عبد الله الرحمون
المرفقـــات
تصدير المادة
المشاهدات : 4435
شـــــارك المادة
وَجَدَت الهيئةُ الأمنيةُ في مدينة حلب بيد أحد الأسرى الدواعش قبل مدة مخطوطاً منسوخاً، على اعتبار أنها الهيئة المسؤولة عن تنظيف المنطقة المحررة من المدينة من بقايا الجيوب الداعشية والعناصر المنتمين للتنظيم. وقد قال الأسير الذي وُجد “المخطوط” معه، إن هذا المخطوط أحد الكتب التأسيسية التي يتم تعليمها في التنظيم بالتزامن مع كتاب “إدارة التوحش” لـ”أبي بكر ناجي”. ومع أن كتاب “إدارة التوحش” قد نال حظه من الشهرة والاهتمام والتأثير، لكن لكتاب “الحرب الحقيقية والحرب الرمزية” لـ”عبد الرحمن الفقير” أثراً كبيراً في التنظير الاستراتيجي للتنظيم.
وأثناء البحث والتتبع تبيّن أن جزءاً من الكتاب موجود على الإنترنت في منتديات “أنا المسلم”[1].
علماً أن الكتاب قد كتب على مراحل قبل الربيع العربي، وهو ينظِّر لما كان يسمى بـ”دولة العراق الإسلامية” حينها.
١. مفاهيم أولية
١.١ ما هي الحرب الرمزية؟
للمقارنة بين الحرب الرمزية والحرب الحقيقية، لا بد من التعريف بمعنى الحرب الرمزية في عُرف المؤلف، وقد أحببنا البدء بالحرب الرمزية لأن كاتب المخطوط قد قال في مقدمته التي أسماها “استراتيجية قرصة العقرب”: إن “الحرب التي يخوضها المجاهدون اليوم، هي أقرب ما تكون إلى صنف الحرب الرمزية، من كونها حرباً حقيقية”. فالحرب الرمزية هي التي يسعى فيها “المجاهدون” على حد تعبيره، إلى “التمظهر بمظهر القوة أكثر من السعي إلى امتلاك تلك القوة، حيث الهدف من وراء القتل ليس التخلص من الهدف، إنما إثارة الزوبعة الإعلامية والرأي العام”[2].
٢.١ ما هي الحرب الحقيقية؟
على الرغم من أن الكاتب لم يعرِّف ماهية الحرب الحقيقية في عرفه، لكننا نتمكن من فهم ضد الشيء أن نقول إن الحرب الحقيقية هي الحرب التي تخاض من أجل التخلص من الهدف والانتصار عليه على أرض المعركة وفي ميدان الحرب العسكرية وغير العسكرية. “فإثبات القدرة على فعل الشيء أهم من القدرة الحقيقية على فعل ذلك الشيء، ومظهر الرجل مفتول العضلات أهم من القوة الحقيقية لتلك العضلات التي يحملها”.
٢. العمليات النوعية:
إذن “التمظهر بالقوة” في سياق الحرب الرمزية، وامتلاكها حقيقةً في الحرب الحقيقية، هو الركن الأول والفارق المعرِّف لكليهما. أما “العمليات النوعية” فهي الركن الثاني للحرب الرمزية؛ إذْ إن “العملية النوعية” كما يراها “الفقير” هي العملية التي تُثير حولها زوبعة إعلامية وأحياناً زوبعة سياسية، وعادةً ما لا يكون الهدف منها “الهدف المباشر” بل مجتمع الدولة المحاربة؛ وذلك بإيهان نفسيته وتفجير التناقضات داخله. وهذه العمليات النوعية على اختلاف درجاتها ليست شيئاً صُلباً قاتلاً، فالقتل ليس هدفاً إنما ما بعد القتل.
الحرب الرمزية أشبه بـ”لعبة حرب” وليست “حرباً حقيقية”، إذ نرى فيها أن عدد النقاط وتراكمها أهم من النقاط ذاتها، والمنتصر في هذه الحرب من يصمد أطول فترة ممكنة عن طريق تجاوز عدد نقاط الخصم إنْ عسكرياً أو أمنياً أو إعلامياً أو نفسياً. يمكن فهم ذلك إنْ تصورنا عناصر الحرب الرمزية كالعناصر في مفهوم الـ””gamification، والذي يعني تطويع عناصر اللعبة في مجال غير مجال الألعاب كالاقتصاد أو التعليم[3] وهي ليست عناصر ثانوية بل ربما تكون بنيوية وتأسيسية، فنقاط الحرب كنقاط اللعبة، تُطلب لذاتها.
أما الإعلان عن أي عملية نوعية فليس ذا أهمية في الحرب الحقيقية، هي لا تهتم عادة بأن يظهر اسم الجهة المنفذة للعمليات، بل تهتم بالنتائج الحقيقية المنفذة على أرض الواقع، أكثر من الاهتمام بالجهة المنفِّذة أو الإعلان عنها. أما غاية الحرب الرمزية فهي إثبات الوجود، وإثبات الوجود هذا يُعتبر غاية لذاته وتقام العمليات من أجله. يُبنى على ذلك، أن غاية إثبات الوجود وتعزيزه تُطلب لإثبات القوة الذي يُعتبر الركن الركين للحرب الرمزية، في حين أن عدم تبني العمليات في الحرب الحقيقية يعتبر هو الأصل لأهمية نجاح العملية لا الإعلان عنها أو تبنيها.
٣. الموقف من المجتمع الحاضن بين الحرب الرمزية والحرب الحقيقية:
من المعروف أن تنظيم القاعدة، بكل تطوراته وطبقاته وانشقاقاته، لا يولي الحاضنة الشعبية أو “المكون السني” للجهاد كثيراً من الأهمية، ولا يعطي أي اعتبار لحياته وأمنه الغذائي أو الجمعي، بله عن صلابة الكيان الجمعي وتمكنه من الحفاظ على واقعه الجيوسياسي. في الكتاب الذي ألفته الصحفية “ديبورا آموس”، والذي بعنوان “أفول أهل السنة: التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأمريكي للعراق”[4] نرى أن الحواضن السنية للجهاد العراقي ضد الأمريكيين عانت من القاعدة وتصرفاتها أكثر من المحتل، وهذا كتبه صريحاً وبتعبير شديد الحضور، حين قال مؤلف المخطوط: “إن أكبر عيوب حرب العصابات هي أنها تأكل الكثير من المدنيين الأبرياء، وذلك هو ثمن التحرير الذي لا بدَّ منه”، ونراه أيضاً بشكل غير صريح في الرِّدَّة الاجتماعية عن الهوجائية القاعدية، التي استثمرها الأمريكيون في صناعة الصحوات.
داعش أيضاً، وهي النموذج النهائي للتنظير القاعدي لإدارة التوحش كما أرادها “أبو بكر ناجي”، والتفسير التطبيقي للحرب الرمزية كما أرادها “عبد الرحمن الفقير”، قد أُلهِمَت من الحداثة الغربية وصورتها السينمائية، وأَلهَمت المليشيات الإيرانية في العراق وسوريا. فإنْ لم تكن ألهمتها، إذ النموذج الإيراني في صناعة الرعب هو نموذج روسي لا يحتاج داعش لتُلهِمَه، فإنها أعطتها الفرصة على الأقل كي تسوّغ تصرفات المليشيات وأفعالها التي لا تقل عن النموذج الداعشي سوءاً، بل ربما تفوقها. كتاب ديبورا آموس يوضح أثر تصرفات المليشيات الطائفية في التهجير الجماعي الذي يفتت المكون السني (ولا يزال)، معللاً ذلك بأنها حواضن “للقاعدة”.
نجد دليل ما سبق في مخطوط “الحرب الرمزية والحرب الحقيقية” وفي مواضع مختلفة، إذ يقول: “إن التنظيمات في الحرب الحقيقية لا تهتم كثيراً إلى ما يقوله الناس بقدر اهتمامها بما سوف تحقق من نتائج، وهي تعتقد أن ما يقوله الناس سوف يزول بمجرد تحقيق النصر، ولأن الهدف أكبر من أن يوافق عليه عوام الناس أو يرفضون”. على الرغم من أن الحرب الرمزية تهتم بشكل كبير بصورة التنظيم عند الناس، لكن الصورة التي يُراد صناعتها في ذهن الناس “أن المجاهد قوي وعادل ومُضحٍ وأخلاقه حميدة”. فالمجاهد هنا هو مركز القضية وليس الناس. ثم إن صورة المجاهد القوي في ذهن المؤلف تم تفسيرها تطبيقياً في النموذج الداعشي، أنه القوي “الذي يهابه الناس” ويخافونه.
واستدل بأهمية تجاهل الضحايا من المدنيين بـ”إنزال النورماندي” Normandy landings، الذي يُعرَف بعملية نبتون Operation Neptune، وهو الإنزال الذي قام به الحلفاء (المكونون من أمريكا وبريطانيا و١١ دولة أخرى) في شاطئ النورماندي الفرنسي الذي احتلته ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية؛ وذلك لطرد الألمان منه[5]. إذ قال: “كانت الخسائر في الأرواح كالتالي: عدد قتلى الجيش الألماني ثمانية آلاف جندي، وعدد قتلى الأمريكان ستة آلاف جندي، أما عدد قتلى المدنيين (الأبرياء) من الفرنسيين الذين كانوا يعيشون هنالك فكان عشرين ألف قتيل”، ثم يستنتج من ذلك قائلاً: “تخيل لو قيل لسكان النورماندي أننا نريد أن نحرركم من الألمان، لكن سيُقتَل من مواطنيكم عشرين ألفاً، هل كانوا سيوافقون؟!”.
٤. البناء العقائدي في الحرب الرمزية والحرب الحقيقية:
يعتبر تنظيم القاعدة وتنظيم داعش من التنظيمات الشمولية العقائدية، التي تُعلي من شأن التكوين العقائدي الحاكم في الحياة والدولة والمجتمع إلى حدٍ يمكن اعتباره أُسّاً بُنيوياً للتنظيم. لكن “مخطوط الحرب الحقيقية والحرب الرمزية” يفرق بين نوعَي الحرب على مستوى التطبيق للعقائد أو لنقل الاجتهاد التطبيقي، ويجعل لكل نوع من الحرب أولوياته، لا يعتمد على التدرّج أو ثنائية الاستضعاف والتمكين، كما هو منتشر في الاجتهاد العام للمدارس الإسلامية المعاصرة، بل يرى أن الظرف الزماني والمكاني يؤثر على الاستراتيجية العامة في التأثير والنشر العقائدي.
في الحرب الرمزية، كما يرى المؤلف، “تسعى المنظمات إلى أن تنشر فكرها (العقيدة) قبل أن تنشر جنودها؛ لأنها تعتمد على العقيدة في القدرة على تصبير المجتمع في حرب قد تطول عقوداً من الزمن”. أما في الحرب الحقيقية فإن “الأنظمة (لعله يعني التنظيمات) ليس لها الوقت الكافي ما يؤهلها لنشر فكرها لذلك فهي تتحرك عسكرياً قبل أن تتحرك عقائدياً”. وينعكس هذا التصور في أن “مجتمع الحرب الحقيقية هو مجتمع محارب، وليس مجتمعاً خليطاً من كل الطبقات، لذلك فإنها تسعى لنشر عقيدة الحرب أكثر من سعيها لنشر عقيدة شاملة، وتعتمد على إيمان النخبة بعقيدتها للمطاولة في الحرب”.
ولأن داعش تعيش في وضع Mode)) الحرب الرمزية، فإنها كما قال Jacob Olidort في مقالته Theology in Foreign Policy: “مدفوعة بعقائدها أكثر ممّا هي مدفوعة بأولويات الدولة، ولذلك هي أكثر مرونة منها ساكنة كدولة تقليدية، وهجمات أمريكا عليها لن تؤثر كثيراً كما لو كانت ستؤثر لو هاجمت دولة تقليدية”[6]. وهذا الكلام دقيق في معنيين: أن تفاعل العقيدة، في فهم داعش لها، مع الدولة ومكوناتها، يتمكن من بلورة ظروف ذات ديمومة تتقلب بين الكمون والظهور. والمعنى الآخر أن داعش يشد “شقها السَّلَفي” الدولةَ نحو حالة عقائدية، ويشد “شقها البعثي” لجعل قيم الدولة تحرك العقائد، وهذا يجعل منها حالة مرنة وذات قدرة على التكيف[7].
وبناء على هذه القناعة، التي كتب تصورها “عبد الرحمن الفقير”، بأهمية الدعوة إلى العقيدة في زمن الحرب الرمزية وبناء جيل عقائدي، خلافاً للتركيز على التربية الجهادية المحضة في زمن الحرب الحقيقية، فقد قام تنظيم الدولة بكتابة وإنشاء منظومة تعليمية متكاملة للمدارس التي توجد في أماكن سيطرته. هذه المنظومة المتكاملة تستبطن في كل منهاج منها الناحية العقائدية؛ فمادة الرياضيات مثلاً تعلِّم الناشئة أساسيات الحساب والرياضيات عبر جمع وطرح أعداد البنادق والمسدسات[8]، وكأنها تنقل منظومتها الفكرية إلى صفوف المدارس كأداة للحرب أكثر منها أداة للبناء الاجتماعي والعلمي[9]. فكل شيء مطوَّع إما للحرب الرمزية أو للحرب الحقيقية.
أما الموقف من نشر العقيدة، وليس مكانها في البناء داخل التنظيم، فقد قال: إن “الهدف من نشر العقيدة في الحرب الحقيقية هو شق صف العدو، في حين أن الهدف من نشر العقيدة في الحرب الرمزية هو هداية مجتمع العدو. وتسعى في الحرب الحقيقية إلى تدمير عقيدة خصمك أو التشكيك فيها، في حين تسعى في الحرب الرمزية إلى أن ينضم عدوك إلى عقيدتك أو أن يصدق بها”.
٥. الإعلام بين الحرب الرمزية والحرب الحقيقية:
لم تُدرَس ناحية من النواحي المميزة لتنظيم الدولة “داعش” كما درست الناحية الإعلامية، لكن المخفي من الأمر أو الذي لم يوضع بشكل كبير على طاولة الدرس، هو مكان الإعلام بالنسبة لتنظيم الدواعش، وهل هو وسيلة أم غاية؟! إذ إن جواب هذا السؤال مهم لاعتبار أساسي ألا وهو: هل الإعلام محرك وصانع للأحداث أو للمشاريع التي يقوم بها التنظيم أم هو أداة بيد التنظيم يستثمر الحدث العسكري فيها لإحداث ضجة إعلامية مؤثرة.
يقارن “الفقير” بين الحرب الرمزية والحرب الحقيقية في موقفهما من الإعلام. فيقول: إنه “في الحرب الحقيقية الإعلام وسيلة تحقيق النصر، أما في الحرب الرمزية فالإعلام غاية بحد ذاته. في الحرب الحقيقية الاهتمام بانتشار الرسالة أكبر من الاهتمام بمصداقيتها، أما في الحرب الرمزية فالاهتمام بمضمون الرسالة يفوق انتشارها. في الحرب الحقيقية يوجه الإعلام نحو جنود الأعداء. أما في الحرب الرمزية فالإعلام يوجه نحو مجتمع الأعداء”.
مثال هذا التفريق الدقيق في الذهن الداعشي، وهو ما قام التنظيم بتنفيذه بشكل نصِّي، ما قاله في موضع آخر: إن “عمليات اختطاف الصحفيين هي عملية دعاية إعلامية مركبة أكثر منها عملية عسكرية. ما يحصل عليه التنظيم من شهرة نتيجة تلك العمليات تفوق كثيراً أي عملية أخرى، والشهرة تأتي من وسيلة الإعلام التي ينتمي إليها المختطفون”. وهكذا نرى أن الإعلام هو مكون أصلي من مكونات بنية تنظيم الدولة “داعش”، بل يمكن أن نقول إنه تنظيم من صوت إعلامي، يترافق مع مشاريع عسكرية وعقائدية وتنظيمية.
علاقة تنظيم الدولة بالإعلام الإلكتروني قديمة، فما نراه اليوم هو انتشار كبير على منصة تويتر، إذ تقدر دراسة أعدها مركز بروكينغز أن العدد الأقصى من “الحسابات الداعشية على تويتر” يبلغ 90.000 حساب[10]، في حين أعلنت شركة تويتر في وقت لاحق أنها أغلقت ما لا يقل عن 125.000 حساب “يروج لأعمال إرهابية على صلة بداعش” ممّا يؤكد أنها تزيد عن تقديرات بروكينغز، هذا إن تم احتساب “المتأثرين” ضمن الناشطين”[11]. والسبب في ذلك أن الإعلام الجديد حيادي إلى حدٍ ما في صورة المحتوى الذي تريد داعش نشره، على خلاف الإعلام المتلفز، كما قال في المخطوط: إن “الحرب الرمزية تهتم بمضمون الرسالة”.
يقول “عبد الرحمن الفقير” في مخطوطه: إننا “تخطينا مرحلة الإعلام الجهادي، ويجب اليوم أن نرتقي بالمنتديات الإلكترونية من طبقة الإعلام في الحرب الرمزية إلى طبقة العسكرية في الحرب الحقيقية. نحن اليوم بحاجة إلى إنشاء المنتديات التي تتبنى إنتاج البحوث الجهادية والدراسات العلمية”. بالإضافة إلى الانتشار الواسع على تويتر، فإن لتنظيم داعش صحيفة إلكترونية باللغة الإنكليزية اسمها دابق[12]، وتم إنتاج صحيفة أخرى تبث باللغة الروسية، تحمل عنوان ISTOK وتعني “المصدر” في اللغة الروسية[14,13].
٦. سؤال الزمن في الحرب الرمزية والحرب الحقيقية:
يعتبر الزمن في الصراعات أساسياً في صناعة النصر، وهو عامل هام في بناء الأمم أيضاً وتأهيلها للبناء والحصول على الموقع المناسب بين الأمم الأخرى، ولا أشد من زماننا المعاصر في ظهور معنى الزمن فيه، وكأن الناس في سباق كبير لا ينتهي وعجلة لا تتوقف. يبدأ مؤلف المخطوط رؤيته حول الزمن، بقصة حكى فيها أنه “في الثورة الصينية ضد اليابان، لم يفكر الثوار الصينيون في إنهاء الحرب رغم قدراتهم على إنهائها لو أرادوا، كان تفكيرهم ينصب دائماً حول: كيف يمكن إطالة زمن الحرب قدر الإمكان. تعجب الخبراء العسكريون من ذلك التفكير، أما قائد الثورة الصينية “ماوتسي تونغ” فكان يقول: إن الزمن هو أحد الأبعاد التي يجب أن نستخدمها في المعركة. لقد كان الزمن كفيلاً بسد الفرق التقني بين الجيش الياباني والثوار الصينيين، كما أنه كلما مر الزمن زادت نقمة المجتمع على المحتل وزاد عدد الأنصار وذلك كفيل بتحقيق النصر”.
بعيداً عن مدى صدقية القصة، لكنها تعطي ملمحاً لموقفه من الزمن، وأن واقع التنظيم يعطيه اعتبارية في الاختيار بين الكمون والظهور أو الاستضعاف والتمكين. لكنه يلخص ذلك الموقف بقوله: “في الحرب الحقيقية يجب أن تنتهي الحرب بأسرع وقت ممكن، أما في الحرب الرمزية فيجب أن تطول الحرب لأطول فترة ممكنة. الزمن في الحرب الحقيقية مجال تدور فيه المعركة، أما الزمن في الحرب الرمزية فسلاح في المعركة. في الحرب الحقيقية يستخدم الزمن لزيادة خسائر العدو المادية على أرض المعركة، أما في الحرب الرمزية فيُستخدم الزمن لأجل زيادة خسارة العدو في دولته”.
٧. العهد المكي والعهد المدني بين الحرب الرمزية والحرب الحقيقية:
نظريتان أساسيتان تحكمان العقل الإسلامي لدى أغلب حركات العمل الإسلامي:
الأولى هي “نظرية الاستضعاف والتمكين”، التي بُني حولها اجتهادات فقهية ونظريات عقائدية.
والثانية هي “نظرية العهد المكي والعهد المدني”، وهي القراءة للزمن النبوي وسيرة النبي الكريم والآيات التي نزلت في كلا العهدين، ثم الخروج بنتائج حاكمة واجتهادات ناظمة وصفات فارقة بين العهدين على مستوى العقائد والشرائع. هاتان النظريتان تتداخلان وتؤثر كل منهما في الأخرى إيجاباً وسلباً، وعليهما يتم بناء الاستراتيجية العملية للمشروع العام لأي حركة أو جماعة إسلامية تتفاعل مع السياسة والواقع وقضاياهما الحاضرة واللحظية واللاحقة زمنياً[15].
فيما يتعلق بالحرب الرمزية والحرب الحقيقية، يرى “عبد الرحمن الفقير” أن هناك انفصالاً ما بين العهدين المكي والمدني وأثر ذلك على البناء الاستراتيجي، فيحاول أن يجعل العهد المكي حرباً رمزية، في حين يكون العهد المدني حرباً رمزية في مجملها وتخللها بعض من مظاهر الحرب الحقيقية. فيقول: “قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث عشرة سنة في مكة كلها معاناة ودماء وألم توَّجها بالهجرة (التي تُعتبر) أولى الانتصارات في الحرب الرمزية. ثم أتبع ذلك عشر سنوات في المدينة تضمنت بعض الحروب الحقيقية (بدر وأحد والأحزاب) والكثير من الحروب الرمزية (انتشار الدعوة ودخول الكثير من قادة مكة والقبائل المجاورة في الإسلام وتحصين الدولة الإسلامية الفتية وتفتيت الأعداء)”.
٨. صناعة الإرهاب في الحرب الحقيقية والحرب الرمزية:
يتبادر إلى الذهن، للوهلة الأولى، عند ذكر كلمة “إرهاب” أنها تعني: العنف أو الرعب، مع أن لها معنىً اصطلاحياً مختلفاً في القانون الدولي، ومعنىً اصطلاحياً آخر في الشريعة الإسلامية. لكن “عبد الرحمن الفقير” يفرِّق بين ما أسماه “الإرهاب الحار” و”الإرهاب البارد”. “فالإرهاب الحار” هو الذي يقصد منه صناعة الرعب والخوف الجمعي الكبير، في حين أن الإرهاب البارد هو القتل أو ضرب العدو دون أن ينتج عن ذلك حالة استفزاز كبيرة منه تجاهك”. وكان مثاله على ذلك بأن “وضع مادة السيانيد في أحد خزانات ماء الشرب لا يمكن أن يؤثر إلا إذا كان بكميات كبيرة، لكن وضع ما هو متوفر من مادة السيانيد في ذلك الخزان، ثم إرسال إنذار بتسرب تلك المادة إلى مياه الشرب، يمكن أن يجعل الأمريكيين يموتون عطشاً، خصوصاً إذا اكتشفوا وجود نسبة من السيانيد في الماء فعلاً”.
هناك علة لدى “عبد الرحمن الفقير” في التفريق بين الإرهاب الحار والإرهاب البارد؛ وذلك لأنه “في الحرب الحقيقية يتم الاعتماد على الإرهاب البارد لأنه يجنبنا ردة فعل العدو ويسمح للمنفذين بالانسحاب بأمان، وفي الحرب الرمزية يتم الاعتماد على الإرهاب الحار لأنه أشهر دعائياً وأشد رعباً وأكثر تأثيراً في الإعلام. في الحرب الحقيقية الأصل في ضرب العدو هو التخلص منه، في حين أن الحرب الرمزية الأصل في ضرب العدو فيها هو إرعابه”. وهذا يوضح ما أكدناه سابقاً بأن الإعلام هو النواة الحاضرة في كل المجالات أو المكونات لتنظيم داعش.
خاتمة:
مع أنَّ مؤلف المخطوط “عبد الرحمن الفقير” والمعروف بـ”المفكر الاستراتيجي” داخل الوسط الجهادي، قد بيَّن أنه لا بد من الموازنة بين أساليب الحرب الحقيقية وأساليب الحرب الرمزية إذ قال: “لا بد أن نستخدم كلاً من الحرب الحقيقية والحرب الرمزية وأن نناور في التنقل بينهما”، لكسب المعركة ثم كسب الحرب. وذلك لأنَّه لا بد من أدوات الحرب الحقيقية لكسب المعركة، ولا بد من أدوات الحرب الرمزية لكسب الحرب. لكننا نتمكن حين نتتبع أفعال تنظيم داعش وتصرفاته من أن ندَّعي أن التنظيم يتبنى الحرب الرمزية بشكل كبير وأحياناً فج، ويفضلها على الحرب الحقيقية. ويمكن القول بشكل لا يقبل التخطئة الكليَّة أنَّ داعش ظاهرة صوتية “ترعيبية” وهذا أحد مظاهر جاذبيتها [16] لجيلٍ يعيش في ثقافة حداثية تكنولوجية تُعلي من قيمة الإعلام والإبداع الرقمي.
لم يكن القصد من هذا البحث القراءةَ التفصيلية لهذا المخطوط الذي يتجاوز ٢٠٠ صفحة من القطع الكبير، والخروج بدراسة وافية لمنطق داعش الاستراتيجي والعقائدي، لعدة اعتبارات أهمها: أننا لا نعرف على سبيل القطع مدى أثره على القيادة العليا في تنظيم داعش، ومنها أنه قد كتب في زمن مختلف، ولا نعلم من هو “عبد الرحمن الفقير”، الذي قال عن نفسه من المخطوط إنه من القاعدين (المجاهد غير العامل)، وموقفه من داعش ومن جبهة النصرة؛ لأنه بإمكاننا أن نرى أثراً من المخطوط على جبهة النصرة أيضاً؛ وذلك لأسباب منها تشابه بنيوي بين داعش وجبهة النصرة، لكنه قطعاً قد أعطانا ملامحَ من طرائق تفكير هؤلاء وآثار هذا المخطوط المغمور على تنظيم داعش.
-------------------------
الحواشي:
إدراك
المرصد الاستراتيجي
نبيل العتوم
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة