن الجامع لقوته سبحانه، المانع أن يكون لغيره قوة، هو قوله تعالى:[ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ] {الكهف:39}.
فإذا حرك المؤمن يده ليضرب بها، فإنما يحركها بقوة الله، لا بقوته هو: [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ] {التوبة:14}. وكم صرع المسلمون الرجال، وجندلوا الأبطال، فنزل القول الحكيم يقرر الحق فيما فعلوا:[فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ] {الأنفال:17}.
ولقد جاء الرجل فقال: يا رسول الله إن القوم قد جمعوا لك عددهم وعدتهم، وأرى أن تستقبل أمرك بشيء من الحذر والخشية، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عرش الله، فإذا قوة ساحقة ماحقة، لو توجهت إلى كل من في الأرض وما في الأرض جميعاً لجعلته لا شيء، فزاد إيمانه صلى الله عليه وسلم بالله، وقال: حسبنا الله:[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ]{آل عمران:173}.
وليس هذا بغريب ممن أدبه الله بمثل هذا الأدب في قوله:[أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ] {الملك:20}.
ولقد كان بعض المسلمين يدخل عليهم أحياناً ـ من باب السهو ـ شيء من الإعجاب بكثرتهم، فيحيق بهم في الحال ما يردهم إلى حقيقة قانون الله:[ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25}.
4 ـ ومن قوانين هذا الدستور الحربي الكريم، أن نصر الله ليس هبة توهب، ولا منحة تمنح بدون مقابل، وإنما شرطه أن ينبعث المرء فعلاً إلى الجهاد في سبيل الله:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] {محمد:7}. فمن تمنى على الله الأماني وقعد في بيته ينتظر أن ينصره الله، فقد دل من نفسه على غفلة خائبة، وأضاع عمره في غير جدوى.
ونظام العمل في هذه المادة أن تنهض نهضة قوية شاملة، وأن نأخذ بكل الأسباب الممكنة، وأن نعذر إلى الله باستفراغ كل ما في الطاقة من جهد، و لو كان جهد المقل، فهذا وحده مفتاح نصر الله، وهو وحده السر الذي تحرك به جنود الله في السماء والأرض.
واعلم أن كثيراً من آيات القرآن الكريم تدور حول هذه القوانين، وتتصل بها من قريب أو بعيد، فتشرحها شرحاً مستفيضاً... و لو أردنا أن نسردها كلها لامتد بنا القول، ولكن حسبنا ما مضى.
وأعود أخيراً فأقرر أن القرآن الكريم في هذه الناحية لا يسرد أخبار الجيوش وحركات الجند، بل يقرر هذه القوانين ونحوها، ويذكر من أقوال المجاهدين وأعمالهم ما هو تطبيق لها، وتفسير عملي لأسرارها، وتجريب واقعي لصحة موعودها، فلابد من استحضار هذا كله في الذهن، عندما نقرأ أنباء هذا اللون الدامي من ألوان الجهاد في سبيل الله، فإن الآية حينئذ تفصح لنا عن مكنونها، بأكثر مما كانت تفصح من قبل.
واقرأ على هذا إن شئت غزوات: بدر، وبني النضير، وأحد، والخندق، وبني قريظة، والحديبية، وحنين، وتبوك، في سورة آل عمران، والأنفال والتوبة، والأحزاب والفتح و الحشر، فإنك واجد إن شاء الله ما حدثناك به.
نسأله سبحانه أن يهدينا بهديه، وأن يجعل كتابه الكريم ربيع قلوبنا، وجلاء بصائرنا، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم


المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة الرابعة عشرة، جمادى الأولى 1376هـ العدد الخامس.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع