..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


مرصد الثورة

من صبا بردى

رقية القضاة

١٧ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3732

من صبا بردى
16.jpeg

شـــــارك المادة

سلام من صبا بردى أرقّ  *** ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي *** جلال الرزء عن وصف يدقّ

 

هي الصبا بنسائمها التي ألهمت الشعراء على مر الزمان، أن يبدعوا أرقّ قصائدهم وأبدعها، وأن يحيوا القلوب برقّة مشاعرهم ونداوتها، وهي الصّبا بحنينها، ومرورها العابر على الطلول، محمّلة بندى الدّموع ووجع التذكّر، ومرارة الفقد بكل ألوانه ومواجعه، ولعل أحنّ ما في جناحيها هو عطر الوطن، وشذى المرابع التي فارقها أهلها وساكنوها، ومن عمروها، فراقاً قسريّاً لا يملكون له ردّاً، ولا يملكون إلى العودة سبيلاً، فهم بين نار الحنين، ومرارة الواقع، يرنون بقلوب آملة إلى يوم العودة، لتلك الفضاءات التي حملت نسائمها نثراً من أرواحهم غدوّا ورواحاً.
وتحوّم في نفوسنا وأرواحنا جميعاً هذه الأيام، تلك القصيدة التي خطّها (أمير الشعراء أحمد شوقي)، بروحه العاشقة لريحان دمشق وياسمينها الشذيّ، وطهر نهرها العذب (بردى) الذي يروي أروقتها ومغانيها وزهورها وحدائقها، ولعلّ ندى خمائلها ما هو إلا فيض من ندى بردى السخيّ الشجيّ، الذي ينساب في شرايينها نهراً من حياة، ولكنّها حياة يطمع فيها الاستعمار،، ويشرذمها، ويوغل في تجفيف منابع حسنها، ومصادر بقائها فيحوّلها إلى أرض ذابلة الخمائل، عطشى الياسمين، مكلومة الفؤاد، مغتالة الفرح، جدباء من السعادة، ويحيل نهرها الطروب، شبوباً فاقدة تبكي أحبّتها، ويغدو ماؤه حبراً يروي للتاريخ مأساة دمشق، وهي تقدّم أبناءها شهداء للحرية الحمراء، وتطعم المجد لحومهم، وتسطّره بدمائهم، ليغدو قصائد وأغنيات وملاحم، وشخوصاً خالدين، ومنائر مجد زاهرات تدب الحياة في أوصالها، وهي تمرّ على صفحات التاريخ بأجنحة الفخار وأوسمة الشهادة.
ترى أي قصيدة كنت ستتغنى بها يا أمير الشعراء؟ لو أنّك كنت حيّاً بيننا اليوم؟ وأنت ترى دمشق ريحانة الشرق، ووريد مجدها الدافق، وهي تذبح على مذبح الطائفية، وتقدّم قرباناً لكرسي زائل، ويباد شبابها وتذلّ نساؤها ووييتّم أطفالها بيد قائدهم الهمام، وزمرته التي حملت بزيفها التاريخي المعهود لواء العروبة، والعروبة منهم براء، وادّعوا حماية المقدّسات والمقدّسات، تدعو عليهم ليل نهار، وتبرأ إلى الله من فعالهم التي أنتن منها البرّ والبحر.
هل كنت ستقول لأولئك الذين اتخذوها حقلاً يجنون منه رخاءهم، ويجيعون شعوبهم، وينهبون قوت رعيتهم على مدار نصف قرن من الزمان:

الملك أن تخرج الأموال ناشطة *** لمطلب فيه إصلاح وعمران

هل كنت ستقول للأسد المستأسد على شعبه الأعزل، وهو يدّعي حب الأوطان وعدالة الملك، في حين يتشرذم أهل الوطن ومحبّوه في كل أصقاع الدنيا فراراً من وطنيته الخرقاء:

الملك أن تتلاقوا في هوى وطن *** تفرّقت فيه أجناس واديان

ماذا كنت ستتغنى به يا أمير الشعراء؟ وأنت الذي غفوت على صوت دمشق تزغرد للحرية الحمراء، وقد طهّرت بقاعها من رجس فرنسا؟ وعجزت اليراعة والقوافي والبحور الشعرية كلّها، عن أن تأتي بما يستحق بهاؤها، وعطر شهداؤها ومسك دماؤها النبيلة؟ وأنت تعتذر لها عن قصائد لم تقلها فيها بعد؟، ماذا لو صحوت اليوم ووجدت دمشق أسيرة في قيد من يدّعي أنّه ولدها وهي مقتولة بيد وليدها، ومطعونة بنصل حربة فارسها كما يدّعي؟ أكنت ستكفكف دمعك الحاني الفخور بفعال قائدها!! أم كنت ستغضي ألماً؟؟ وقصائدك الرزينة تبكي غرابة الحال وخزي المآل، ؟ حين ترى الأكفّ المضرّجة الحمراء، التي دقّت باب الحرية الحمراء بالأمس حتى فتحته على مصراعيه، وهي تقطع اليوم بسيف الغدر؟ على يد من لم يدقّ أبداً باب الحرية؟ ولم يلجه مع الفاتحين؟ بل تسلّل إليه عبر سرداب الأدعياء، المتمسّحين بثوب العروبة، وهو لا يكفي لستر الحقائق المبيّتة للنّوايا الخفيّة للطائفية والباطنية.
أيها الشاعر الأمير: عدنا إلى قصيدتك العصماء نستلهم معانيها، وندرك أبعاد قوافيها، وكنت تقصد بها هزيمة الاستعمار الأجنبي، ونحن اليوم نقصد بها ظلم ذوي القربى، وأبناء الوطن، وحكّام دمشق الذين يدّعون صونها وحمايتها، ومصلحة أبنائها، ألا فلتعلم أيها الشاعر أن الرزء أجلّ وأعظم ممّا كانّ، وأنّ الجرح أعمق من سابقه، وأنّ الجاني قريب، متمكّن، نما في أحشاء الوطن، وولد على ترابه، وجلس على عرشه، وتمكّن من رقاب أهله، فانقلب عليهم واستباح حرماتهم، وسكب دماءهم نهراً، يؤاخي نهرك الأثير بردى، لأنّهم طلبوا حقّهم في الحياة الكريمة، عزّلا ًخرجوا يطلبون الكرامة، فاستقبلتهم نيران البنادق، واتهموا بالخيانة، وصوّرهم حاكمهم عصابة خارجة مارقة على الحقّ، وكأنك تقول فيه:

إذا ما جاءه طلاّب حق  *** يقول عصابة خرجوا وشقّوا

فليتك أيها الشاعر الأمير ترى نهر بردى، وقد اصطبغ بدماء الدمشقيين والحمصيين وأطهار الشام وحرائرها وأطفالها، وإنني أعلم أنه سيرتج عليك حتى لا تدري ما تقول، أشعراً أم نثراً أم دماً، تنثره من أوردتك الشاعرة البليغة، لتحيي به حدائق الشام، وكرامة الشام ونهر الشام.
ألا سلام عليك يا بردى، من شاعر طواه الموت، وهو يحلم بمجدك، ويتغنى بطهر مائكِ السلسبيل، ويشدو بلحن الرّياحين في ضفتيك، وينشد للياسمين الطهور، تزيّن تعرجاتك أغصانه المشرقات، ألا يا شام سلام عليكِ من نبض شاعرك المستهام، وعذراً إليك، فقد غيّبته المنون، وما عاد يقدر حتى على الاعتذار إليكِ، فهل تقبلين اعتذاري، وكل الذين لكِ يكتبون، وكل الذين بك يلهجون، وكل الذين لأجل كرامتك يردون المنون، وكل الدماء التي تستباح، ولا تنثني عن هواك، وتقتحم الهول من أجل أن تبقي يا دمشق، ريحانة الشرق،، وكي تنساب يا بردى طهوراً، ونسائمك الرقيقة تحمل الندى والشذى والود والشجن، وتنتظر الغد الآتي، وكل الذين افتدوا ماءك السلسبيل، تسطر أسماؤهم في سجلّ الخلود، فيا أيها الغاشمون، ويا أيها الأدعياء، ويا أيها الوالغون بدماء الشرفاء، سيظل باب الحرية يدق حتى يفتح -بإذن الله-، وموعدنا الصبح؛ {أليس الصبح بقريب}.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع