..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الإنفاق في سبيل الله (*)

محمد أمين المصري

١٩ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4189

الإنفاق في سبيل الله (*)
19.jpeg

شـــــارك المادة

إن الحمد لله نحمده، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد..
أيها الإخوة المؤمنون: يقول الله تباركت أسماؤه في محكم تنزيله: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، وقال - تعالى -: {ومَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ}، وقال - تعالى -: {ومَـا تُـنـفِـقـُـوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.

 


وهكذا أيها الأخوة، وهكذا أيها الأخ المؤمن، لا تكاد تتلو بضع آيات من كتاب الله إلا وتجد حضاً كبيراً، وتجد دعوة قوية تهيب بك أيـهـا المؤمن أن تنفق في سبيل الله، تنفق لمن؟ إنك تنفق على أخ لك مثلك.
ما الغرض من ذلك؟ الغـرض مـن ذلـك أن يـكـون هـناك تعاطف بين المسلمين، أن يكون هناك تراحم بين المسلمين، حتى يكونوا كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد، كل عضو ندب نفسه لمعونة هذا العضو كي لا يكون في المسلمين شقي واحد ولا بائس واحد ولا محروم واحد.
  أيها الأخ الكريم:
لا تتلو آية فيها دعوة إلى الصلاة إلا وتجد آية فيها دعوة إلى الزكاة، ولا تتلو آية فيها دعوة إلى الإيمان إلا وتجد آية تدعى فيها إلى الجهاد وآية ثالثة تدعى فيها إلى الإنفاق في سبيل الله.
قال - تعالى -: {إنَّـمَـا المُـؤْمِـنُـونَ الَـذِيـنَ آمَـنُـوا بِاللَّهِ ورَسُـولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}. وقال - تعالى -: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت من عظمة الله، من كبرياء الله، من سطوة الله، من جبروت الله، {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
أيها الإخوة:
الأمة يجب أن تكون جسماً واحداً، المجتمع يجب أن يكون بناءً واحداً. هنالك الضمان الاجتماعي، هنالك التكافل الاجتماعي، هنالك العدالة الاجتماعية، كل ذلك مبعثه من الإيمان، من الرحمة، من حب المؤمنين، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن؛ من بات شبعان وجاره جائع)).
أيها الإخوة:
رضينا بالله ربـاً، وبالإسـلام ديـنـاً، وبمـحـمـد - صلى الله عليه وسلم - نبياً، وكفرنا بكل مبدأ يغاير الإسلام، كفرنا بكل نحلة تأتينا من ديار الأعداء، وتركنا وهجرنا كل مذهب يغاير مذهب الإسلام، إنما هو كفر وإيمان إنما هو ضلال وهدى، إنما نستمسك بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - وندع كل شريعة باطلة.
أيها الإخوة:
لا نعرف ضماناً إلا ضمان الإسلام، ولا نعرف تكافلاً إلا تكافل الإسلام، ولا نعرف عدالة إلا عدالة الإسلام، أما ما وراء ذلك فألفاظ كاذبة ودعوات زائغة واشتراكيات منحرفة ضالة؛ وذلك لأن الإسلام ينظر إليك على أنك إنسان على أن لك روحاً، على أن فيك معاني الإنسانية، تستطيع أن تعلو فوق الحـيـوانـيـة، تستطيع أن تسمو فوق المادة، تستطيع أن تؤمن بالله وتهب نفسك لله وتعيش في سـبـيـل الله وتنفق مالك لله، الإسلام -أيها الإخوة- يربيك على أنك إنسان تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر وترضى بما أمر الله، وتذر ما أمرك الله بتركه، كل ذلك سهل عليك فتنفق مالك كله إن اقتضى الأمر في سبيل الله؛ كما فعل أبو بكر –رضي الله عنه- حين جاء بماله كله فوضعه بين يدي الرسول –صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا بكر، ماذا تركت لنفسك وأهلك؟)) قال: "تركت لهم الله ورسوله". وجاء عمر –رضي الله عنه- بنصف ماله وجاء عثمان –رضي الله عنه- بشيء كثير جداً ووضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ارض عن عثمان فإني راض عنه))، قدم آلاف الدنانير ومئات الإبل وهكذا جهز جيش العسرة.
الانطلاق عندنا من الإيمان، من مبادئنا أن يكون الإنسان إنساناً، أما الإنسان الذي لا يعرف إلا شهوته، لا يعرف إلا طعامه، لا يعرف إلا شرابه، لا يعرف إلا منافعه، إنسان مثل هذا يجب أن ينزع ماله وتوضع له القيود ويغل بالأغلال، أما المؤمن فليس له ذلك. ترك الإسلام للمؤمن الحرية، ترك لطاقاته أن تندفع، ترك لإمكاناته أن تتبارى وأن تقوم بمشروعات، إن إنساناً واحداً يستطيع أن يقوم أحياناً بما لا تستطيع أن تقوم به أمة. الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، الأكثرية على الغالب بسطاء وسطاء تجد بينهم نابغة واحداً، الإسلام لا يقول لهذا الواحد نكبت حريتك، نـمـنـعـك مــن التصرف، نغل يديك، بل نقول له: انطلق بقوتك ولكن أنت وقوتك وإيمانك وطاقاتك لله وفى سبيل الله وللأمة، فإذا دق جرس الخطر تقدمت بنفسك ومالك.. هـذه تربـيـة الإسلام، تربية الإسلام إطلاق للقوى، إطلاق للطاقات مع تربية القلب حتى يكون قلباً مؤمناً فإذا كان كذلك كان كل ما لديه له، كل سعيه كان في سبيل الله.
نظرة الإسلام أن نطلق القوى ونربي القلوب ونعتبر الإنسان بشراً سوياً. نظرة أولئك ألا نعتبر الإنسان بشراً سوياً بل نفعياً أنانياً لا سبيل للرحمة إلى قلبه. لا تسمح له بالانطلاق، ينطلق في سبيل نـفـسـه وكبت غيره. أنا لا أدري هل أستطيع أن أفرق بين نظرتين؛ نظرة الأمل بك أيها الإنسان، ونـظـرة سوء الظن بك أيها الإنسان، نظرة على أنك تؤمن بالله واليوم الآخر، ونظرة على أنك قطعة من الكون ألقيت وستنتهي، هذه الحياة تكون منطلقاً لك ومسرحاً للذاتك أنت، أما نظرة الإسلام فإنه أطلق وربى من الداخل، أما نظرة أولئك فاعتبروا الإنسان حيواناً وبهيمة.
أيها الإخوة:
أما الذنب فهو ذنبنا، ذنبنا نحن المسلمين، هل يصح أن يقال إن مجتمعنا مجتمع إسلامي؟ لا. هل نمثل الإسلام تمثيلاً صحيحاً؟ هل هذا المجتمع هو الذي وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؟ لا بكل أسف، لا ليس الأمر كذلك إننا لا نمثل الإسلام، نحن الآن أنانيات محضة، قلوب بعيدة متنافرة يصدق علينا ما يقول أولئك كأننا والله لا نؤمن بالله ولا نؤمن باليوم الآخر، نحن لا نمثل الإسلام ولا نستطيع أن ندافع عن الإســلام ولا نستطيع أن نذيع للملأ أن كلمة الله هي العليا، لأن الناس ينظرون إلى الإسلام من خلال هذه النفوس الواهية المتواكلة الضعيفة المستخذية فلا نستطيع أن نقول هذا هو الإسلام، فانظروا نحن قد جنينا إثمين:
أولاً: جنينا على أنفسنا وسنلاقي جزاء عملنا.
ثانياً: جنينا على سمعة الإسلام.
إن الناس ينظرون إلى الإسلام من خلال أعمالنا ومن خـلال مجتمـعـنـا، هذا هو المجتمع الإسلامي فانظروا إلى الإسلام، الذنب ذنبنا، الإثم إثمنا، الجريمة جريمتنا. لو كان هناك مجتمع واحد إسلامي في العالم كله لكان حجة على النظريات وحجة على الـمـذاهـب، ولتبين للناس جميعاً أن الإسلام هو الكمال وأن ما تتخبطون به من نظريات ومذاهب هو الضلال والبطلان، ولكن هؤلاء يتخبطون ويتنقلون بين المذاهب ولا يظنون أن الإسلام لديه الحل إلا نفر يسير منهم ولكنهم قلة، نفذت أبصارهم إلى ما وراء المجتمع الإسلامي وإلى الإسلام وحقيقته واستطاعوا أن يعرفوا الإسلام. لو كان هناك مجتمع إسلامي واحد لكان حجة على الشرق وحجة على الغرب، ولكان مجتمعاً مثالياً.
أيها الإخوة:
لم يكن كذلك أسلافنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحن -أيها الإخوة- أصبنا بضعف، وهذا الضعف الذي أصبنا به رضينا به وسوغنا لأنفسنا ما نحن فيه وقلنا هذا هو الإسلام، المؤمن لا يبالي بما في المجتمع، المؤمن لا يهتم بشئون الأمة، المؤمن لا يندفع إلى الخير، المؤمن لا يجاهد في سبيل الله وفي سبيل إيقاف الشر عند حده، كـل واحـد مـنـا شأنه كذلك وهو يرى أنه مؤمن وهو يرى ألا طاقة له، وهو يرى أن هذا قضاء الله، وكـل ذلك حـيـل ركبها الشيطان، وسولتها النفوس، وليس الواقع كذلك حينما نسمع آيات الله تجابهنا وتصدع وجوهنا نلتفت إلى حيلة أخرى، نقول: لا! ذلك لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمـا نـحـن الـمـساكين أين نحن من أولئك، الآيات تدعونا إلى الجهاد، ونحن همتنا أدنى، رضينا بالأدنى. رضينا بالمرتبة الدنيا وانتهى ذلك إلى أن مجتمعنا لا يمثل مجتمعا إسلامياً صحيحاً.
حين نزل قوله - تعالى -: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، لن تنالوا درجة البر، مرتبة البر، أن يقال إنك من أهل البر، من الأبرار عند الله، لن تنالوا هذه الدرجة حتى تنفق من كرائم أموالك وتنفق من طيبات ما كسبت، تنفق ونفسك طيعة راضية بما تنفق، درجة عالية لا تصل إليها بكل أسف. حين نزلت هذه الآية تبارى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه، يقول أحدهم: "يا رسول الله، إن أحب مالي كذا وكذا أضعه صدقة". وجاء أبو طلحة - كما يروي الشيخان البخاري ومسلم - جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا رسول الله سمعت قول الله - تعالى -: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب مالي إلي بستان. اسمه بستان بيرحاء".. بستان من أطيب البساتين مقابل مسجد الرسول فيه عين ماء عذبة يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشرب من تلك العين يقول أبو طلحة: "إن أحب مالي إلى بستان اسمه بستان بيرحاء، وإني أجعله صدقة أرجو برها وذخرها يوم القيامة"، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بخ بخ، قد سمعت ما تقول اجعلها في الأقربين))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. سمع أبو طلحة قول الله - تعالى -: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فبادر ونفذ، لم ذلك أيها الإخوة؟ لأن الإيمان خالطت بشاشته قلبه وخالطت حلاوته قلبه. تربية أولئك خير من تربيتنا.
إن مجتمعنا لا يمثل المجتمع الإسلامي الصحيح، إن تربيتنا التي نشأنا عليها ليست تربية إسلامية صحيحة، الأمر الأساسي التربية، الأمر الأساسي المدرسة، وإن مسلمي هذه البلاد لا ينفقون على المدارس وإن هذا ضعف كبير جداً. أنفقوا على المدارس الإسلامية، فكروا في هذا الأمر. هذا خير ما يجب الاجتماع عليه وخير ما يجب التقيد به.
نسأل الله - تعالى - أن يلهمنا رشدنا، ويعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ويلهمنا الاستمساك بكتابه وسيرة نبيه...
ــــــــــــــــــــــ
(*) هذه الخطبة ألـقـاهـا الـدكـتــور الـشـيـخ مـحـمـد أمين المصري - رحمه الله - في دمشق بتاريخ 30/2/1384هـ، الموافق 15/7/1964م، وموضوع الخطـبة لا يزال حياً وبحاجة للتأكيد وكثيراً ما سمعناه يؤكد ويكرر على هذا الموضوع، وينتقد ما عليه المسلمين من الأنانية.

المصدر: ملتقى أهل الحديث 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع