..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

مفاهيم لترشيد الجهاد (2): {والذينَ جاهدُوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا}

عماد الدين خيتي

١٩ ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4410

مفاهيم لترشيد الجهاد (2): {والذينَ جاهدُوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا}

شـــــارك المادة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالجهاد في سبيل الله –تعالى- من أعظم القربات، وفضائله كثيرة، والأدلة عليه مشهورة معلومة، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ في الجنَّةِ مائَةَ درجةٍ أعدَّهَا اللَّه للمُجَاهِدينَ في سبيلِ اللَّه، مَا بيْن الدَّرجَتَينِ كَمَا بيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) رواه البخاري.
لكن ... هل يعني هذا الفضل والمكانة الرفيعة الإصابة في الأقوال والأفعال لمجرد الجهاد؟ وهل يعني ذلك أن المجاهد على حق دائمًا في الأمور المختلف فيها بسبب جهاده؛ وأن الله قد تكفل بهدايته؟
زعم بعض الغلاة –ومنهم تنظيم (الدولة)- أنَّ الله تعالى قد تكفل بهداية من جاهد في سبيله، فلا يكونون على باطلٍ، وإذا اختلفوا مع غيرهم في المسائل والأحكام فلا يُؤخذ بقول غيرهم؛ ويجب الأخذ بقولهم؛ لأنَّ الله قد تكفَّل بهدايتهم إلى الحق، فما اختاروه ورأوه فهو من هداية الله وتوفيقه.
واستدلوا على ذلك بمثل قوله تعالى: {والذينَ جاهدُوا فينا لنهدينَّهم سُبلَنا} [العنكبوت: 96].
وليس لهذا الزعم مستند شرعي، وبيان ذلك كما يلي:

(1)

المقصود بالجهاد في قوله تعالى: {والذينَ جاهدُوا فينا لنهدينَّهم سُبلَنا} [العنكبوت: 96]، الجهاد بمعناه العام من بذل الجهد لنصرة الدّين بأيّ وجه كان، وعموم مجاهدة الكفار ومدافعتهم بكل أنواع المدافعة، ومنها الجهاد بالدعوة، ولا يختص بالقتال؛ إذ لم يكن القتال مشروعًا حين نزلت هذه الآية.
فهي آخر آية من سورة العنكبوت، وسورة العنكبوت مكية على الصحيح من أقوال المفسرين.
قالَ ابنُ جزي في "تفسيره": "يَعني: جهادَ النفس مِن الصّبر على إذايةِ الكفار، واحتمالِ الخروج عن الأوطانِ وغيرِ ذلكَ، وقيل: يَعني القتالَ. وذلكَ ضعيفٌ؛ لأنَّ القتالَ لم يكُنْ مأموراً به حينَ نزولِ الآية" (2/129).
وقال القرطبي في "تفسيره": "أي: جاهدوا الكفار فينا، أي في طلب مرضاتنا.
وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال.
وقال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته...
وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر..." (13/364).
وقال ابن تيميَّة في "جامع الرّسائل والمسائل": "{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال معاذ بن جبل: والبحثُ في العِلم جهاد".
فكل من طلب نيل رضوان الله تعالى، وبذل وسعه وجهده لنصرة الدّين بأيّ وجه كان فهو داخل في هذه الآية، وأولهم العلماء، والدعاة، ولا يختص ذلك بالمقاتلين، فبطل الاستدلال من هذا الوجه.

(2)

الهداية التي وعد الله بها المجاهدين في سبيله في هذه الآية هي هداية الأجر والثواب، وهداية الطريق الموصل إلى الجنة، وليس معناها  أنَّ ما اختاره المقاتلون من رأي وحكم هو الصواب، أو أن الله تكفَّل أن يهديهم لذلك لكونهم مقاتلين.
قال الطبري في "تفسيره": "{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} يقول: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة، وذلك إصابة دين الله الذي هو الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم" (20/63).
وقال القرطبي في "تفسيره": "قال عبدُ الله بن عباس: والذينَ جاهدُوا فِي طاعتِنا لنهدينَّهُم سُبلَ ثوابِنا، وهَذا يتناولُ بعمومِ الطاعةِ جميعَ الأقوالِ، ونحوه قولُ عبدِ الله بن الزبير"(13/365).
وقال ابن القيّم في "الفوائد": "{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} علَّق سبحانه الهدايةَ بالجهاد، فأكْملُ الناس هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفرضُ الجهاد جهادُ النَّفْس، وجهادُ الهوى، وجهادُ الشَّيطان، وجهادُ الدُّنيا؛ فمَن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سُبُل رِضاه الموصلة إلى جنَّته، ومَن ترَك الجهاد، فاتَه من الهُدى بحسَب ما عطَّل من الجهاد، قال الجُنيد: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتوبة، لنهدينهم سُبُلَ الإخلاص" (1/59).
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}  وفي قراءة: {وَالَّذِينَ قَاتلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
قال الطبري في "تفسيره": "يقول تعالى ذكره: سيوفق الله تعالى ذكره للعمل بما يرضى ويحبّ" (تفسير الطبري، 22/159).
وقال القرطبي في "تفسيره": "يكون المعنى سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي يحقق لهم الهداية.
وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان " (16/230).
وقال ابن عطية في "تفسيره": "وهذه هداية طريق الجنان، كما قال تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ} [محمد: 5] لأن هداية الإرشاد قد تقدمت وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه" (2/141).

(3)

الهداية مُعلَّقة بشروطها، وليست حقًا لازمًا لكل عاملٍ ومجتهد، فكم من مجتهدٍ أخطأ في اجتهاده أو ضلَّ فلم يكتب له القبول، ولا الهداية، بل ربما كان عليه وزر.
فمن شروطها: موافقة الحق الذي جاء به الشرع.
قال ابن كثير في "تفسيره": "قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد -من أهل عكا -في قول الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} قال: الذين يعملون بما يعلمون، يهديهم لما لا يعلمون.
قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لمن أُلهم شيئًا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه" (6/296).
وقد بيَّن الله تعالى كيفية معرفة الحق الذي جاء به الشرع بسؤال أهل العلم عما اختلف فيه، ولم يجعل ذلك إلى غيرهم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
قال ابن حجر في "فتح الباري": "ونقل عن ابن التين عن الداودي أنه قال في قوله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل : 44]، قال: أنزل سبحانه وتعالى كثيراً من الأمور مجملاً ففسر نبيه ما احتيج إليه في وقته، وما لم يقع في وقته وَكَلَ تفسيره إلى العلماء بقوله تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء : 83].

(4)

منهج تقديمِ اختيار المقاتلِ على فتوَى العلماء، وادِّعاء أنَّ الله يهدي المقاتل للحق بمجرِّد قتاله، هو منهجٌ أشبه بالمنهج الباطل في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]. فقد زعم بعضهم أنَّ مجرَّد تقوى الله –تعالى- توصل العابد إلى مرحلة تنفتح عليه أبواب العلم والمعرفة من الله –تعالى- إلهامًا دون طلبٍ منه ولا سعيٍ لذلك، وبها يعرف الحق من الباطل، ويستغني عن غيره.
قال ابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية): "يزعمُون أنَّ المعرفةَ بالله وبغيرهِ من الموجودات شيءٌ يُلقَى في النفسِ عندَ تجرّدِها من العوارِض الشهوانية، وإقبالها بالفكرةِ عَلى المطلُوب. ويحتجُّون لتصحيحِ هَذا بظواهرَ من الشّرع كثيرةٍ مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}، ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، ومثل قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}، إلى أشباه ذلكَ كثيرة يظن أنّها عاضدةٌ لهذا المعنى" (2/157).
وقال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": "وأما قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} فليس من هذا الباب، بل هما جملتان مستقلتان طلبية وهي: الأمر بالتقوى، وخبرية وهي قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} أي: والله يعلمكم ما تتقون، وليست جوابًا للأمر بالتقوى، ولو أريد بها الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو، فكان يقول: واتقوا الله يعلمكم، أو إن تتقوه يعلمكم، كما قال:
{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} فتدبره".
والخلاصة: أنَّ للمجاهد في سبيل الله تعالى أجراً عند الله تعالى، ووعداً بجنات النعيم، لكن مجرَّد حمله للسلاح وقيامه بقتال الأعداء لا يعني أنَّه أصبح أكثر معرفة للحق من غيره، أو أنَّ عنده مقدرة على تمييز الأحكام الشرعية؛ فالعلم الشرعي، و معرفة الحلال والحرام إنما يؤخذ ممن كان أهلاً للاجتهاد والفتيا من أهل العلم قاتل أم لم يقاتل.

 


====================================
أصل المقالة من كتاب (شُبهات تنظيم "الدولة الإسلامية" وأنصاره والرَّد عليها)، الشبهة الأولى.

 

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع