محمد ياسر الطباع
تصدير المادة
المشاهدات : 8800
شـــــارك المادة
زيارة سريعة خاطفة هذه المرة، ترددت في الكتابة عنها كي لا أدعي كثرة زياراتي لهم، لأنها لم تعد كذلك . قال لي مدير إدارتنا الطبية في تركيا ( ستكون زيارة سريعة، ٢٤ ساعة و نرجع، الوضع محتدم هناك ومن الجيد زيارتهم ). لم تكن في البرنامج ... اعتذرت عن مواعيدي المسبقة و انطلقت مع صديقي من غازي عنتاب مع أذان الفجر لنصل إلى قرية ييلداغي التاسعة إلا عشر دقائق ، موعدنا مع الأمنيات كان التاسعة . كان الأمر مرتباً بشكل جيد ، لم نضطر للدخول إلى قسم الشرطة كالعادة للتوقيع على الأوراق . انطلق الباص الصغير بنا نحن الأربعة ، طبيب أسنان و طبيبان و صيدلاني - فريق سيما - نحو الحدود السورية . طريق جبلي يستغرق بحدود النصف ساعة حتى نصل إلى النقطة العسكرية التركية الأخيرة قبيل حاجز الأسلاك الشائكة . عشرة دقائق مضت و هم يتأكدون من الأوراق ، ثم أزاحوا الحاجز و سمحوا لنا بالعبور . مشى الميكروباص عدة دقائق ليصل إلى نقطة العبور . أكياس و سواتر ترابية جديدة و حبل رفيع يغلق المعبر يقف خلفه المئات من الرجال و المسنين يمسكون بأيديهم حقائبهم و لحفهم و تنكات كبيرة من زيت الزيتون . ترجلنا من الميكرو بحماس و نشوة ممزوجة بالهواء المثلج ذاك الصباح و وصلنا إلى الحبل فرفعه أحدهم لنا و تزاحم الناس بصمت ليزيحوا لنا ممراً ضيقاً ، رحبت بنا نظرات فضولهم للحظات ، ثم تجاهلونا و نظروا من جديد إلى الجانب التركي لعلهم يرون إشارة تخبرهم بجواز العبور . كنا نلفت النظر و محط حسد لأننا في الطرف المقابل ، أما وقد عبرنا فقد صرنا حفنة رجال في عالم يشتعل بالنار و الفوضى لا ينتبه إليه أحد . حالما تجاوزنا بضع صفوف من الرجال بدأ الأطفال و من خلفهم النساء بالظهور، الصبايا منهم واقفات و العجائز يجلسون على الأطراف ممسكين بأيدي أحفادهم و أكياسهم و متاعهم . المئات يأتون كل صباح إلى الحاجز من القرى و المخيمات القريبة أملاً في سماح السلطات التركية لهم بالعبور بعد أن بدأت بلدات و قرى الساحل السوري المحرر بالتساقط السريع أمام تقدم الجيش السوري و من معه من المليشيات الشيعية مدعومين بقصف روسي شديد لم يروا مثيلاً له من قبل ، شبهه أحدهم لي بصوت فرقعة البوشار . الأتراك لم يفتحوا الحدود على مصراعيها و إنما يصرون على العبور المنظم المحدود لأهالي المنطقة، فقط ١٥٠ إلى ٢٥٠ عائلة يومياً . سيعيدون كل من أتى من مناطق بعيدة بعد أن سمع باحتمال فتح الحدود للجوء ... أخشى أن لا يسمحوا للسيدة الدمشقية التي قطعت كل الطريق مع أولادها الثلاثة من دمشق و أمضت الأيام الثلاثة الأخيرة تنام كل ليلة في ضيعة مختلفة و بضيافة جديدة في درجات منخفضة إلى ما تحت الصفر و هي تنتظر فرصة العبور إلى بر الأمان... لم أجتمع بهذه السيدة و لكن أخبروني عنها و عن عدة رجال وصلوا من درعا بعد أن عجزوا عن عبور حدود الأردن، و غيرهم كثيرون من حلب وإدلب . تقدمنا أكثر و تجاوزناهم حتى وصلنا إلى طريق وحلي ضيق تزدحم عليه السيارات القادمة من كافة المحافظات، تخلل السيارات رجل كهل يسحب عجوزاً على كرسي متحرك تشق عجلاته المنهكة الوحل بصعوبة... تنزلق شاحنة صغيرة و تصدم بشكل خفيف بالكرسي و لكن لم تتأذى السيدة الفاضلة المنهكة . منظر مؤلم محزن و كئيب يترافق مع كل حركة نزوح رأيتها . لا أحب رؤية هذه المشاهد، الوجوه المتعبة اليائسة والأجساد النازحة، فهي تستنزف القوى و تثبط المعنويات . أريد الوصول إلى المشفى ، فهناك تنبع العزيمة و يستقى الأمل . ركبنا سيارة الإسعاف التي أتت لتقلنا ... وصلنا بعد عشر دقائق ... الوجوه مختلفة قليلاً هذه المرة ، التعب بات واضحاً ، الشيب ازداد على الرؤوس و اللحى ، وجوه أذكرها شابة ، كبرت عشر سنوات خلال ثلاث . تغلب الابتسامة كل المشاعر في هذه اللحظات ، و يفرض العناق نفسه ، و لكنه أطول هذه المرة ، و أقوى . الحركة واضحة في المكان ، سيارات كثيرة ، المرضى قليلون ، غرف التنويم فارغة إلا من مريض عجوز يتلحف عدة طبقات . غرفتا العمليات إحداها مجهزة ومغلقة والثانية تم تفكيك أجهزة التخدير فيها وجمع أدواتها في صناديق حديدية صغيرة مجموعة في نقالة جرحى ذات عجلات . حديث الجميع هو ، " شو أخبار المحاور ؟ وين صار الجيش ؟ كيف الشباب ؟ وين المؤازرة ؟ وين الدعم ؟ باعوا الجبل ؟؟ " هناك من يتحدث عن آلاف المجندين الروس الذين تم إنزالهم على شواطئ اللاذقية ... سألت عدة أشخاص ( هل رأيتم عسكريين روس ؟ ) يأتي الجواب عادة ، لا ... نرى عادة مجندين سوريين ، و مرتزقة شيعة من لبنان و العراق . يتحدثون عن فيديو يظهر مئات القوارب الروسية و هي تنزل آلاف الجنود على الشاطئ ، لم أر المقطع و لا أدري مدى صحته . ما السر ؟ لماذا هذا السقوط السريع ؟ تأتي إجابات متعددة - لا أعتقد أن أحدها هو الوحيد و لكن الإجابة مزيج معقد - . يقولون ، هناك صفقة دولية من تفاصيلها أن الساحل سيبقى للنظام ، كتيبة تركستانية كبيرة انسحبت فجأة من محور كبير مهم و لم تخبر أحداً فدخل الجيش عبر ذلك المحور و بدأ السقوط . الكتائب الكبيرة كالأحرار و النصرة لم ترسل شيئاً يذكر من طرفها ، و من أتى انسحب بعد أول مواجهة ، كتائب الجيش الحر في تلك المناطق فقدت الكثير من رجالها بسبب القصف الروسي الشديد . أمل التركمان في تدخل تركيا المباشر ، فلم يحدث شيء من ذلك . تلك كانت هي الإجابات ، أصدقها كلها و أعتقد أن ما حصل هو مزيج منها ، و لكن لا أعتقد أن أحداً قد باع الجبل أو الساحل ، فمن يملكه أصلاً ليبيعه ؟ و هل الشاب المرابط على المحور تأتيه الأوامر من هذه الدولة أو تلك ؟ و هل القائد الذي أثبت نفسه عبر سنوات من التضحية سيقبض الآن حفنة من الدولارات ليأمر جنده بالانسحاب ؟ هل سمعنا بحادثة مؤكدة كهذه في الأعوام الماضية ؟ إنها ليست خيانة من هم على الأرض ، و إنما تخاذل من وراءهم من شعوب و حكومات . لنعد إلى المشفى ... انقضى معظم النهار و الناس يناقشون كيف سيتم إخلاء المدنيين من القرى و المخيمات القريبة عبر الحدود بعد أن ساد شعور عام أن المنطقة كلها ستسقط ، نوقشت الاحتمالات و وضعوا الخطط و رتبوا القوائم ... أتى المساء و الكل يتجنب السؤال العائم فوق الرؤوس ( و ماذا عن المشفى ؟ ) هل سنخليه ؟ هل ننسحب ؟ هل ستأتي ساعة الصفر قريباً ؟ كم اقترب الجيش ؟ لقد بدأنا نسمع صوت القصف في المنطقة ، صار الجيش على بعد ثمانية كيلومترات و هو يتقدم يومياً دون مقاومة بعد أن كان يبعد ما يزيد عن الأربعين . ألن يؤدي إفراغ الأجهزة من المشفى إلى بث الرعب بين المدنيين ، و بث الوهن في نفوس العسكريين ، و بالتالي الانسحاب ؟ بلى ، سيحدث ذلك على الأغلب . و ماذا إن كان هناك خطر حقيقي و الناس تراقب المشفى و تنتظر تحركه لتأخذ إشارة حقيقية بموعد التحرك ؟ هل يجوز لنا أن نعطيهم الحس الكاذب بالأمان و هناك خطر حقيقي يقترب ؟ هل سنترك ما لا نستطيع حمله من أجهزة طبية ساعة الصفر ليغنمه الجيش السوري ؟ أم نحرقه ؟ أم نفخخ المشفى و ندمره بما فيه ! - سؤال غريب ، و لكنه واقعي زمن الحرب . أسئلة عديدة حركت نقاشاً طويلاً بين كادر المشفى ... اختلفوا على بعض النقاط و لكنهم اتفقوا على أمر واحد ... " لن يغادر أحد المشفى حتى يغادر آخر مدني و عسكري من المنطقة " ... سنخرج العديد من الأجهزة الطبية الثمينة و المستهلكات المهمة و نترك غرفة عمليات مجهزة بالكامل و عربات الإسعاف و الطاقم الطبي معها لإخلاء الجرحى من المعركة . سيتحول من أكبر مشفى و عيادات خارجية في الساحل إلى مجرد مشفى ميداني يؤدي غرض المرحلة . خرج من غرفة الاجتماعات بعض من لم يتخيل قدوم هذا اليوم و لم يرغب في أن يكون جزءاً من هذا القرار ، و بقي من وجد أن قراراً كهذا يجب أن يتخذ . المشاعر اختلطت كثيراً و تبدلت الآراء من اليمين إلى اليسار ، الكل يشعر بالإنهاك و الإحباط . تم اتخاذ القرار ، سيتم إخراج كافة الأجهزة و ترك غرفة عمليات جراحية واحدة يبقى معها كل الكادر . و لكن التنفيذ سيبدأ قبيل منتصف الليل كي لا يشعر الناس بالحركة و يدب الذعر بين الناس . بدأنا العمل ليلاً ، فككنا جهاز الأشعة الكبير ، سحبنا أجهزة المرنان ، أجهزة التنفس الصناعي في غرفة العناية المركزة ، حمّلنا أربعة سيارات إسعاف و نقل بالأجهزة لتنطلق في عتمة الليل إلى الحدود التركية حيث نصب لنا الأتراك خيمة كبيرة لتخزين الأجهزة فيها . في هذه اللحظات المزدحمة ربت على كتفي أحد الأصدقاء و همس بأذني بأن "...." يبكي بحرقة في الخارج ، أرجو أن تتحدث معه . خرجت إلى العتمة المتجمدة في باحة المشفى الخلفية لأجد صديقي يستند على سيارة إخلاء جرحى رباعية الدفع مطأطيء الرأس و هو يبكي ... أردت مواساته و لكن ... احترت فيما أقوله لرجل ساعد في حمل كل جهاز و صندوق دخل إلى المشفى ... رجل لم تحدث معركة في جبال التركمان و إلا كان له نصيب منها في تخطيط أو تنسيق أو إخلاء و إسعاف . كيف أواسي رجل يرى أرضه يحتلها الغزاة ، و قريته يكاد يبتلعها الظلام و الحقد ؟ كيف أواسي رجل يبكي المشفى و لا يغادره و بيته يكاد يكون أقرب إلى العدو من المشفى ؟ كيف أواسي من يرى أن المشفى بيته و حياته و قضيته ؟ تتلعثم بعض الجمل بين شفتي ، ( ما قصرتوا ، شو فينكم تعملوا أكتر من هيك ؟ ، المعركة كر و فر ، قد لا تسقط المنطقة أصلاً ، لو سقطت ستعودون بإذن الله ) جمل يعرفها و يدركها أكثر مني ، و لكني سأقولها في جميع الأحوال ، لأن ذلك هو أقل ما أستطيع فعله و هذا أصلاً ما كنت أقوم به خلال السنوات الأربع الماضية ... النضال باق و ماض سواء كنا جزءاً منه أو لا ، سواء زرنا الوطن ، أو خفنا و تخفينا ... كل ما كنت أقوم به خلال كل زياراتي هو أن أقف خلف هؤلاء الشباب و أشد على أيديهم و أربت على أكتافهم لعل بعض غبار معاركهم يبقى علي ليحاجج عني يوم القيامة . لا أخشى على وطن هؤلاء رجاله ، و النصر آت لا محالة ، و لكن وقته و صورته لم تتضحا بعد ، و جهودنا المتضافرة هي التي قد تعجل به و تشكله كما نريد . لم ننهزم في هذه الثورة إلا عندما انهزمت قلوبنا و جزعنا ... و لم نجزع إلا عندما ظننا أن النصر أو القدر في أيدي الشرق أو الغرب و كلنا يعلم أنه ليس كذلك . غادرت المشفى و أنا لا أعلم إن كان سيكتب لي العودة إليه يوماً ، و لكن إيماني بالله و ثقتي بهؤلاء الرجال تشعرني بأن هذه جولة الباطل الآن و جولتنا القادمة لن تتأخر و ستكون الغالبة الباقية بإذن الله . لم تسقط الأرض و لم يصل الجيش إلى المشفى و أرجو الله أن يوحد صفوف الشباب و يعينهم على رد الجيش المحتل عن أراضينا .
صفحة الكاتب على فيسبوك
أسرة التحرير
محمد حسن عدلان
وائل زهراوي
مجلة البيان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
محمد العبدة