سهير علي أومري
تصدير المادة
المشاهدات : 7524
شـــــارك المادة
قالوا قديمًا: "بلَغ السيلُ الزُّبَى"، وقالوا أيضًا: "القشَّة التي قصَمتْ ظهرَ البعير"، مثَلان عربيَّانِ قديمانِ أتذكَّرهما وأنا أنظرُ بترقُّب وتأمُّل للأحداثِ المتلاحِقة التي عصَفتْ ببعضِ شعوبنا العربيَّة، والتي سالت لأجلِها الدماء حيث كانت الأمورُ تسير عبْرَ عقودٍ مِن الزمن في طريق يَقودُها إلى الانفجار، ولم يكُن هذا الانفجارُ يَستدعي إلا حوادثَ تكاد لا تَختلِف عن كونِها حوادثَ يوميَّةً تتكرَّر في هذه الشعوب كحرْق محمد البوعزيزي نفسه بسببِ الاضطهاد والفقر، وقتْل خالد سعيد على يدِ أجهزةِ الأمن المصريَّة، وغيرها مِن الأحداثِ في شعوب أخرى، والتي لم تكُن إلا حصيلةَ استبداد دام فيها عقودًا مِن الزمن حتى قامتْ هذه الشعوب؛ لتطلق صافرةَ الإنذار محذِّرةً مِن الاستمرار في واقعٍ أدركت أنَّ استمرارَه يعني زوالها، فوقفت لتُعيدَ كتابةَ تاريخها، وتصوغَ واقعَ أبنائها ومستقبلهم مِن جديد، مستقبلاً خاليًا من الظلم والفساد والاستبداد.
هذه المعاني التي سيطرتْ على حياتها عقودًا مِن الزمن، ولكن ربَّما يبدو غريبًا أنْ أقول: إنَّ المسؤول عن انتشارِ الظلم والفساد والاستبداد في هذه الشعوب ليس الظالم والفاسد والمستبِد فحسبُ، بل مَنْ يقَع عليهم فِعلُ الظلم والفساد والاستبداد أيضًا لسببٍ يسيرٍ، وهو أنَّهم تخلَّوْا منذُ البداية عن دَورهم في محاربةِ هذه الشرور والقضاء عليها، فاستسلموا لواقعِهم؛ وما ذلك إلا بسببِ جُملةِ عواملَ أقدِّم لكم في هذا المقال اثنين منها على أمَل أن يكونَا نواةً لوعيٍ فكريٍّ واجتماعيٍّ يحول بيننا وبيْن الرُّكون إليهما في قادِم أيامنا، وهذان العاملان هما: 1- فَهمٌ مجتزأٌ بعيدٌ عن رُوح الشريعة ومقاصدها شاعَ حولَ بعض المفاهيم الأساسيَّة في ديننا، وأدَّى إلى ما وصلنا إليه اليوم مِن الاستسلام والخُنوع والسُّكوت عنِ الظُّلم والرُّكون إلى الواقِع المعيش، ومِن هذه المفاهيم: أ. مفهوم الدُّنيا وحقيقتها وضرورةُ الزُّهد فيها وعدَم الحِرْص عليها؛ لأنَّنا فيها عابرو سبيل، وهذا بلا شكٍّ مبدأ مِن مبادئ شريعتِنا السَّمْحاء نصَّتْ عليه العديدُ مِن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، كقوله - تعالى -: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. وقوله - تعالى -: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]. وقوله أيضًا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القصص: 64]، وغيرها مِن الآيات. ومِن الأحاديثِ الشريفة قولُه - صلى الله عليه وسلم -: عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أنه قال: أخَذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِبَعْضِ جَسَدِى فقال: ((يا عبدَ الله، كُن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ، أو كأنَّك عابرُ سبيلٍ، وعُدَّ نفسك مِن أهل القبور))؛ رواه أحمد والبخاري. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا أنا والدُّنيا، إنَّما أنا والدُّنيا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ، ثم رَاحَ وتَرَكها))؛ رواه أحمد. وغيرها أيضًا مِن الأحاديثِ التي كان ولا يَزال الكثيرُ مِن الدُّعاة والوعَّاظ يُقدِّمونها ويعززونها في النفوسِ، ويُركِّزون عليها في خُطبهم وأحاديثهم، ولكن على نحوٍ مجتزَأ وقاصِر، يجعل الناسَ يَزهَدُون في الدُّنيا ويَتخلَّون فيها عنْ أيِّ دَور فاعِل، أو عمل إيجابي. فلِمَ تحمُّلُ المشاقِّ التي تَقتضيها مواجهة الظُّلم ومحارَبة الفساد طالَما أنَّنا في هذه الدُّنيا عابِرو سبيل؟! وما شأنُ عابِري السَّبيل إلا المرور والمغادَرة، وأيَّة نيَّةٍ في الإقامةِ والاستقرارِ ستبوء بالخَسارةِ والندامة؛ لأنَّنا زائلون راحلون عن هذه الدُّنيا لا محالة، إذًا ما علينا في هذه الدُّنيا إلاَّ أنْ نزرعَ للآخرة، وأيُّ زَرعٍ أجدَى مِن حسنات القرآن وعدَد ركَعات الصلاة وأيَّام الصيام وعدَد الحجَّات والعُمرات!! هذا المعنى الذي ترسَّخ في نفوسِ المسلمين على مدَى عقودٍ مِن الزمن، وأيَّدته وسدَّدته العديدُ مِن التيارات الصوفيَّة التي كان لها دَورٌ كبيرٌ في عزْل الإنسان عن دَوره الفاعِل في الحياة، وقدْ تمَّ تقديمُ هذا المعنى على نَحوٍ مقصود أحيانًا ممَّن يُسمَّوْن بعلماء السلاطين، حتى لا نستغرب أن تكونَ خُطبة الجُمُعة الثانية بعدَ اندلاع الثورة في إحدى الدول العربيَّة، ومِن قِبَل علامةِ هذا البلد تتحدَّث عن كونِ المسلمِ عابرَ سبيل، وما عليه إلاَّ أن يعيشَ للعبادة (الشعائريَّة) ثم يمضي! على هذا النحو قام الكثيرُ مِن الدعاة بتقديمِ هذه الفِكرة بشكلٍ مجتزَأٍ بعيد عنِ الغاية الكُبرى التي مِن أجلها خُلِق الإنسان، الغاية المتمثِّلة في عمارةِ الأرضِ وإقامةِ خِلافة الله - تعالى - فيها، هذه الخلافة التي تدفَع المسلمَ إلى كلِّ معاني الإيجابية والعمل ليُعمِّر الأرض، ويُقيمَ الحقَّ والعدلَ والحرية فيها، الحرية التي تَجعل الإنسانَ عبدًا لله وحْدَه، وليس عبدًا لبشرٍ ولا لحجر، وليس عبدًا لملِك ولا لزَعيمٍ ولا لنظامٍ يسكتُ أمامَه عن الباطل ويخشاه دون الله، فلا يقوم لتغييرِ منكرٍ ولا لإقامة حقٍّ، متذرعًا بكونِ الدنيا دارَ لهوٍ وأنَّه فيها كعابرِ سبيل! عمارة تجعل الحياةَ تزهو وتزدهِر، ولكن دون أن يَتعلَّق بها قلبُه، أو تميل إليها نفسُه، فيركن إليها، وينشغل بمباهجها وزِينتها وزَخارفها؛ لأنَّه يضَع نُصبَ عينيه أنَّ هذه الحياةَ الدنيا لهوٌ ولعِب، وأنَّ الدار الآخِرة هي الأبقَى، وأنَّه في هذه الدُّنيا عابرُ سبيل، فيجعل الدنيا تحتَ قدميه ويَميل بقلبِه نحوَ ربه وخالِقه، متمثِّلاً معنى عبادة الله في كلِّ سُلوكه وأفعاله وأخلاقه، وليس في عددِ ما قرَأَ مِن أجزاء القرآن، وما صلَّى مِن ركعات، وما صام مِن أيام، وما أدَّى مِن حجٍّ وعُمرة فقط، بل يتقرَّب إلى الله بكلِّ هذه المناسك مركِّزًا على ما تَقتضيه هذه المناسكُ مِن قيمة كبرى، وهي أنَّه عبدٌ لله يُقيم خلافةَ الله في الأرْض متأسيًّا بسيِّدِ الخَلْق، ورسولِ الحقّ - عليه الصلاة والسلام - الذي كان في الدُّنيا عابرَ سبيل، ولكنَّه في الوقتِ نفْسِه فتَح البلادَ وقلوبَ العباد، وجاهَد في الله حقَّ جِهاده حتى صار الدِّين الذي بدَأ به وبصاحبِه وزوجتِه، ومولاه وابن عمِّه، صار أمَّةً تمتدُّ شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا. ب. المفهوم الثاني الذي تمَّ اجتزاؤه وفصْله عمَّا أنْزل مِن أجله هو: معنى تغيير ما في النَّفْس ابتغاءَ تغيير الواقِع مِن حولنا المتمثِّل في قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. حيثُ تَمَّ اجتزاءُ معنى التغيير على تزكيةِ النَّفْس مِن خلال العبادات والطاعات ضِمنَ سعيٍ طويل الأمَد، على أنَّ ذلك - وحْدَه - كفيلٌ بتغيير الواقع؛ لأنَّ الله - تعالى - تَكفَّل لمن يغيرون أنفسهم بإلزامها بالطاعات والعبادات أن يُغيِّر لهم واقعهم، ويَمنحهم واقعًا أفضل، ذا عِيشة أهنأ ومعيشة أسعد، حتى إنَّ أيَّ حَديثٍ عن واقعٍ سيِّئ يُحيط بهم مِن فسادٍ أو استبدادٍ أو ظُلم، يكون علاجُه في نظرهم هو المزيدَ، والمزيد مِن الصلاة والصيام والقُرآن والحج والعمرة، دون أن يكونَ لهم أيُّ دَور فاعل في إحداثِ هذا الواقِع أو تحقيقه، كما تَمَّ اجتزاءُ معنى التغيير ليقتصرَ على تغيير كلِّ فرد لنفسه، فهو وحْدَه محطُّ التغيير والهدَف مِن التغيير، وهنا أودُّ الوقوفَ عندَ نقطتين هامَّتين في هذا المعنى: الأولى: أنَّ الاسمَ الموصول (ما) الوارد في قوله - تعالى -: {حَتَّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمِ} يُشير إلى كلِّ ما في النَّفْس؛ أي: تزكيتها بالعبادات الشعائريَّة وبالعملِ الصالِح على حدٍّ سواء، العمَل الصالح الذي مِن شأنِه أن يجعلَ الواقع أفضلَ، فالتَّغييرُ الإيجابي المطالَبون به يشمل بالإضافةِ إلى العبادات والطاعات كل ما له عَلاقة في جعْل أنفسنا شركاءَ فاعلين في تغييرِ الواقع وجعْله، أفضل بكلِّ ما يَقتضيه هذا التغيير مِن جَهرٍ بالحقِّ، ودَفعٍ للظلم، وأمرٍ بمعروف، ونَهيٍ عن منكَر، وإقبالٍ على العَمل، وإخلاصٍ فيه، وإتقانٍ له، وليس التركيز على الطاعات والعبادات الشعائريَّة مِن صلاةٍ وصيامٍ، وتلاوةِ قرآن وحج فحسبُ في انتظار أنْ يتحقَّق للعابد مجتمعٌ تسودُ فيه العَدالة ويعلو فيه الحقُّ. بمعنى آخَر: الواقِعُ الأفضل الذي وعَدَنا الله - تعالى - به ليس مِنحةً إلهيَّة أو مكافأة يُقدِّمها لنا جزاءَ اجتهادنا بالعبادات الشعائريَّة؟! الواقِع الذي وعدَنا به سيكون لا محالةَ عندما نَفْهم أنَّ مسؤولية التغيير المطالبين بها هي الإسهام في جعْل الواقِع أفضلَ بأنْ نقومَ نحن بصُنعِه بكلِّ ما يقتضيه هذا الأمر مِن أخلاقٍ وأفعالٍ وسلوكيَّات؟! وقبل أن أنتقِل إلى الأمر الثاني أُشير إلى أنَّ التغييرَ على نِطاق العبادات مهمٌّ جدًّا، بل هو الذي يَضمن للواقِعِ الأفضلَ، وللحضارة المنشودة استمرارَها، ويمنحها الرُّوح، ولكنَّه وحْده لا يَكفي ما لم يكُن رَديفًا لقيام المسلم بكلِّ ما مِن شأنه أن يُغيِّر الواقع، ويجعله أفضلَ مِن عمَل وسلوك وأخلاق. الأمر الثاني: أنَّ الله - تعالى - في الآيةِ الكريمة لم يقُلْ: (حتى يُغيِّر كلُّ واحدٍ ما بنفسه)، بل قال { حَتَّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمِ}، وفي ذلك تأكيدٌ بليغ منه - سبحانه - على أنَّ عمليةَ التغيير إنَّما هي عمليَّةٌ جماعيَّة يَنضوي تحتَها تغيير كلُّ فردٍ لنفْسِه؛ باعتباره أمرًا بدهيًّا وتغيير من حولِه بما مِن شأنه أن يجعلَ أفرادِ المجتمع مؤهَّلين لصناعةِ الواقِع الأفضل، فتغيير الحال الذي وعَدَ الله به هو (للقوم) (لا يُغيِّر ما بقومٍ) وليس (للفرْد)، وهذا مرتبط بتغيير هؤلاءِ القوم (لأنفسِهم)، وإصلاح (أنفسِهم) على نحو جَماعي؛ أي: على نحو يحمِل فيه أفراد القوم مسؤولية الإصلاح والتغيير، نحو الأفضل لذواتِهم ولِمَن حولهم على حَدٍّ سواء. 2- أمَّا العامِل الثاني الَّذي ساعَد على استسلامِنا لواقعِنا ورُضوخنا لسلبيتنا، فيتجلَّى في جُمَلٍ وأقوالٍ وعبارات ارتبطتْ باللاوعي العَربي عبْر تناقلها مِن جِيل إلى جِيل، حتى صارتْ عندَ الكثيرين قاعدةً أصوليَّةً تنضبط وَفْقها أفعالُهم وأخلاقُهم وسلوكُهم، بل أخَذوا يُردِّدونها ويعلِّمونها لأبنائِهم على أنَّها خُلاصةُ تجارب، وحِكمةُ حياة. هذه الجُمل والعِبارات تتمثَّل في الكثيرِ مِن الأمثال الشعبيَّة التي تَشيع على الألْسِنة، ويُردِّدها الأبناءُ على ألسنةِ الآباء جِيلاً بعدَ جِيل دون التوقُّف لإدراكِ مدَى ابتعادِها عن رُوح الشريعة ومقاصِدها، بلْ ومخالفتها للمهمَّة الكُبرى التي خُلِقنا مِن أجلها. فعَلَى سبيلِ المثال تُطالعنا بشكلٍ يوميٍّ، ربما على ألسنتنا تارةً، وعلى ألسنة مَن حولنا تارةً أخرى العبارات التالية: (بدي سلتي بلا عنب)، (فخار يكسر بعضو)، (إلي بيتجوز أمي بقلو عمي)، (حط راسك بين الروس وقول يا قطاعين الروس)، (طنش تعش) وغيرها... إذ تأتي هذه الأمثالُ والعبارات لتعزِّز مبدأَ السلبية، وتسوِّغ للفرد اللامبالاة والتوغُّل في عدمِ الاكتراث بما يُحيط به، بل لتجعلَه كائنًا منعزلاً منفصلاً تَمامًا عن رَكْب الحياة وتيَّارها، ناهيك عن قيادةِ هذا الرَّكْب، وإقامة خلافة الله - تعالى - في كلِّ مكانٍ يكون فيه، دون الوقوفِ على حقيقة هامَّة، وهي أن هذه الأمثال تتناقَض مع الكثيرِ مِن المبادئ والقِيَم التي جاءَ بها القرآن، ومنها قوله - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقوله - تعالى - للرِّجال والنِّساء على حدٍّ سواء: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]. فالمسلمُ كائنٌ فاعلٌ في كلِّ موقفٍ، وفي كلِّ موقعٍ يكون فيه لا يتخلَّى عن دَورِه الإيجابي، ولا يغضُّ النظرَ عن أهميَّة التأثير والسَّعْي في إحقاقِ الحقِّ وردِّ الباطل ومحارَبة الفَساد ورفْض الاستبداد قبلَ أن يَستشري وتمتدَّ جُذوره ويُصبِح مِن غير الممكِن اقتلاعه إلاَّ بعَملٍ جِراحي يستهلك ربَّما الأنفس، وتَسيل مِن أجْله الدِّماء كما حدَث في هذا المدِّ مِن الغضبِ العربيِّ الذي نراه اليومَ في بعضِ شُعوبنا العربيَّة. المسلم واعٍ يُدرك دَورَه وأهميَّة الكلمة التي يقولها لا يَتراجَع عن هذا الدور وهو يُردِّد (الي بيتجوز أمي بقلو عمي)، بل يَعْمَل بموجب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدِّين النصيحة..... ))[1]، إنها النصيحةُ التي على كلٍّ منَّا ألاَّ يَبخل بها وأن يخوضَ غمار الطريقِ مِن أجْلها، النصيحة لأئمَّة المسلمين وعامَّتهم على حدٍّ سواء دون أن يَخافَ في الله لومةَ لائم، ودون أن يردَّه عنها الراحة و(التطنيش)، أو ابتغاء النَّجاة بالسلَّة، ولو كانت فارغةً بلا عِنب وهو يردِّد (بدي سلتي بلا عنب)؛ لأنَّ تراجُع المؤمن عن دورِه الفاعِل سوف يجعله إن تخلَّى اليومَ عن العنبِ سوف يَفقِد مع الأيام حتى السلَّة نفْسها، وربَّما بعدَ حين سيُصبِح عالةً على المجتمع، وقدْ قدَّم لنا القرآنُ الكريم مثالاً بليغًا في نموذجين مِن الناس أحدهما يُدرِك دوره الحقيقيَّ في الحياة والآخَر، يبتغي الراحةَ ويجنح للسلبيَّة والقعود يقول - تعالى -في سورة النحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]. نعَم، اللامبالاة وعدَم الاكتراث بدور كلٍّ مِنا في إقامة خِلافة الله - تعالى - يجعل المرءَ كالأبكمِ الذي لا يَقدِر على شيءٍ، وهو عالةٌ على الرَّكْبِ الحضاري لا يُتقن في الحياةِ إلا الاستسلامَ والإذعان. المُسلِم يُدرِك دورَه تُجاهَ أخيه المسلِم، ولا يركن إلى السلبيةِ واللامبالاة، وهو يردِّد (إذا شفت الأعمى طبو مالك أكرم من ربو)، بلْ يُدرِك دوره تجاه أخيه المسلم مُتمثِّلاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلمُ أخو المسلِمِ لا يَظلِمُه ولا يُسلِمه، مَن كان في حاجةِ أخيه كانَ الله في حاجتِه، ومَن فرَّجَ عن مسلمٍ كُربةً فرَّج الله عنه بها كُربةً مِن كُرَب يومِ القيامة، ومَن ستَر مسلمًا سترَه الله يومَ القيامة))؛ متفق عليه. المسلم إيجابيٌّ أينما حلَّ وأينما ارتحلَ، يتمثَّل كلَّ معاني الإيجابية التي أتَى بها القرآنُ الكريم، فلا يقِف بيْن أخويه المتنازعين يَتفرَّج، وهو يردِّد (فخّار يكسر بعضو)؛ لأنَّه أدرك معنى قول الله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. نَعَم، الإصلاح أحَد المهامِّ الإيجابية التي كُلِّف بها المسلمُ مع ما تَتطلَّبه هذه المهمَّة مِن مشاقَّ وصعوبات. المسلم لا يُسايِر واقعَه أيًّا كان وهو يردِّد: (بحط راسي بين الروس وبقول يا قطاعين الروس، ) و(بحسب السوق بنسوق)؛ لأنَّه يُدرِك أنَّه إنْ فعل ذلك، فإنه سيكون الإمَّعة الذي نهَى عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: ((لا تَكونوا إمَّعةً؛ تقولون: إنْ أحسن الناسُ أحسنَّا، وإن أساؤوا أسأنا، ولكن وطِّنوا أنفسَكم إنْ أحسنوا أن تُحسِنوا، وإنْ أساؤوا ألاَّ تظلموا))؛ رواه الترمذي، وهو ضعيف مرفوعًا. المسلم لا يَقِف أمامَ الظالم ليرائيه بالخضوعِ والاستكانة وهو يردِّد: (الإيد الي ما بتقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر)، حتى إذا اعترَض على سلبيتِه أحدُهم قال له: (أنا بمشي الحيط الحيط وبقول يا ربي الستر)؛ لأنه يعلم أنَّ الله - تعالى - يأمرُنا بمحاربةِ الظلم والأخْذ على يدِ الظالم، بل يأمرنا بأكثرَ مِن هذا بعدمِ الرُّكون إلى الظالمين؛ يقول - تعالى -: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]. والمسلمُ لا يلتمس لنفسِه النجاةَ والخلاصَ، ولو على حسابِ غيرِه وهو يُردِّد: (أنا ومن بعدي الطوفان) (ألف عين تبكي ولا عيني تبكي)؛ لأنَّه يُدرِك معنى قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَراحُمِهم وتَعاطُفهم مَثَل الجسَدِ إذا اشْتَكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى))؛ رواه البخاريُّ ومسلم، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((المؤمن للمؤمِن كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا))؛ رواه البخاريُّ ومسلم، كما يُدرِك معنى قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]. لذا كان لِزامًا على شُعوبنا العربيَّة الثائرة أن تَثورَ مرَّةً أخرى بعدَ ثوراتها، ثورةً تقف فيها لتتداركَ قِيَمًا فقدتْها، ومعانيَ خسرتْها، ثورةً تكون صمام أمان يَحميها مِن التردِّي مرةً أخرى في واقِعٍ يَسودُه الظلم والفساد والاستبداد، ثورةً تُسطِّر فيها تاريخها بأبجديةٍ جديدة تُقدِّمها للبشرية، أبجدية لا تنمحي مهما تكاثفتْ حروف الباطِل مشكِّلةً سدودًا من الكتُب والأفكار تارةً باسمِ الدِّين، وتارةً باسمِ الوطنيَّة، وتارةً باسمِ الحِكمة الاجتماعيَّة. أبجدية تَعلو فيها عين الحقِّ على حاجبِ الباطل، وتَنكسِر أمامها حيطان اتَّخذها المحبطون ملجأ مِن مشقَّة الجِهاد، فتستروا في ظلِّها عقودًا، وهم يدعون السُّترة، أبجدية ترْمي بكلِّ سلَّة لا عِنب فيها، وتجعل مِن الفخار طَوبًا ليبني لا ليكسر بعضه، أبجدية تعلم البشريَّة أنَّ اليدَ الفاسدة التي لا نَقدِر عليها إما أن نَكسِرها أو نَقطعها، وأنَّ تقبيلها حرامٌ كحُرمة الفواحِش كلِّها، أبجدية لا وجودَ فيها لباطِل يعلو ولا لمنافِق يَستطيل. أبجدية جديدة تُسطِّرها هذه الشعوبُ بحروفٍ مِن نور تَتناقلها الأجيالُ جيلاً بعدَ جِيل عساها تكون قدْ أرستْ قواعد متينة تَبني في اللاوعي حُصونًا منيعة، أصولها ثابتة وفُروعها في السماء، تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها. ـــــــــــــــــــ [1] عن أبي رُقية تَميم بن أوس الداري - رضي الله - تعالى -عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((الدِّينُ النصيحة))، قلنا: لِمَن؟ قال: ((للهِ ولكِتابه ولرسولِه ولأئمَّة المسلمين وعامَّتِهم))؛ رواه مسلم.
محتسب الشام
محمد بسام يوسف
عماد الدين خيتي
من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَزَالُ عِصابَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ علَى أبوابِ دِمَشْقَ ومَا حَوْلَهُ، وعلَى أبوابِ بيتِ المَقْدِسِ ومَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُم خِذْلانُ مَن خذَلهم، ظَاهِرِين علَى الحَقِّ إلى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ". أخرجه أبو يعلى (6417)، والطبراني في الأوسط (47)، وابن عدي في الكامل 7/84. .جزاك الله كل خير أختي الكريمة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة