خالد عبد الله الخميس
تصدير المادة
المشاهدات : 9928
شـــــارك المادة
يحكى أن شاباً اسمه بشار كان يحكم سوريا، وكان الناس وقتها يعيشون في أمن وأمان وسلام واطمئنان، ولكنهم مع أمنهم وأمانهم يشعرون باختناق غريب لم يعرفوا له أصلاً ولم يعثروا له فصلاً، فظاهر مشاعرهم شيء وباطنها شيء مغاير، جمال حياتهم يكدرها شعور خفي خانق. راجع هؤلاء الناس عيادة نفسية علّهم يجدون حلاً لمشكلتهم، فلم يعثروا على سبب، قالوا ما لنا لا نرجع لسيدنا وقائدنا الفذ الخلوق بشار، فهو من سيخلصنا مما نحن فيه،
قال لهم بشار: أيها الشعب السوري العظيم، إن ما تشعرون بهم ما هو إلا بضع وساوس شيطانية لا أساس لها من الحقيقة فلا تستلموا لحبائل الشيطان وألاعيبه. ظل الناس على تلك الحال فترات طويلة، يعيشون حياة الكدر تارة، وحياة الحيرة تارة أخرى. بعد عشر سنين من البحث والتقصي، ادعى شاب بسيط اسمه ثائر الشامي يلبس قميصاً أزرق، أنه توصل لمعرفة سبب هذا الاختناق، وكيف يمكن معالجه. قال الشاب: إخواني الكرام، مشكلة هذا الاختناق واضحة للعيان وعلاجه يتمثل في أبسط الكلام، فما عليكم إلا أن تهتفوا في شوارع المدينة مرددين بأعلى أصواتكم كلمة واحدة: حرية، حرية، ثم تأملوا كيف ستنفرج أساريركم ويذوب هذا الاختناق. سخر الناس من صغر سن ثائر قبل أن يسخروا من سذاجة فكرته، فهل يُعقل أن تزيل كلمة واحدة جبل الاختناق الجاثم على قلوبنا فترات طويلة، فهذا الجبل عجز عن إزالته أطباؤنا وكبار مثقفينا وساستنا الأوفياء بمن فيهم قائدنا المحنك بشار، فكيف يأتي صبي مجهول يقارع هؤلاء الأفذاذ والمفكرين؟.إنه أمر يدعو للسخرية والضحك. حاول هذا الشاب البسيط أن يختبر نفسه بنفسه فعالية هذا العلاج، فخرج ومعه ثلة من أصحابه يجوبون شوارع المدينة صارخين: حرية، حرية، حرية. وبينما كان هؤلاء الشبان يرددون كلمات الحرية كانت الناس ترقبهم بنظرات الاستغراب ونظرات التشكيك. لم يختلف الأمر، في الغد مارس هؤلاء الشباب مع شبان آخرون نفس المشهد ونفس الكلمات فلقد ذاقوا في تمرينهم الأول أثراً جميلاً، رددوا جميعاً شعارات الحرية، قائلين: الله، سوريا، حرية وبس. انضم إلى ذلك الجمع جمع آخر يسيرون حيث يسيرون ويرددون ما يرددون، بعضهم انضم بدافع التسلية وبعضهم بدافع الفضول، شيئاً فشيئاً تزايدت الأعداد وكثر الناس واكتظت ساحة المدينة بهم حتى غاب في الزحام الشاب ثائر الذي بدأ المسيرة. الحقيقة الساحرة هي أن ترديد كلمات الحرية أوقعت في نفوس الحشود جمالاً فتاناً فتت جبل الاختناق الصخري الذي كان جاثماً على كاهلهم أمداً طويلاً. بعد اسبوع واسبوعين، خرج ناس كُثر أكثر ممن كانوا بالأمس لا يجوبون شوارع المدينة فحسب بل يجوبون شوارع الشام، لا يقودهم قائد ولا يشرف على تنظيمهم مشرف، كلهم جاؤا للبحث عن علاج داء الاختناق بدواء الحرية، وبينما هم يسيرون في تظاهراتهم ونداءاتهم، استوقفهم جنود بشار. قالوا لهم: ماذا تعملون، أيها الكرام؟ قالوا: يا جنودنا البواسل، أبلغوا قائدنا بشار السلام، وأخبروه أننا ولله الحمد وجدنا حلاً لمشكلة مرض الاختناق، وأننا بالجلسات اليومية ونداآتنا بالحرية نتحسن، ويتحسن مذاق الحياة يوماً بعد يوم. قال لهم الجنود: ألم تعلموا أن هذا العلاج ممنوع. قالوا: وما العيب في هذا العلاج؟ قالوا: هذه أوامر قائدنا العظيم. وهو أعلم بمصلحتنا ومصلحتكم، فما علينا وعليكم إلا السمع والإذعان. قالوا: أبلغوا قائدنا إننا ماضون فيما نحن عليه، وأننا وقعنا على كنز جميل ولن نفرط فيه مهما كلف الأمر. رد عليهم الجنود قائلين: لا بأس، إن كنتم عازمين على ما أنتم عليه، فعليكم أن تذهبوا للنادي الكبير وتسجلوا أسماءكم وتطلبوا إذن بالسماح لهتافاتكم. قالوا: هذا أمر يستحيل، لأن هذه النداءات لا تحدث أثرها ما لم تأتي بتلقائيتها وتكون من قلب لا يخاف ولا يهاب، وطلب الإذن يلغي مفعول أثرها السحري، ولقد تعلمنا من نداءاتنا أن الحرية معناها أن تعبر عما في نفسك دون أخذ إذن من أحد. سارت التجمعات وعلت أصوات الهتافات، وتزايدت الأعداد يوماً بعد يوم، جاء جنود بشار لمكان التجمعات ولكنهم هذه المرة لم يأتوا ليحاوروا ولكن ليضربوا ويقمعوا، هذا الضرب وهذا الاعتداء غيّر رأي المتجمهرين في واليهم بشار الذي كانوا يرون فيه شخصية القائد الخلوق، لقد تأكد لهم من اللحظة تلك, أنهم مخدوعون في قائدهم, فلم يعد في نظرهم محباً لهم ولم يعودوا محبين له. ما دام أنه يمنعهم من كلمة النطق بالحرية، تلك الكلمة التي تمثل البلسم الشافي لمرض الاختناق البغيض. غيّر الناس وجهة الحب من عشق بشار إلى عشق الحرية، وكان هذا واضحاً في أحد هتافاتهم: حرية للأبد غصباً عنك يا أسد، ما بنحبك ما بنحبك، إذهب عنا أنت وحزبك، عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد. هذه الهتافات زادت من غضب بشار وجنوده، فتحولت بوصلة الضرب إلى بوصلة القتل وبوصلة السجن إلى بوصلة التعذيب. لم يذعن الثوار ولم يستسلموا أو يلينوا، بل تطور الأمر إلى أن تصاعدت مطالبهم وتصاعدت هتافاتهم ليخرجوا بأجمل سيمفونية الحريات، إنها سيمفونية: الموت ولا المذلة، الموت ولا المذلة. استمرت التظاهرات، واستمر نشيد الحريات مدن الشام وأريافها، واستمر جنود بشار على أسلوب القمع والقتل، واستمر القتل وتزايدت أعداده يوماً بعد يوم، فمرة تكون الغلة عشرون قتيل، ومرة يكونون ثلاثون، ومرة خمسون، أو ثمانون أو مائة وعشرون. ما لاحظه بشار وأخافه كثيراً هو أنه بازدياد عدد القتلى يزداد عدد المتظاهرين، إنها معادلة غريبة. أقلق هذا الأمر بشار وفكر أن يعيد حساباته ويحل مشكلته بأسلوب مختلف، ففكر في التنازل للعرش لنائب له يدعى فاروق، وبينما هو يتدارس الأمر دخل عليه أهله وذويه يحذرونه من خطورة هذه العملية وحذروه من اتباع أي أسلوب سوى أسلوب القوة الذي سار عليه والده المقبور حينما كان يتعامل مع المحتجين من قبل، وذكروه أن أباه الأسد لم تذعن له الشام إلا بعدما أحرق مدينة حماة بأكملها. عاد بشار يمشى خلف خطى والده، القمع والقتل وهتك الأعراض وقتل الأطفال بكل وحشية ممكنة علّ ذلك أن يخيف الناس ويقتل شجاعتهم، لكن أمراً غريباً بدأ يلوح في الأفق، وهي أن آلة القتل لا تقتل المحتجين بل تقتل مخاوفهم، وأن آلة القمع لا تقمع المحتجين بل تقمع مشاعر خوفهم. وشيء آخر أكثر من هذا غرابة، أن جنوده لم يعودوا على قلب واحد، فلقد فرّ الكثير منهم وانضموا مع مسيرات أهليهم. بدأ اليأس يأخذ من بشار مأخذه، وبدأ الخوف يتملك قلبه وفكره. جالته حالة فزع شديد، فكّر أثناءها في أن يهرب إلى حيث لا يعلم أحد، جهز نفسه وحزم حقيبته، وبينما هو يهم بالخروج من قصره، قابله على باب القصر أهله وذويه، منعوه من الهروب وحذروه منه وقالوا له: إن هروبك يعني موتنا جميعاً. قال لهم: لا بأس نهرب سوياً. قالوا له: الحلول كثيرة، والأفكار عديدة. قال لهم: هاتوا لي حلاً فاعلاً فلم يعد قتلهم يفيد ولا قمعهم يخيف. قالوا: عذراً يا قائدنا العظيم، لم يبقى لنا سوى الحلول الشيطانية. قال: وما المشكلة في الحلول الشيطانية؟، فقتل الأطفال وهتك الأعراض هي أيضاً حلول شيطانية لكنها لم تجدي نفعاً. قالوا: الحل يكمن في أن تدخل كل أطياف طائفتنا العلوية معنا في المعركة. قال: وما الجديد؟، هم معنا. قالوا: ليس هذا ما نقصده. قال: وماذا إذن؟. قالوا: نورطهم معنا بأساليب شيطانية. قال: لم أفهم، وضحوا لي أكثر؟ قالوا: نقتل بعضهم ونفجر حاراتهم، ونلصق التهمة بالطائفة الأخرى، كي تقع حرب بين الطائفتين، عندها نأتي نحن بقواتنا الباسلة، بالطائرات والأسلحة الكيماوية، نبيد من نشاء ونبقي على من نشاء. سمع بشار بالفكرة وأدارها في ذهنه ورحب بها كثيراً حتى أمر جنوده في الحال أن يعملوا بموجبها. نجحت الوقيعة وتقاتلت الطائفتان مع بعضهم، لكن الأمر لم يدم طويلاً، إذ تنبهت الطائفتان للمكيدة، ولأجل أن تعيد الطائفتان لحمتهم، جالوا معاً في شوارع المدينة، العلوي يمسك بيد السني والمسيحي والدرزي، كلهم يرددون شعاراً واحداً: واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد. عاد بشار إلى ذويه يشكوا لهم فشل خديعته وفشل سياسة "فرق تسد". قالوا له: لا تتعجل، استمر أيها القائد على هذه السياسية فلا بد أن تثمر يوماً ما، ولا تنسى أن هنالك من يدعمنا من أصدقائنا الفرس والروس والصدريون وحزبك في لبنان، فمن هؤلاء من هو مختص في العون السياسي ومنهم مختص في الفبركات وخلق الشجارات ومنهم مستعدون لأن يمدونا بكل أنواع أسلحة القمع والإبادة. ثم قالوا له: ونحن مع مدد أصدقائنا نستمر في خلق الشجارات بين الطوائف، ولا بد يوماً أن تشتعل ناراً لا ينطفئ فتيلها. قال لهم: تقصدون نشعل الحرب الأهلية، وأنتم تعلمون أن الحرب الأهلية ليس فيها غالب ولا مغلوب. قالوا: وما المشكلة في ذلك، نحن نريدها حرباً أهلية. قال: الحرب الأهلية تعني إشعال نار مستدامة بين حارات الشام كلها لا يمكننا السيطرة عليها. قالوا: نعم، وهذا ما نريده، إننا لا نريد أحدا سواك أيها الأسد، نعم، الأسد أو لا أحد، الأسد أو تحرق البلد. قال: ثم ماذا بعد. قالوا: عندها لا يكون هنالك حل سياسي للطائفتين سوى حل التقسيم, أن تُقسم دولة سوريا إلى قسمين، قسم نسميه سوريا الأسد، والقسم الآخر نسميه سوريا العرب، أنت من يحكم دولة سوريا الأسد، ولك أن تجعل حدوداً لها مع البحر ومع صديقتنا اسرائيل وأبناء عمومتنا في لبنان، ويكون البحر لنا والمال لنا والسلاح كله لنا، وندع القسم الآخر في سوريا لهؤلاء الرعاع حيث الفقر والمرض والفوضى. قال لهم : هذا شيء جميل ومخطط حكيم، ولكن لا أظن أن يتركنا العالم أو العرب وشأننا. قالوا له: لا تأبه، العالم كله يتفرج على بطولاتك، والعرب صوت لا يهش ولا ينش. ها نحن نحدث مقتلة كبيرة في أطفال الحولة وكل ما في الأمر شجب هنا أو استنكار هنالك. انشرحت أسارير بشار وتخيل مملكته الجديدة وتخيل انتصاراته، ثم ما لبث قليلاً حتى سمع وهو في قصره صوت طفل يهتف من بعيد: الموت ولا المذلة، تخيل أن الصوت يردده طفل من أطفال الحولة الذين قتلهم بسكين عصابته، تخيل منظر قتلهم. تحولت حال مشاعر زهوه وانبساطه إلى مشاعر ضيق وكدر، عادت إليه كوابيس أطفال الحولة والقبير ومجازره في جميع أقطار سوريا، عاوده شعور خوف هلع شديد، ارتعشت أطرافه، انتفض جسمه، ارتعد وارتعد حتى بدى وكأنه مصروع. حاول أهله أن يهدئوا من روعه، إلا أن عبارات التهدئة ما عادت تجدي وأدوية التنويم ما عادت تعمل، وبينما هو يعاني ويعاني، تضاعفت عليه نوبة الهلع، حتى دفعته لأن يأخذ حقيبته يريد الهرب إلى حيث لا يدري. قال له أهله: إلى أين؟. قال: سأهرب إلى حيث ما يكون. قالوا له: لن ندعك. قال: لم أعد أكترث ولم أعد أطيق. نبهه أهله وحذروه مراراً وتكراراً، لكنه لم يستجب لهم. يبدوا أنه هذه المرة مُصر على الهرب، أدار ظهره لهم يريد الخروج، وبينما هو كذلك، أطلق أحد ذويه النار عليه عند باب القصر فأرداه قتيلاً، نازع بشار الموت ثم نازعه، حملته أمه التي كانت ترصد الموقف على حجرها. قال لها كلمة وداع: الآن ريحتموني وأرحتوني. نعم لقد كان أطفال الحولة والقبير هم السيف الذي قصم رقبة بشار.
خالد عبدالله الخميس
سامر محمد البارودي
محمد مغربي
ربيع عرابي
حسان الجاجة
قصة ادبية طفولية جميلة ربما تدرس في مناهج المارس السورية قريباً
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة