نبيل جلهوم
تصدير المادة
المشاهدات : 2846
شـــــارك المادة
كلا إن معي ربي سيهدين! سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: البحر أمامه! العدوُّ خلفه!
رُغم ذلك لا مجال عنده لليأس أو الانهزام. ولا وقت عنده للانتظار ووضع اليدِ على الخدِّ. بل المجال مجال التحرك والانطلاق بخطوات ربَّانيَّة. يستحضر اليقين في ربه. يستلهِمُ الثقة من وجود ربه. رُغم أن المشهد مُعتمٌ ومخيف! أول المشهد بحرٌ راعب! وثاني المشهد عدوٌّ من الخلف مُتجهِّزٌ. ورُغم ذلك يتحرك بخطًى ربَّانيَّة. خُطَى الواثق من ربه. يحارب اليأسَ، ويتحلَّى بالأمل. يَتفاءَلُ، ثم يتحرك، ثم يتحدى بتحدٍّ كبير. بكلماته الربَّانيَّة: كلا إن معي ربي سيهدين. يُزلزِلُ بها عروش اليأس والتردد في نفسه. فيعطي الدروس. نعم، يعطي الدروس على مرِّ التاريخ. يعطي الدرس الأول: أنه لا يأس بل أمل. يعطي الدرس الثاني: طالما أن الله موجود، إذًا لا خوف بل طمأنينة. يعطي الدرس الثالث: بدأنا مع الله، إذًا لا رجوع، بل استكمال للمسيرة مع الله. فما أن لبثتِ الأمور قليلاً من الوقت، إلا وقد ظهرت النتائج الربَّانيَّة العظيمة. ظهرت كنتائج طبيعية ربَّانيَّة لمقدمات ربَّانيَّة قد مهد بها ولها. فيأتي ذلك اليقين، وتلك الثقة، وذلك الأمل. فيلتقون جميعًا كلقاء الأحبة المتلهِّفين المشتاقين. المتلهِّفين بعد ابتعاد وضباب، والمشتاقين بعد طول غياب. لقاء يجمع اليقين مع الأمل، مع الطموح، مع الثقة. كله متوَّج بلقاء أعظم، وغطاء أجلَّ، وهو المعية الربَّانيَّة. الكل يجتمع في مَعين نوراني رباني واحد. تخرج ثماره في صيحة واثقة قاطعة شافية. صيحة الواثق من ربه. صيحة المتأمل في ربه. صيحة الموقن في ربه. صيحة من أحسَنَ الظن في ربه. صيحة: كلا إن معي ربي سيهدين! ذلكم النبي موسى. وذلكم أنا، وذلكم أنتم. فقد تتكالب علينا الأمور في حياتنا. تنزل المحنة بعد الأخرى، تكسر العظام، وتهشم الرأس. تُوقِف الأحوال، تزيد الهم، تجلب الحزن، تُعتِّم المشهد. خطوب من هنا، ومتاعب من هناك. أمراض من فوقنا، وأخرى من تحتنا. أعداء من أمامنا، وآخرون من خلفنا. حتى لتكاد تظهر كل المعطيات أمامك وكأن النجاة قد باتت مستحيلة. توحي إليك بأن الغرق آتٍ لا محالة. توحي إليك بأنه لا مجال إلا لليأس والقنوط. فلا فائدة تُرجى، ولا أمل سيتحقق. فالبلاء منذ زمن قديم قد طال زمانه. والطرق مقفَلةٌ، مغلقة في الوجه لا محالة. والضمائر قد بيعت، وإنَّا لله وإنا إليه سبحانه راجعون! والأنفس قد خربت، وصارت باهتة خاوية: خاوية من القيم والمثل. خاوية من الأخلاق والفضيلة. خالية من كل ما ينتسب إلى الإنسانية برابط. فذاك يؤذي هذا عمدًا وتغيُّظًا، وكيدًا ونكايةً، وحقدًا وحسدًا. وفلانٌ يشكوك لمديرك؛ ليشوِّه سمعتك وسيرتك، وليركب هو سُلَّم الترقي والحوافز. أخلاق قد ضُيِّعَتْ. قيم قد تلاشت. مشاهد كلها تبعث على القهر وتؤلم النفس. فيأتي الدور الإبليسي هنا؛ ليكمل المشهد سوءًا وسوادًا، وبُؤسًا واشمئزازًا. فيوحي إليك إبليس وجنوده بأنه لا داعي من المُضي قُدُمًا نحو أي خير. يوحي إليك بأنه قد فات الأوان لكي تُصلِحَ ما أفسده الناس والزمان. يوحي إليك بأنْ كن أنت مع نفسك وحدك. ولا داعي من النظر مرة أخرى إلى نفسك. أو قد يوحي إليك بأنه قد فات زمان نفسك. يوحي إليك بأنه لا داعي من نظرة متفحصة إلى ربك. بحجة أنك كاملٌ في عبادتك، ربانيٌّ لا شيء يعيب عبادتَك. وأن عباداتك على ما يرام، وكأنها قد صارت عند الله مقبولة. أو أنك قد حجزت بها مقعدًا في الجنة. أو بحجة أنه قد قَرُبَ موعدُ رحيلك عن الدنيا وموتك. أو أن الطريق قد صار مسدودًا بينك وبين الناس للأبد. هكذا تتوالى عليك الإيحاءات الإبليسية، والإشارات الشيطانية. فتزيدك سوءًا على سوء. فهي بلاء آخر من نوع آخر. بلاء من نوع أصعب، وذو طبيعة أكثر اسودادًا. لأنه بلاء من وحي إبليسي ومن جنده. جنده من البشر قبل جنده من الجن. يريد إبليس وجنده بتلك الإيحاءات أن يُخسروك. يريدون بها أن يُقعدوك. يريدون بها عن الدنيا أن يعزلوك. يريدون بها أن يحبطوك. يريدون لمتاعك وملذاتك أن يُفقدوك. يريدون من فرحة الدنيا وملذاتها أن يحرموك. بالإجمال لا يريدونك في الدنيا بأكملها، بل يعملون فيها بالممحاة جاهدين أن يمحوك. فهل يا عبدَ الله يليق بك ويصح لك أن تستسلم لإبليس وجنده من الجن والإنس. هل يصح أن تُسلِّم لهم الراية، وترفعها منهزمًا، وتعلن يأسك، وبعدك عن ربك؟! ألم يكن كيد الشيطان والإنسان ضعيفًا أمام الله القوي المهيمن؟ ألا يوجد رب متين تستقوي به على إبليس وجنده من الجن والإنس، كما استقوى موسى بربه أمام البحر والعدو؟ أمَا آن أوانك؟ أما آن أوانك كي ترفع رأسك، وتحطم يأسك؟ أما آن أوانك كي تمسك مصحفك وتخلو بربك؟ أما آن أوانك كي تتحلى بالأمل في ربك؟ أما آن أوانك كي تُحاسب نفسك؟ كيف أنت؟ كيف أنت مع نفسك؟ كيف أنت مع ربك؟ كيف أنت مع زوجك وزوجتك ومن أحببتهم؟ أما آن أوانك؟ أما آن أوانك كي تصلح ما أفسده الناس عليك؟ أما آن أوانك كي تصلح ما أفسده الزمان عليك؟ سيدي، فلتكن موسى. وتحلَّ بالظن الحسن في الله. انهض من ركود، وتقرَّب إلى المعبود. استمر! استمر لا توقِفْ مسيرتك نحو العطاء؛ ففي العطاء كل لذة. انوِ الخيرَ دائمًا حتى لو لم تستطع إنجازه. فأجرك مكتوب عند ربك. أعط لا تؤجل. فالموت قادم لا محالة، والدنيا صغيرة وقصيرة! أعط لا تؤجل، ولا تبخل من نفسك وروحك على من يستحق. أعط لا تؤجل، ولا تبخل من قلبك على من يستحق. أعط لا تؤجل، ولا تبخل من علمك ونُصحك على من يستحق. أعط لا تؤجل ولا تبخل أن تكون أنت كما كنت من قبل أنت. أعط، وكن في عطائك إمامًا للمُعطين، وقدوة للذاكرين. أعط، فالسعادة إنما هي لحظات تشبه المعلبات ذات الصلاحية إذا انتهت مات وانتهي زمانها، وصارت بلا فائدة. أعط، قبل أن يأتي يوم قد لا تستطيع أن تُعطي فيه. أعط، وكن كموسى. واجمع عليك نفسك وعقلك وإيمانك. لا تجعل الشيطان لك قرينًا؛ فبئس القرين. لَمْلِمْ جراحَك. وبدِّد أحزانك. وحارب إبليس وأصدقاءَه وأتباعه. استجلب بكل وسيلة معيَّة ربِّك. وردِّدْ بقوة المؤمن وإيمان القوي. ردِّدْ بثقة الموقن ويقين الواثق. ردِّدْ بأمل المؤمن وإيمان الأمل. وأعلِنْها عاليةً مُدوية قوية: كلا إن معي ربي سيهدين! وصلِّ اللهم على نبينا محمد، معلم الناس الخير للناس أجمعين.
الألوكة
محمد أحمد الفراج
شفاء العوير
أنس الدغيم
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة