..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

ويأبى الله إلا أن يتم نوره..!

محمد علي الشيخي

١٦ إبريل ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 10213

ويأبى الله إلا أن يتم نوره..!
14.jpeg

شـــــارك المادة

الحمد لله العزيز ذو القوة المتين، والصلاة والسلام على رسول الله الموعود منه بالنصر والتمكين. وبعد:
فإن الكيد لدين الله قديم، منذ أن خلق الله آدم واصطفاه، فشرِق إبليس بذلك ومضى هو وأولياؤه في كيدهم وطغيانهم يعمهون، فحصل من العداوة لدين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام ما هو ومعلوم، ولكن مهما فعل أعداء الله فإنهم خاسرون، ومهما بذلوا وأتوا به من صور الكيد فإنهم مدحورون.


فلقد وعد الله - عز وجل - بإتمام نوره، وظهور دينه، ونصر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - تعالى -: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال - سبحانه -: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. فكان هذا الوعد عند الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يقين لا يخالجه أدنى شك، بل كان هذا الوعد هو سلاح الطمأنينة بالفوز والظفر على الأعداء، ورد كيدهم؛ فاطمأنّ الرسل إلى وعد الله، وزادت ثقتهم بالله - عز وجل -، وكان ذلك مدداً لهم، وزاداً في طريق إبلاغ الرسالة. بل والبشارة بالنصر وحسن العاقبة، وظهور دين الله.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر، إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر )). [المسند عن تميم الداري: 4/ 103]
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: ((لا يبقى على الأرض بيت مدر، ولا وبر، إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز، أو بذل ذليل)) [المسند عن المقداد: 6/ 4]. بل ويقسم - صلى الله عليه وسلم - على إتمام هذا الدين فيقول: ((والله! ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئبَ على غنمه)) [البخاري عن خباب: (3612) 2/ 531، وأبو داود (2649) 3/108، وأحمد: 5/109].
وهذه النصوص النبوية كالتفسير لقول الله - تعالى -: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، ثم إنها تصديق من النبي - صلى الله عليه وسلم - بوعد الله - تعالى - أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأن يظهر دينه على الدين كله، ولو كره المشركون. وقد كان من ذلك ما شاء الله.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "فإنما يكون الظهور على سائر الأديان بالحجة والبرهان، ويُظهر الله أهله القائمين به، بالسيف والسنان. فأما نفس هذا الدين، فهذا الوصف، ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم، إلا فَلَجَهُ - غلبه- وصار له الظهور والقهر. وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بدّ أن يظهر على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم. ويُعرف هذا من استقراء الأحوال، والنظر في أول المسلمين وآخرهم". [تيسير الكريم الرحمن 5/ 532، 533].
ولعل ضعفاء العقول من الكفار، أو بعض جهلة المسلمين تُراودهم بعض الشكوك حيال هذا الوعد الإلهي الصادق في مقابل ما يرون اليوم من تفرق كلمة المسلمين، وضعف شوكتهم، مع تسلط أمم الكفر، وازدياد قوتهم الظاهرية، حتى ظن هؤلاء أن كيد الكافرين قد أثمر، وأنه بات بالإمكان اليوم إطفاء نور الله!
وهذه شبهة بيّنٌ عوارها، وظاهر بطلانها.
ولكشف زيف هذا الباطل، أقول مستعيناً بالله:
ليس بدعاً من كيد الكفار الترويج لباطلهم، فهم أهل الكذب والبهتان، منذ أن قال فرعون عن موسى - عليه السلام - إفكاً وتضليلاً: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} يقصد السحرة الذين جمعهم هو، ووعدهم العطايا الثمينة، فلما آمنوا للتو؛ بادر بكذبه وبـهتانه؛ ليصرف الناس عن قبول الحق، فوصفه بالسحر. وزعم أن موسى هو الذي علّم السحرة السحر!
هكذا مغالطةً وتبجحاً، والله يقول مفنداً باطله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}. وكذلك قال مشركو قريش لما رأوا انشقاق القمر آية للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وأشفقوا أن يؤمن الناس، ولم يجدوا لأنفسهم حيلة أمام هذه الآية الجلية إلا المكابرة والبهتان والإعراض، كما قال الله - تعالى - عنهم: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي: فهذا شأنهم تجاه كل آية، حتى فيما استقبل من الزمان، فموقفهم دائماً هو الإعراض والتكذيب، والدعاوى الباطلة.
وهذا من جنس الشبهة التي تثيرها أبواق الكفر في زماننا: من نبز المسلمين بالتخلف، والوحشية، والإرهاب؛ ليصدوا الناس عن سبيل الله، كما فعل أسلافهم من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فإنَّ من تأمل مراحل كيد الكافرين الغابرين واللاحقين للإسلام يرى عجباً من العجب!
يرى الاستعلاء الطائش، والسعي في الأرض فساداً.
ولو كانت لهم أعين يبصرون بها، أو قلوب يعقلون بها؛ لتبين لهم ما هم فيه من الوهم الأجوف، وأن كيدهم كله فيما مضى من الزمان، وفيما يأتي، لا يعدو أن يكون زوبعة غبار، أو دخان، لا يلبث أمام الناظر إلا برهة، فإذا هو لا شيء. !
فمن كان ينشد الحق منهم فليرجع من قريب. فإن الحياة الدنيا مدتها قصيرة، ونهايتها معلومة. والندم إذا وقع لا ينفع.
وليتأمل المنصف الأمثلة التالية لكيد الكفار لدين الله؛ ثم يستقرئ منها ما ظفر به هؤلاء المغرورون، وما حل بهم من مكر الله وانتقامه الأليم!
فأول ذلك: ما سبقت الإشارة إلى طرف منه، وهو كيد فرعون ومحاولته إطفاء نور الله الذي أرسل الله به نبيه موسى - عليه السلام -، وسولت له نفسه ذلك، وزيّنه له الشيطان. مع أنه رأى الهزيمة في أول موقف له أمام الحق، وأصابه الفشل عندما غُلب أما الجموع الحاشدة يوم الزينة، حينما دعا موسى - عليه السلام - للتحدي إمعاناً في إبطال الحق، وأراد أن يغطي سوءة العار الذي جلبه على نفسه، وهزيمته أمام جنده عندما آمن السحرة الذين جمعهم هو. فلما لم يجد بُداً من العناد فقال متوعداً لهم، ومهدداً لغيرهم لئلا يؤمنوا: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}، أراد عدو الله بذلك أن لا يرى مؤمناً في مملكته. وألا يكون أحد من الناس مهتدياً بنور الله وداعياً إليه. ثم مضى في استكباره، فقال مقالته الفاجرة: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وقام تارة أخرى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.
وقد قص الله علينا في كتابه الكريم صوراً من ذلك الجهد الحثيث لإطفاء نور الله، قبل مبعث موسى - عليه السلام - عندما قتّل فرعونُ أطفال بني إسرائيل خشية وجود موسى، فوقع ما حذر منه. بل وُجِد ذلك في قصره، ونشأ موسى أمام ناظريه. محاطاً برعاية الله وتأييده.
والسؤال الآن: ما هي النتيجة لهذا الكيد المقيت لدين الله، هل ظفر فرعون بمراده وبغيته؟.
والجواب على ذلك كان أسرع مما كان يتوقعه عدو الله، وما هي إلا فترة وجيزة من عبثه، فإذا هو عبرة لمن اعتبر، وخبر من الأخبار، قصّه الله علينا في قوله - سبحانه -: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}. وفي مقابل ذلك بيّن - تعالى - أن الغلبة والنصر كانت لنبيه موسى - عليه السلام – والمؤمنين، فقال - عز وجل -: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}.
وثانياً: موقف كفار بني إسرائيل بعد موسى - عليه الصلاة والسلام -.
لقد أخبر الله - جل وعلا - عنهم في كتابه الكريم أنهم كثيراً ما حاولوا إطفاء نور الله، تارة بالشرك بالله وعبادتهم العجل، وتارة بتحريف التوراة، وأخرى بقتل الأنبياء. !
وقبل ذلك إدعاء الولد لله - عز وجل -، ووصفه - سبحانه - بالبخل، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
يقول - تعالى - مبيناً عاقبة ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. ويقول - سبحانه - عنهم أيضاً: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا *وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
ثم يذكر - تعالى - بعض قبائحهم الأخرى التي يحادون به الله - تعالى -، مع بيان عاقبة طغيانهم وكفرهم، فيقول - سبحانه -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، فعاقبهم الله على هذا الطغيان بالعداوة فيما بينهم والذلة إلى يوم القيامة، فقال - عز وجل -: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
وثالثاً: موقف مشركي العرب من دين الله، وخصوصاً قريش.
فإن من طالع كتب السيرة؛ فلا بدّ أن يستوقفه ذلك الكيد المضني، الذي حاول فيه كفار مكة النيل من هذا الدين، أو وَأدِه في مهده.
فكان لهم في ذلك صولات وجولات لإطفاء نور الله. فتارة بتسفيه رأي من آمن به وتعذيبه، وتارة بنبز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبشع الألقاب: من الشعر والسحر والكهانة والجنون. وهم يعلمون صدقه وأمانته وعظيم خُلقه، إلا إنهم نحّوا ذلك جانباً، وجدّوا في الكيد له بكل ما أوتوا من قوة وحوْلٍ ونفوذ.
فكم ابتدعوا للتنفير من دين الله من الأقوال، وكم هددوا المؤمنين واضطهدوهم، وأذاقوهم من النكال. فلما يأسوا أن ينالوا من دين الله بغيتهم، تأمروا في دار الندوة على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لعلهم بذلك أن يشفوا صدورهم، فينطفئ نور الله، ذلك السراج الذي بدد ظلمات شركهم وجهلهم، وقضى على سلطانهم.
ولكن أن الله خيّب سعيهم، وأنجى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه سالماً من بين أظهرهم، وقد أعمى الله أبصارهم؛ كما عميت عن نور الحق بصائرُهم!
فهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى المدينة حيث كانت هناك للإسلام دولة ومنعة وأنصار. إلا أن قريشاً لم يكونوا ليَدَعوا نور الله ينتشر في البلاد وبإمكانهم التصدي له. فحاربوا المسلمين في بدر وأحد والأحزاب ومشاهد أخرى. ورغم ذلك فإن دين الله لا يزال في علو وظهور وانتصار، بينما يتردى الكفر وأهله في الذلة والاندحار. حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة مؤيداً منصوراً. فخضعت أعناقهم لدين الله، موقنين أن سعيهم الغابر كان ضلالاً. وأن كيدهم لدين الله عاد عليهم وبالاً.
فهذا زعيمهم أبو سفيان يذكر بعد إسلامه - رضي الله عنه - قصة اجتماعه بعظيم الروم هرقل بالشام وقد كتب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إليه يدعوه إلى الإسلام. فسأل هرقل أبا سفيان عن شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعما جاء يدعو إليه، فلما أخبره أبو سفيان، قال هرقل: "إن كان ما تقول حقاً؛ فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلُص إليه؛ لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه". فلما سمع أبو سفيان ذلك من هرقل؛ قال: "ما زلت موقناً أنه سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام". [البخاري عن ابن عباس (7) 1/ 17].
فهذه مقالة ملك الروم وزعيم النصرانية آنذاك. وفيها الاعتراف بظهور هذا الدين وانتصاره!
وذلك مما دل أبا سفيان –رضي الله عنه- على تلك الحقيقة التي طالما حاول إخفاءها عن نفسه، وعن الناس؛ حمية للكفر، وانتصاراً للباطل.
هذا؛ ولم يقتصر انتشار الإسلام على جزيرة العرب فحسب، بل شمل بلاد فارس والشام، حتى ملك المسلمون موضع قدمي هرقل من بلاد الشام كما توقع. وعمَّ نور الإيمان أكثر أرجاء الأرض عمراناً آنذاك، حتى وصل إلى الصين شرقاً، وفرنسا غرباً.
رابعاً: موقف أوروبا النصرانية متمثلاً في مرحلتين: كيد الروم بزعامة هرقل، ومن بعده من ملوك الروم.
ثم الحملات الصليبية ضد الإسلام طيلة قرنين من الزمان.
فأما الأولى: فلقد أعلنت الروم هزيمتها على لسان زعيمها هرقل في مقالته السابقة. إلا إنه آثر ملكه وسلطان الروم على الخضوع لدين الله؛ فسلبه الله ملك الشام وأطراف بلاد الروم، وهزم جنده في أجنادين واليرموك، وفي غيرهما من المشاهد، وظهر دين الله وهم كارهون!
وأما الثانية: فقد تداعى ملوك أوروبا وبابواتها إلى محاربة الإسلام كرة أخرى عندما رأوا الفرصة مهيأة لهم، فانطلقت الجيوش الجرارة من أوروبا في هجمات وحشية، وحروب مستعرة، فكم سفك فيها من دماء المسلمين وخرّب من ديارهم؟! واقتطعت أجزاء منها من الشام وغيرها، وكان أهمها القدس، التي ظلت تحت حكم الصليبيين قرابة تسعين عاماً. وقد عطّل المسجد الأقصى من التوحيد، وقرعت في جنباته نواقيس الشرك، ورفعت في أرجائه الصلبان!
بَيْدَ أن الأمر لم يدم طويلاً ولله الحمد؛ فلقد هيأ الله لدينه رجالاً صدقوا الله؛ فصدقهم الله وعده، منهم: نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، ومن معهم من المؤمنين، فمكنهم الله من دحر الصليبين في عدة مواطن، كان أهمها حطين، التي تطهر المسجد الأقصى على إثرها من رجس الصليبيين.
فهل تحقق للصليبية الوثنية إطفاء نور الله..؟!!
كلا، ثم كلا. فهاهو ذا دين الله يدق أبواب أوروبا على أيدي السلاطين العثمانيين، الذين فتحوا كثيراً من البلدان الأوروبية الشرقية؛ فجلجل الأذان في نواحيها: الله أكبر، الله أكبر!!
واليوم وبين الفينة والأخرى تنعق أبواق الكفر قائلة: كيف يدعي المسلمون أن دين الله ظاهر على الأديان كلها، وهم اليوم أضعف الأمم شأناً، وأشدها تفرقاً، حتى استذلهم أعداؤهم، واحتلوا بعض ديارهم، وانتهبوا خيرتها، ودنسوا مقدساتها؟!
ومنذ نيف وتسعين عاماً وفلسطين ترزح تحت الاحتلال الصليبي البريطاني، ثم اليهودي. وها هي أفغانستان قد دكتها المدافع والقنابل، والقاذفات الأمريكية الصليبية، وأهلكت الحرث والنسل. ولا تزال قوات حلف الأطلسي" الناتو" تُحكِم قبضتها عليها. بل وامتد الأمر إلى العراق، فحشدت لها أمريكا كل ما أوتيت من قوة وحلفاء، فدمروها تدميراً، وعاثوا بها فساداً يفوق ما حصل أيام دخول التتار بغداد.
ثم أناخ العدو عليكم بكلكله، واجترفكم طوفانه..!!
فأين ما تزعمون من النصر، وأمتكم مهيض جناحها، نازفة دماؤها،. وحالكم يرثي له البعيد قبل القريب!؟
وأنتم مع ذلك تدَّعون العزة والظهور، وليس لديكم سوى الأحلام والحكايات عن ماض تليد، والأماني بمستقبل زاهر مجيد!!
وإلا فما هو جوابكم عما آلت إليه حالتكم من الذلة والتخلف والهزيمة؟!
وأين ما تزعمون من الظهور على الدين كله؟!
والجواب عن ذلك:
أن يقال: نعم، يعيش المسلمون في هذا الزمان محنة تسلط الأعداء من جهة، ومحنة الفرقة فيما بينهم من جهة أخرى، وضعف قوتهم العسكرية. ولكن هذا الواقع له حكمته وأسبابه، وهو مع ذلك لا يغير من قضاء الله - تعالى - ووعده بظهور أمره!
فلا يحكم على دين الله بحال المسلمين اليوم، فإن الأمور متعلقة بأسبابها، وقبل ذلك بمشيئة الله وقدره وحكمته. فإن الله - تعالى - علَّق النصر للمسلمين بتحقيقهم أسباب ذلك.
ومن أهـمها: تقواه الله، وإقـامة أركان دينه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقـول الله - سبحانه -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
ويقول - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، فهذا الوعد معلق بهذا الشرط: عبادة الله وحده لا يُشرك به شيئاً. وقد تحقق ذلك أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان. وإن أصاب المسلمين اليوم شيء من تسلط الأعداء، وتخلف التمكين عنهم. فراجع إلى تخلف الشروط والأسباب، ثم هو بحكمة الله - تعالى -، حيث يداول الأيام بين الناس. فإن النصر والتمكين لو استمر لهم مطرداً على مر العصور غير منقطع ولا متخلف؛ لاغترَّ بذلك كثير من الناس، وركنوا إلى ذلك، وتخلفوا عما أمرهم الله به. ولينظر الشاهد على ذلك: حين رأى بعض المسلمين في غزوة حنين كثرتهم وقوتهم وثقوا من النصر وقال قائلهم: لن نغلب اليوم من قلة. فما إن لقيهم عدوهم حتى ولى أكثرهم مدبرين! وذلك حين أعجبتهم كثرتهم وقوتهم، ولم يأت الأمر كما أرادوا، قال الله - تعالى -: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}، ولما حصل ما قضاه الله وأراده من أمره؛ رد الله الكَرَّةَ للمؤمنين وأيدهم بنصره فقال - سبحانه -: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، وكل هذا في موطن واحد.
فسنة الله ماضية في إتمام أمره، وظهور دينه، دون النظر إلى الأحداث أو الأتباع، وإن اعترضتهم الحوادث والنكبات بين الحين والآخر موافقة لحكمة الله إمَّا بسنة التداول بين الناس، وإمَّا لتمحيص المؤمنين، يقول الله - عز وجل -: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. فهذا من المدافعة بين الحق والباطل لحِكمٍ عظيمة، منهـا:
الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، والمحق للكافرين، وإقامة الحجة عليهم..
وقد شهد عظيم النصارى هرقل بذلك لما سأل أبا سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه، قال: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. فقال هرقل: وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة" [صحيح البخاري (6) 1/ 16، 17].
وهذه شهادة من عدو. والحق ما شهدت به الأعداء..
والقصد أن سنة التداول والابتلاء لا تتعارض مع إكرام الله لأوليائه، ووعده لهم بالنصر والظهور.
ففي يوم أُحدٍ لقي المؤمنون من كفار قريش من القتل والجراحة أمراً عظيماً، حتى أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأُدمي وجهه الشريف - صلى الله عليه وسلم -؛ فاستغرب الصحابة أن يحدث لهم ذلك فقالوا: "أنى هذا"؟ قال الله - تعالى -: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، وذلك حين نزل بعض الرماة مخالفين أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فأصاب الجميع ما أصابهم، ولكن: هل انطفأ نور الله؟!
كلا! إنما هي جولة يسيرة أكرم الله فيها من استشهد، وعفا عمن أخطأ.
ثم كتب لهم النصر في الخندق بعد والحصار وتلك المحنة العظيمة، فإذا نصر الله يتنـزّل بغير قتال، ويولي الأحزابُ الأدبار. وأتي عقب ذلك الفتح المبين! فأظهر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أهل مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. ومضى نور الله في الأفاق.
ومزق الله ملك الفرس، وقتل ملكهم كسرى، ورد قيصر بغيضه، ودفع ملك الصين الجزية، وانتشر دين الله في أرجاء الأرض.
ومع ذلك فكم من عدو اعترض دين الله، وأعلن عداوته وحربه، فصال وجال ما شاء الله له، ثم كسره الله ورده خائباً.
ومن أشهر هؤلاء: الروم النصارى الذين لم تزل غاراتهم على بلاد الإسلام منذ أن ظهر دين الله في بلاد الشام، وتوالت غارتهم، حتى كان أشهرها ما عرف بالحملات الصليبية التي دامت قرابة القرنين من الزمان، وما ظفروا به من سلب ونهب فإنه لم يدم لهم ذلك طويلاً، حتى قيّض الله جنده المؤمنين بقيادة صلاح الدين الأيوبي في موقفة حطين 583هـ، فأنزل الله نصره على جنده، وهزم النصارى، وأُسرت ملوكهم.
ثم جاءت غارة التتار من أواسط آسيا فوطئت كثيراً من بلاد الإسلام في الشرق حتى دخلت بغداد عام 658 هـ وقُتل الخليفة، ودمرت بغداد، وكثير من بلاد العراق والشام.
ولما قضى الله أمره؛ كسرهم وقتل قائدهم في عين جالوت 683هـ وردهم يجرون أذيال الهزيمة.
ولم يقف الأمر عند ذلك بل إنه لم تمض إلا فترة وجيزة حتى دخلت أمة التتار في دين الإسلام واحتواها بعدله، وشملها بنوره وهديه وفضله.
وهذه شواهد موثقة لا يستطيع عدو الإسلام إنكارها!
واليوم والمسلمون يواجهون أخطاراً شتى، منها: تكالب أمم الكفر الصليبي والوثني عليهم، وتدمير أجزاء من بلادهم، في فلسطين وأفغانستان والعراق، ثم المؤامرة على سوريا اليوم..
ولكن هذا الواقع - رغم مرارته وفضاعة أحداثه- فإن الجولة مع الكفر لم تنته بعد!
وإن بشائر النصر، والله! لتوح في الأفق القريب. نصراً للإسلام وأهله، وإعلاء ًلكلمة الله وإظهاراً لدينه، وتحقيقاً لوعده.
قال ابن رجب - رحمه الله -: "لم يزل الله يمتحن عباده المؤمنين بما شاء من المحن، ولكن دينه قائم محفوظ لا يزال تقوم به أمة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يضرهم من خذلـهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، كما قـال- تبارك وتعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [لطائف المعارف ص: 187، 188].
ورغم تلك النكبات، وهذه الشدائد والمحن فإن الإسلام يعلو ولا يعلى، والله غالب على أمره، ومتم نوره ولو كره المشركون.
وأما في المستقبل: فإن عندنا بحمد الله وعدٌ من الله - عز وجل - يقول فيه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ليتمنَّ الله هذا الأمر..)). فهذا كائن لا ريب فيه، وواقع لا مانع له، فمن ذا الذي يغالب الله - عز وجل - وهو الذي: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وختام: ذلك قول - تعالى -: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

المصدر: لجينيات

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع