..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

الجحيم تنتظر وقودها

ليلى مار

٨ يناير ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6802

الجحيم تنتظر وقودها
الأطفال1.jpg

شـــــارك المادة

طريق دمشق بيروت لم يكن مزدحماً، ووصلنا بسرعة إلى الحدود.. وحيث وقفت أمام الأمن العام اللبناني في طابور ليس بالطويل، لفت انتباهي صوت طفل يسأل المرأة الواقفة جانبي: ماما.. أنت خيفانة؟
رفعت نظري إلى أمه؛ فرأيت عيناها مغرورقتين بالدمع، وهي تمد يدها للطفل بعلبة بسكويت كي تلهيه ليكف عن السؤال؛ فلا تجيش مشاعرها أكثر..
وفي الزاوية، حيث تجمعت مجموعة صغيرة من النسوة سمعت إحداهن تصف للأخريات كيف هوت البناية في حيها.
على مشارف بيروت بدأ السائق يثرثر وأنا أستمع ولا أرد، وبعد أن انتقد الجيش الحر المرابض عند مطار دمشق، وأخبرني أنه كان على معرفة قريبة بحكم عمله السابق بعائلة الأسد، قال:


أحد اللبنانيين قال لي ساخراً أن بشار راحل؛ فقلت له بشار سيبقى رغم أنوفكم!
- اللبناني على حق، وبشار زائل رغم أنفه هو، وأنف من والاه ووقف معه.
فاجأ جوابي السائق؛ فحاول برم موقفه للاتجاه المعاكس:
مدام.. أنا قلت له ذلك فقط لأنه لبناني ولا أريده أن يشمت بنا!
وبدأ ينتقد النظام وكيف أفسد البلاد والعباد!!
أربع ساعات كان علي الانتظار في مطار بيروت حتى إقلاع الطائرة؛ فإن تصل مبكراً في هذه الظروف خير من أن تطير الطائرة بدونك!
ولا داعي طبعاً لإجراء مقارنة ما بين مطار بيروت ومطار دمشق الغني عن التعريف من حيث البناء والرحابة والخدمات والنظافة، والذي يسمونه تجنياً "مطاراً دولياً"!!
استقبلني في المطار صديق أحب سورية وشعبها، وعاش فيها عقداًً من الزمن، وعرف عن قرب زمن حافظ الرديء، وخبر بعضاً من زمن ابنه، وقال لي: لم يخطر ببالي قط أن يحصل في سورية ما يحصل!
ولماذا لم يتوقع ذلك؟.. فهل زرع فينا عهد الأسدية الخوف للأبد؟.. أم أنه قدرنا المحتوم أن نكون لهم عبيداً وتبقى بلادنا لهم مزرعة؟!
لقد فاجأني موقفه من الثورة وتخوّفه من الإسلاميين؛ فعرفت أن الإعلام الغربي قد فعل فيه فعلته!
ناقشته؛ فأخبرني بشي من عدم الاقتناع بكلامي، عن ذلك الفيديو اللعين الذي صوّره عناصر الجيش الحر، وهم يقومون، رغم التوسلات، بإعدام بعض جنود الأسد على حافة الرصيف.
فقلت له: يا الله.. كل جرائم الأسد مسكوت عنها ولا تثير من الضجة ودرجة الاستنكار ما أثاره ذلك الفيديو، صحيح أن ما حدث خطأ ما كان ينبغي للجيش الحر اقترافه؛ ولا تصويره وعرضه؛ لكننا لا نعرف ما الذي فعله أولئك الجنود لتكون ردات فعل من أمسك بهم عنيفة إلى ذلك الحد.
وفي الصباح التالي، حيث وقفت أنتظر الحافلة لتقلني إلى المشفى، قرأت مجدداً تلك الجملة المكتوبة على عمود الكهرباء هناك بلغة أهل ذلك البلد: نريد سلاماً لا حرباً.
وفي صباح آخر خرجت مع فلذة كبدي أدفع الكرسي المتحرك أمامي من غرفة المشفى إلى الهواء الطلق.
كانت النفس حزينة مثقلة بالهموم رغم الشمس المشرقة، وتوقفنا عند التلة نتأمل بيوت البلدة المتناثرة تحتنا، وما أن رفعت بصري للسماء حتى لمحت طائرة مروحية، فتذكرت أخريات تشبهها؛ لكنها غربان موت تحوم هناك.. في سمائنا السورية.
لم يترك لي استنفاري الدائم، ومكوثي في المشفى من الصباح الباكر وحتى المساء، مجالاً للدخول إلى الشبكة العنكبوتية لمتابعة الأخبارالمفصّلة؛ ولكنني تابعت ذات مساء عبر شاشة التلفاز، تقريراً لا بأس به لمحطة CNN الأمريكية، عن ثوار حلب، لم يكن لدي شك بأصل المراسلة العربي، والتي تدعى أروى ديمون.
ومرت الأيام سريعاً وحان وقت الوداع.. وداع يشبه الموت.
مسحت دموعي وهرولت خارجة من المشفى إلى موقف الحافلة التي ستقلني لمحطة القطار، ليقلني القطار إلى المطار، وأطير بالطائرة الأولى والطائرة الثانية، ثم يقلني التكسي مرة أخرى إلى البيت!..
ابتسم رجل عجوز واقف هناك، وقال لي إذ رأى الحقيبة: ها قد بدأت الإجازة..
فغالبت دموعي، وأومأت له بنعم، وقلت لنفسي: يللي بيعرف بيعرف ويللي ما بيعرف بيقول كف عدس!
كانت طائرة العودة إلى بيروت مكتظة حتى آخر مقعد (حيث جلستُ) باللبنانيين الذين ارتفعت أصواتهم، ومنهم امرأة شابة جلست إلى يميني ولم تكف عن الثرثرة إلا قليلاً.. لأنها غفت!
قالت لي، ولم أسألها أصلاً، أنها مسافرة منذ الصباح، وقد طارت إلى فرانكفورت فرحّلتها السلطات فوراً، وأنها تنوي فور وصولها مطار بيروت أن تستقل أول طائرة إلى السويد!
قلت لها مستغربة: حقاً؟!
- إي والله.. ضربت الشرطي الألماني لأن كلامه لم يعجبني فوضعوني في الزنزانة لحين موعد السفر!!
حطّت الطائرة في مطار بيروت أخيراً، بعد الساعة الثانية والنصف صباحاً، وقد تيّبس جسمي وتصدّع رأسي، لأجد سائق التكسي بانتظاري..
قال لي الرجل: الأفضل أن أقود ببطء كي نصل الحدود مع بزوغ الفجر لأن الجنود.. الجنود السوريون يستعيرون السيارات من أجل مهماتهم.
- أعرف أنهم يأخذون الفانات والبيك آبات.
- ولكن سيارات الأجرة صارت هي الأخرى مرغوبة لديهم.
سألت الرجل عن أزمة الخبز فقال لي أنها خفّت، ولم يكن في جعبته أخبار جديدة أخرى..
عبرنا من الحواجز السورية ثمانية، ودخلت البيت في السابعة صباحاً وأنا أحمد الله أنه ما زال يأويني ولم يتحوّل إلى أنقاض.
من الأخبار سمعت عن تهديد الإبراهيمي لنا بجحيم أرجو له أن يصطلي به هو وبشار الذي رأى الضوء الأخضر الإبراهيمي فحصد من الأرواح قرابة 400 في يوم واحد معظمهم في دير بعلبة بحمص!
وعند الفرن كان لابد من الوقوف في طابور، ولكن حوالي 45 دقيقة بدل الثلاث ساعات!
عند الفرن وضعوا رجل أمن؛ لأن الناس رغم كل المصائب الواقعة على رؤوسها لم تتعلم بعد كيف تكون منضبطة وتحترم بعضها وتعمل وفق سلوك حضاري اسمه "الوقوف بالدور"!
كان رجل الأمن فرحاً بمنصبه الجديد، ويتصرف مع الواقفين والواقفات وكأنهم تلاميذ مدرسة ابتدائية!
-أنت بعّد هيك؟
- أنت.. روحي من هون.
قال ذلك لفتاة جاءت لتشتري خبزاً لتبيعه بعد ذلك على حافة الرصيف وتربح بالربطة عشر ليرات!
وقالت لي الواقفة ورائي: لهذا الرجل وظيفة أخرى، وهي الاستماع لما يجري هنا من حوارات!
-أنت.. أعطي الفران الخمسين ليرة!
قال رجل الأمن للمرأة الواقفة قبلي.. إذ ليس مسموحاً للشخص بشراء خبز بأكثر من خمسين ليرة؛ ولكن الناس اكتشفوا للخداع وسائل، كي يشتروا كميات أكبر.
قلّبت ورقة الخمسين ليرة بين أصابعي، وقلت لنفسي: ليفعلها ويقول لي بنفس الأسلوب ذات الجملة كي أرد عليه بما يكفل له تعكير مزاجه..
لم يقل لي الرجل شيئاً إذ رآني متحفزة؛ لكنني سمعت من ورائي رجلاً من نفس فصيلته يسأله عن السهرة.. سهرة رأس السنة!
وهمست المرأة من ورائي: الله لا يوفقهن.. وكمان بدهن يسهروا!!
الرجل، صاحب السهرة، تجاوزني ومد يده ليأخذ الخبز من الفرّان؛ فالتفتّ نحو رجل الأمن والنظام، وقلت له: يا سلام.. مو على أساس انتو عم تحافظوا على الدور؟!!
- نحنا ما النا دور!
- فعلاً.. أنت قلتها.. أنتم لا دور لكم على الإطلاق!
لا أدري كم من الشرر كان يقدح من عيني وأنا أرمقه بنظرة مسمومة وأتفوه لعبارتي تلك؛ ولكن يبدو أن ما رآه وسمعه كان كافياً ليجعل لسانه يجمد في فمه فلا ينطق بحرف واحد.
في هذه اللحظة انتهزت الفتاة الصغيرة الواقفة بيني وبين المرأة ورائي الفرصة، وتجاوزتني هي الأخرى بالدور، ومع أن الغضب استبد بي من جواب الرجل ومن تصرفها هي الأخرى؛ ولكنني لم أشأ إفراغه بها، ومع أن رجل الأمن أراد إصلاح ما أفسده جوابه وتصرف صديقه، وأمرها أن تعطيني الخبز؛ فقد تركتها تمضي لتفاهة الموقف، وأنا أتأسف على حالنا، وهذا الكم الهائل من الفوضى الذي ما زلنا نتمتع به رغم كل الدروس القاسية التي ما زلنا نتلقنها!!
حملت حصتي من الخبز مزهوة أنني أخرجت ما في صدري من ضيق ورميت رجل الأمن به، وعندما مررت بآخر امرأة واقفة في الصف قالت لي: الله يقويك.
وكما ابتدأ النظام المجرم سنة 2012 بمآسي في حمص، أنهى السنة بنفس المآسي في حمص، وما إن انتصف الليل حتى تحوّل الفضاء المحيط بي لساحة معركة اختلطت فيها الأصوات الرهيبة الصادرة من صنوف شتى من الأسلحة!
فتحت الباب المطل على الحديقة قليلاً، ورفعت بصري للسماء، فرأيت أضواء حمراء تومض لعشرات القذائف المنطلقة من الجبل، ولمحت قطط الشارع تهرول مذعورة من دوي صار أقوى مما اعتادت عليه من قبل.
وفي اليوم التالي سألت معتصم عن ليلة البارحة؛ لأنه هرب من بيته إلى بيت أمه بالمنطقة التي أسكن فيها؛ فقال لي أن ما سمعته لم يكن معركة، وإنما احتفالات جنود بشارون برأس السنة الجديدة!
استمرت الاحتفالات الهمجية حتى اليوم التالي؛ إذ بلغت ذروتها في المليحة الغربية، حيث أغرى السفّاحون سكانها بصهريج وقود طال انتظارهم له، وما أن تجمع أكبر عدد من المواطنين البسطاء الفقراء، يحملون غالوناتهم ليملؤوها ببضع لترات من وقود يدفئ أجسادهم الباردة، حتى استهدفتهم غربان الموت وفاجأتهم بألعابها النارية التي حصدت أرواحهم حرقاً...
تلاها في اليوم انفجار سيارة مفخخة في محطة وقود بمساكن برزة، وسيارة أخرى في اليوم الثالث في ركن الدين!
وما زالت طقوس الاحتفالات الهمجية مستمرة، تحت مسامع العالم وأنظاره.. وإلى أجل غير مسمى حتى يظهر لبشارون ذلك البديل الذي ينتظرونه.. وها نحن معهم ننتظر.. لا البديل؛ ولكن أن تجف شرايين التمويل نهائياً عن عميلهم المعتوه بإحكام إغلاق مطاري دمشق وحلب من قبل الثوار، والسيطرة الكاملة على مطار تفتناز وكل المطارات المتبقية، وقطع طريق الساحل، حيث بواخر الروس.
العميل المعتوه يلقي خطبة بلهاء أخرى بعد غياب في السرداب ليحكي لنا حكاية عن الإرهابيين الذين تسللوا إلى سوريا من كل حدب وصوب ليقطعوا الكهرباء ويسرقوا الطحين، ويتوعدهم بالمحاسبة في يوم القيامة، وعن استمرار حملته لمكافحة "الإرهابيين"، وعن مبادرة يطرحها مع احتفاظ قواته بحق الرد!
كنت أستمع للمعتوه، ولتصفيق المهرّجين وهتافاتهم المعروفة بعد كل جملة سخيفة ينطق بها، وأنا أفكر بتلك الفتاة..
رفيقة التي سقطت جريحة أثناء قصف مخبز في حلفايا، وقالت وهي مستلقية في المشفى الميداني ومربوطة بالسيروم: يا بشار.. الله شايفك وأنت مفكر ما في الله!
يا رفيقة.. كم أفرحت قلبي إذ ابتسمت ابتسامة أمل تؤكد من جديد أن بشارون ذاهب، وبرفقته الإبراهيمي، مع كل من خذلنا وخاننا وقتلنا، إلى الجحيم الذي أرادوه لنا!

 

 

أرفلون نت

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع