..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

رأيت وجه أمي فعرفت أنني في الجنة

سلوى الوفائي

٢ يوليو ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7623

رأيت وجه أمي فعرفت أنني في الجنة
36.jpg

شـــــارك المادة

شباب بكامل جمالهم، وقوتهم ونضارتهم، أطفال بوجوه ملائكية ترفرف بجانحين من نور لم أر مثلهم في حياتي، صبايا كالحور العين اللواتي قرأت عنهن في الكتب المقدسة، وكم كان زوجي يحلم بهن ضاحكاً حين كان يقول لي ممازحاً "ابتلاني الله بعاهة مثلك في الدنيا، كي يكافئني بسبعين من الحسان في الجنة"، يا الله ما كلّ هذا الجمال، ما كلّ هذه النضارة؟

 

يشع النّور في كلّ الأنحاء، وتهبّ نسائم رحمة ينشرح لها صدري، سعيدة أنا، مطمئنة، راضية، زال عني ألم كنت أشعر به وكأنّه كابوس مزعج، هذا وجه ابن عمي أعرفه، هذا وجه خالي، هذه صديقتي دلال، وهذا أحمد الأشلق، قرأت عنه الكثير، سمعت أنه استشهد، قالوا: إنّه كان رجلاً بألف رجل، بطلٌ قلّ أن يجود الزمان بمثله، نصر الحقّ، ودافع عن المظلومين، و شارك بمداوة الجرحى وحملهم على الأكتاف، ضحى بكلّ ما يملك فداءً لأهله وبلده، كم سار تحت القصف وتحت المدافع، ليصور مقطع فيدو يوّثق جرائم المجرمين، من شارع إلى شارع، ومن حيّ إلى حيّ، يعبر لا خوف يلامس قلبه، ولا مدفع يصدّه عن مواصلة الدرب، كان للكثيرين الأخ والصديق والمعين والحاضن، حين ارتقى شهيداً بكته كل الجميلات وكلّ الأصدقاء، و بكته أم الحناين، حمص، لم يكن بكاء بل نزفاً، رأيت بعيني أنهار الدماء تسيل تشكو مرارة الفقد ... حمص اتشحت بالسواد يوم رحيله، ووجمت وأطرقت جزعاً، كم كان ظالماً ذلك الذي أبلغ عن وجوده في ذلك البيت الذي اتخذه مقراً لعمله في رفع الصور والفيديوهات على اليوتيوب والفيسبوك والقنوات الإعلامية الفضائية، كم سهر، وكم سار على الدرب حتى وصل، وغادر وراءه كلّ العواينية لتمعن في الفتك برفاقه، وتصبّ كلّ قذارة الإنسان وكلّ بذور الشرّ داخله على كلّ جميل وكل حسن، وكلّ خير، غرقت طويلاً في تأمله واستغرقت بعالم الذكرى التي لم أعد أدرك هل كانت حقيقة أم حلماً، و لم يوقظني من تأملاتي سوى وجه أمي ... أمي ... صرخت ارتجف قلبي، فاضت عيوني، هرعت إليها، أمي خذيني إليك فإنني ضائعة، احضنيني يا أمي فأنا تائهة، حائرة، أين أنا؟ أين أنت؟ أذكر أنك سافرت على غمامة راحلة وأخذت قلبي معك، وكنت أراقب السماء كلّ ليلة أحلم بعودتك ولقائك، قالوا لي: إنّ الله اختارك لتسكني فسيح جناته، فهل هذه هي الجنة يا أمي؟ هرعت إليّ بكلّ شوق الكون، ضمتني، قبّلتني، وبكت، وبكيت، وغرقنا في صمت الحنين، تحدثت دقات قلوبنا، تحدثت العيون، لكن اللسان عاجزٌ ، عاجزٌ، آآآآه كم اشتقت إليك يا حبيبتي! كم احتجت إليك، نعم كنت أصرخ من الألم، أتوسل، أستجير، أتوسل، و أناديك " دخيلك يا أمي" ، أذكر حين كنت أمرض وأناديك كنت تقولي لي: "لا تنادي يا أمي ... ونادي يا الله"، لكني في تلك اللحظة ... كنت قريبة مني أكثر، تذكرتك، شممت رائحتك، كان وجهك يلوح لي، هو الوحيد الذي منحني الأمان وأنا على طاولة التشريح، تتداخل سكاكينهم بين ضلوعي، ويحفر رأسي مسامير يدّقونها فيه، لم أعرف لماذا؟ لم أعرف ما ذنبي، لم أعرف أنّ الإنسان يمكن أن يُعذّب بهذه الوحشية، لم أكن أتصور وحوشاً بأشكال آدمية تتكاثر عليّ، تجرني على الأرض الموجوعة، أقاومهم بكلّ شراسة الأنثى، أنشب أظفاري وأغرسها فيهم، فيغرسون مساميرهم في جسدي المنهك، أعضّ أيديهم القذرة بكلّ قوة الكراهية داخلي، فيضربوني بأسواطهم "يا ابنة العاهرة"، صبّوا فوقي الماء المغلي، سلخوا وجهي، انتفضت ألماً، تقيأت، وفجأة استسلم جسدي، لم يعد يشعر، لم يعد يقوى، و تكالبت عليّ الوحوش يعلمّوني معنى الحرية، هكذا سمعتهم يقولون، وغابت روحي عن جسدي، لم أعد أر سوى وجهك، أماه، كنت هناك، أقسم أنّي رأيتك، ابتسمت لي، مددت لي يدك الحانية، أمسكتها بصعوبة، كما يمسك الغريق بيد الغطاس الماهر ينشله من بحر متلاطم الأمواج، ظلمات يغشاها ظلمات، وحين لمست يدك، حينها فقط، ابتسمت لي أطفال الحولة وحلّقت حولي كمن يحتفل بي، يغردون، يحلقون، يرفرفون، لم أعد أر آثار الدماء على وجوههم، لم تعد رؤوسهم مفصولة عن أجسادهم، لم تعد عيونهم محروقة، وشفاههم مطحونة، كانوا ملائكة نورانية، مطمئنة، سعيدة، فرحة، أعطوني بطاقة الدخول وأوصلوني إلى باب الآمان، كنت أحلم ... أحلم .... كم كان الحلم جميلاً .... لم أصحو منه إلّا حين رأيت وجهك، لا أدري أيّ سرّ في عيونك يا أمي، تجعلني أنزف كل آلامي في حضنك، وأبكي ما شاء لي البكاء، على هذا الصدر، أخطّ جراحاتي، وأنساها، فيصبح حضنك مستودع الذكريات الهاربة من ذاتها، وبضغة زر واحدة من يدك الحانية ترسلين كل ذاكرة الألم إلى سلة المحذوفات الأبدية، فلا يبقى في القلب الصغير سوى حبّك، ولا يلتمع في العين سوى الآمان بوجودك، ولا تسعد الشفاه إلا حين تنطق اسمك: " اشتقت إليك يا أمي ... لا تتركيني بعد اليوم ... فليس لي وجود بعيداً عن حضنك ...

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع