..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

من كان يعبد بشاراً فإنه قد مات !

مجاهد مأمون ديرانية

٢٢ مايو ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4109

من كان يعبد بشاراً فإنه قد مات !
hafez.jpg

شـــــارك المادة

لا، لم يمت وأنا أكتب هذه الكلمات، ولو مات فإني لم أسمع بخبر موته بعد، لكنه سيموت ذات يوم بعيد أو قريب: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخُلْدَ، أفئن متَّ فهمُ الخالدون؟}، وإني لأنظر بعين الخيال إلى ذلك اليوم فأرى صنفين من الناس سيقولون: لا، لم يمت!

الأولون لا شأن لي بهم، أولئك الذين عبدوه حياً -وما أسخفه من معبود!- ولعلهم إذا مات حملوا السيوف وقالوا: بشار إلهنا الذي لا يموت، ومن زعم أنه مات قطعنا عنقه. قطع الله أعناقهم وألحقهم به في قعر الجحيم. ثم سيعبدونه ميتاً كما عبدوه حياً فيقولون: إنه لم يَمُتْ ولكنه ارتقى إلى السحاب أو غاب في السرداب. ولقد قالها من قبل آخرون، فما أشد سفاهةَ العقول حين تُسِفّ العقول!

الصنف الثاني هم الذين أريدهم اليوم، وهم قوم منّا عرّفتني بهم الحادثةُ الأخيرة التي تابعتها متابعة حثيثة من الساعة الأولى التي صدر فيها البيان الموجز لكتائب الصحابة، وقد وصلني بالبريد من الإخوة في “تجمع أحرار دمشق وريفها للتغيير السلمي”، فإنهم أدرجوني -مشكورين- على قائمتهم البريدية منذ شهور فصرت أتلقى منهم التقاريرَ القيّمة التي ينشرونها كل يوم ويُجملون فيها أخبارَ الثورة في دمشق وريف دمشق. تابعت الخبر وقرأت كل ما نُشر عليه من تعليقات خلال الساعات التالية حتى الصباح، وكذلك التعليقات التي نُشرت في صفحة كتائب الصحابة، فوجدت أن أكثرها يميل إلى التشكيك وصولاً إلى النفي والتكذيب، وبلغ الغضب بفريق صغير من القراء إلى هجاء الصفحتَين ومديرَيهما واتهامهما بالتلفيق.

تلك التعليقات ساءتني وسرّتني معاً. تقولون: ولكنهما ضدّان لا يجتمعان؟ بلى، لقد اجتمعا، ومنهما جاءت هذه المقالة.

*   *   *

سرّني الحذر الذي دفع أصحابَه إلى إنكار الخبر وتكذيبه. أولئك قوم  يستحقون التهنئة والإكبار، وإنّا لَنحتاج من أمثالهم الكثير ليوازنوا الأعداد الكبيرة من الناس الذين ينساقون وراء كل إشاعة بلا تمحيص ولا تفكير. ولكني أوجّه إليهم كلمة أرجو أن يقبلوها مني.

قبل عدة سنوات كتبت مقالة طويلة تحدثت فيها عن الوباء العقلي الذي اجتاح عقول المسلمين حتى جعلَنا أضحوكة بين الأمم، فلا يكاد فضاء الشبكة العالمية (الإنترنت) يتعافى من حملة محمومة لترويج “خبر القرن” حتى يتدفق فيه خبر جديد، وفي كل مرة تتعاون جيوش خفية من “المحتسبين” لنشر الخبر بكل سبيل، برسائل البريد وعبر المنتديات والمواقع والصفحات. فمرة ينتشر خبر الفتاة التي انقلبت قرداً أو نعجة لأنها استهزأت بالقرآن، ومرة صورة المحارة التي وجدوها في قاع البحر وقد نُحت داخلها لفظ الجلالة… ولا تزال الرسائل تصلك مذيّلةً بتلك العبارة السحرية: “انشر تؤجَر”! ويا ليتهم استبدلوا بالكلمة الأولى غيرَها فصارت العبارة: “فكّر تؤجَر”، فإن التفكير هو الذي أُمِرْنا به وإذا أجبنا الأمرَ أُجِرْنا، حتى لقد سمّاه العقاد رحمه الله “فريضة” وخصص له كتاباً من كتبه جعل عنوانه “التفكير فريضة إسلامية”.

في تلك المقالة قلت إن كل واحد منا ينبغي أن تكون له “مصفاة عقلية” يصفّي بها ما يستقبله عقلُه من معلومات وبيانات، مما يتدفق عليه من الكتب والصحف والإنترنت والإذاعات والفضائيات. وماذا تعمل المصفاة؟ إنها ذات ثقوب تسمح للمادة الصافية بالمرور وتحتجز الشوائب، وكلما كانت فتحاتها أوسع كلما سمحت بمرور مزيد من الشوائب، من أكاذيب وتُرّهات وخزعبلات، وكلما كانت الثقوب أضيق كانت المادة المتلقّاة نقية صافية تستحق التصديق والاحترام.

مشكلة “الثقوب الواسعة” هي الأكثر انتشاراً بين الناس، إنها مشكلة أكثر العوام، تقابلها مشكلة أقل انتشاراً هي “الثقوب المسدودة”، وهي مشكلة بعض المثقفين، وكما قال الشاعر: “كلا طرفَي قَصْد الأمور ذميمُ”. من كانت ثقوب مصفاته العقلية واسعة فإنه يشبه حاسوباً لم يزوَّد بمكافح فيروسات، فتتسلل إليه الملفات المحمّلة بأنواع مختلفة منها دون أن يمنعها مانع، وبعد حين يصبح الحاسوب ملوثاً بالفيروسات وعاجزاً عن العمل بكفاءة. الآخر صاحب المصفاة المسدودة الثقوب يشبه حاسوباً مزوداً ببرنامج حماية يحظر كل الملفات المستقبَلة تلقائياً، فهو أبداً رافضٌ لها ولا يكاد يستفيد صاحبُه منه بشيء.

*   *   *

لا أريد أن يغيّر العقلاء عادتَهم في الشك والاحتياط، فإنها عادة نافعة، ولكن أتمنى أن يضبطوها بضابط مفيد. إذا أتاك خبر غريب فلا تعجل بردّه قبل أن تفحص سنده ومَتْنه؛ فإذا كان المتن (المحتوى) ممكناً غيرَ مستحيل، ولو بدا غريباً، فإنه لا ينبغي ردّه وإنكاره قبل فحص المصدر، فإذا كان المصدر موثوقاً أو كان الناقل الذي نقل الخبر أميناً عاقلاً فإن الخبر جدير بأن يُفحَص ويُتقصّى بحذر واهتمام، وكثيراً ما يكون صحيحاً.

خذوا الحادثة الأخيرة مثالاً على ما سبق. عندما وصلني الخبر -أولَ ما وصلني- استكبرته وشككت فيه للوهلة الأولى، ولو أنه وصل من مصدر مجهول لاطّرحته وما باليت به، فما أكثر ما تدور الأخبار “الموضوعة” في فضاء الإنترنت. ولكنه وصل من مصدر معروف موثوق، فإنّي متابع لما ينشره “تجمع أحرار دمشق” منذ شهور طويلة، وما وجدت عند أصحابه مبالغة ولا تسرّعاً ولا رأيت قط ترويجاً لخبر باطل، فهم إذن مصدر آمن. ذهبت إلى صفحتهم فوجدت الخبر مثبتاً في أعلاها، فتساءلت: هل يمكن أن تكون الصفحة مخترَقة؟ لم أستطع الجواب على هذا السؤال بنفسي لقلّة علمي، ثم طمأنني مالك، ابن أخي مؤمن، وهو فقيه في هذه المسائل، فقال إنه فحص الصفحة وروابطها وتحقق من سلامتها (وأنا لا أعرف ما معنى الروابط ولا أعرف كيف تُفحَص، ولكني وثقت بفحص الفاحص لثقتي بعلمه وأمانته).

بقي عليّ أخيراً أن أفحص الخبر، فسألت نفسي: هل هو مستحيل؟ الجواب: لا، غاية ما هنالك أنه صعب التحقيق ومستبعَد الوقوع. إذن فإن إنكاره ورفضه بالكلّية يعني أنني قليل الثقة بإخواننا الذين يخوضون الحرب ضد النظام، ويعني أيضاً أنني ضعيف الأمل بالله وبنصر الله. أنا لا أحب أن أكون قليل الثقة بأصحاب الثورة وبالعاملين الصادقين المخلصين فيها، ولا أرتضي لنفسي أن يكون أملي بالله وبنصر الله ضعيفاً متهافتاً، فمن ثَمّ لم أجد مانعاً يمنعني من قبول الخبر رغم غرابته ومفاجأته.

*   *   *

إن تكذيب الخبر الغريب المفرح قد يكون سلوكاً عقلياً وقد يكون سلوكاً نفسياً. في الحالة الأولى يرفض العقل التصديقَ لأنه محصَّن ضد الاختراق العشوائي ولا يسمح بأن يُخدَع بالشائعات الكاذبة والأخبار الملفقة، وهذا أمر حسن كما قلت آنفاً، وهو الذي سرّني. ما ساءني هو الآخر. لماذا؟ لأن “الرفض النفسي” سبُبه تحصينٌ ذاتي يحصّننا به عقلنا اللاواعي لتفادي الإحباط وخيبة الأمل. سأضرب مثالاً: بعض المتاجر تنظم أحياناً مسابقات ترويجية فتوزع قسائم للمشترين ثم تُجري سحباً عشوائياً، فمن سُحب رقمه فاز بسيّارة جديدة. هذا النوع من المسابقات مشروع إذا كان المشتري محتاجاً إلى البضاعة وكان في نيته شراؤها على أية حال، أما إذا اشتراها من أجل قسيمتها فعندئذ يتحول إلى مَيْسِر (قمار) محرّم، والله أعلم. لو أن مشترياً حصل على القسيمة ومضى يُمَنّي نفسه بالربح ويتخيل السيارة الجديدة وقد صارت له، ثم لم يَفُز (وهو غالباً لن يفوز لأن احتمال الفوز أضأل من الضآلة) فإنه سيصاب بإحباط وخيبة أمل، فمن أجل ذلك يحمي بعض الناس أنفسَهم فيستبعدون احتمال الفوز ولا يفكرون به، أو يصنعون مثلي فيتركون القسائم للبائع ولا يبالون بأخذها أصلاً.

هذا السلوك النفسي ليس أمراً معزولاً مستقلاً بذاته، بل هو امتداد لقناعة يتبناها العقل، تقول إن الفرصة في الفوز شبه معدومة لأنها قد تبلغ واحداً في المليون أو أقل من ذلك (أليست قسيمتي واحدة من مليون قسيمة يطبعونها ويوزعونها؟) وهنا بيت القصيد: إن الذين مارسوا هذا السلوك النفسي وكان هو دافعَهم إلى تكذيب خبر ضرب “الخلية الأمنية” وقتل من قُتل من مجرميها الكبار، هؤلاء استقرت في عقولهم الباطنة (اللاواعية) قناعةٌ تقول إن ضرب النظام ضربةً قاصمة أمرٌ مستحيل أو شبه مستحيل، أو بعبارة أخرى: لقد استوطن اليأسُ قلوبهم.

لماذا يا عباد الله؟ أتستكثرون على الله أن يمدّ جنوده بنصر كبير؟ أمَا إنهم ما كانوا ليستحقوا هذا النصر لو أنهم قعدوا في بيوتهم ومدوا أيديهم إلى السماء يطلبون النصر، ولكنهم لم يفعلوا. لقد توكلوا على الله واستنصروه، ثم قاموا فشمّروا الأكمام عن السواعد وانطلقوا يعملون، يجمعون الأخبار ويُعدّون العدّة ويضعون الخطط ويجتهدون في التنفيذ؛ فإنهم قد جمعوا شرطَي الفلاح: عملوا وتوكلوا على الله. فلماذا لا ينصرهم الله؟

يا أيها اليائسون: استبشروا بنصر الله، انشروا التفاؤل وانثروا الأمل، فإن نصر الله الكبير آت بإذنه تعالى، سيأتي فجأة وأنتم لا تشعرون. من منكم قطع ذات يوم سلكاً بغير قطّاعة؟ ما أكثر ما صنعنا ذلك ونحن صغار؛ تأخذ السلك وتطويه ثم تفتحه، وتكرر ذلك مرات ومرات، وإذا بالسلك ينقطع قطعتين بعد حين. ربما انقطع بعد خمسين محاولة أو سبعين أو تسعين؛ كان قبل الثنية الأخيرة قطعة واحدة ثم غدا قطعتين، ولكن الذي شطره لم تكن تلك الثنية، بل تراكم الثنيات السابقات جميعاً.

نعم، إن الحوادث الكبيرة ستأتي فجأة، ولكنها لن تأتي من عدم، إنها ستكون نتيجة الضغط المتراكم والعمل الدؤوب الذي اشترك فيه عشرة ملايين من أبطال سوريا وثابروا عليه الزمنَ الطويل. يا أيها الناس: لا تستغربوا إن استيقظتم ذات صباح فكان أول ما سمعتموه من أخبار: لقد قُتل بشار الأسد واستسلم النظام للثوار.

                                                                                                                           المصدر: مدونة الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع