عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماة 1982م

الكاتب : خالد الخاني
التاريخ : ٢ ٢٠١١ م

المشاهدات : 3533


عشت لأروي لكم طفولتي في مجزرة حماة 1982م

لا أعرف ماذا أصابني اليوم…؟ عشت لأروي لكم طفولتي بمجزرة حماة 1982م.
هناك في الموضئ تبادل الجميع همساً الأخبار، ويا لها من أخبار… كانت مليئة بالقهر والسحل والقتل والرصاص والدمار والاغتصاب والاعتقال وأغرب ما فيها حليب الأطفال.


روَت إحداهن عن أم حسين التي نضب حليبها ولم تعد قادرة على الإرضاع وطفلها الذي لا ذنب له إلا أنه ولد في تلك المدينة في ذلك الزمان، بعد نضوب حليبها لجأت أم حسين إلى الماء والسكر لإرضاع طفلها الجائع الباكي ليل نهار، حاولت ذلك لعدة أيام حتى بدأ التعب والنِحل على الطفل الباكي، وبكاؤه لا يتوقف أبداً، لم يتوقف عن نداءاته لأمه من أجل ذلك ولا أدري كيف كانت تقاوم آلامها وخوفها من القصف والرصاص، يبدو أنها خاضت معركة بين نفسها وبين حليب حسين أو أنها كانت تعتقد باقتراب نهاية المجزرة، حتى تطعم ابنها المسكين وربما اعتقدت أنها ما زالت تسيطر على سلامته وأخيراً انتصرت أمومتها على كل شيء في لحظة يقين تام، وغادرت البيت مسرعة والرصاص والقصف يتصاعد ويهبط وهذا ما كان دائماً طيلة المجزرة التاريخية.
إن الأم لم تعد تسمع إلا صوت طفلها الباكي والذي كان ممزوجاً بأصوات المكان ولكن جميع الأصوات لم تصل إلى قلبها سوى صوته المستغيث، لم أسمع ذلك الصوت بذاته ولكن سمعت موسيقاه كثيراً هناك…..
خرجت من منزلها وهي تصرخ وتنادي أهل الحي أو على الأقل من بقي منهم حياً… وهناك تحت هذا الدمار جفّ حليب الأطفال في الصدور، ولم تجد لحسين إلا دموعها وعلمت ذلك بعد استجابة البعض الحي هناك، ومنهم من روى… تنقلت الأم بين البيوت المهدمة ومنها إلى الأحياء المجاورة وقصدت أقرب صيدلية.. وتخيلوا مشاعرنا خلال طريقنا إلى أي صيدلية، وروحنا كبشر وبشكل دائم تسبقنا إلى هناك، وعقلنا يختار ما نريد قبل وصولنا، وغالباً ما نفترض مسبقاً أننا حصلنا على ما نريد من الصيدلية، ربما مرة على الأقل… وصلنا إلى الصيدلية ولم نجد ما نطلبه ويا له من إحباط… وصلت أم حسين إلى المكان ولكنها لم تجد الصيدلية وبالنتيجة لم تجد حليب حسين، هذا إحباط بائس بل كان موتاً مريراً.
وتابعت البحث عن صيدلية أخرى وأخرى، تابعت الصراخ ولا من مجيب… حليب الأطفال والدواء… ركبت سيارات الجيش ولا ندري أين جهة الرحيل.
لم تستمع الأم إلى إعلان حميدو عندما أخبرنا أن التتر لا يترددون بفعل شيء ويسرقون حتى رائحة الأجساد الحية وينشرون رائحتهم الكريهة في كل مكان.
ناضلت الأم وأسرفت بالنضال وربما وعدت طفلها أنها ستأتيه بما يريد، هي التي وعدت الله أن تفعل ذلك عبر حياتها وقبل أن يولد حسين… وهذا حال جميع الأمهات، لكن قلبها أعادها إليه مسرعة وباكية ومحبطة منكسرة خائفة.
وأكثر من كل ذلك أنها مشتاقة لحسين الباكي، في رحلة الذهاب والعودة تضاعف ألمها برؤية الأجساد مرمية وممزقة مفجرة مقطعة… عادت بشوقها الكبير، لم يخطر ببال الأم الهروب خارج دائرة القتل، وهي التي اقتربت من أطراف المدينة! يا له من جنون… في لحظة دخولها إلى منزلها النصف مهدم تزايد انتصار الرصاص على صوت طفلها وباقترابها أكثر من حجرته كان انتصار الرصاص كبير، إلى أن أدركت صمته العنيف، أمام تزايد الرصاص لا أدري إن كان صمته يشبه صمت حميدو أيضاً… لقد أرادوها حرباً ضد الأطفال… ابتسم الطفل الباكي وترك المدينة المستباحة لنا.
قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة ولم تتوقف الأرواح على دخول تلك القراءة، فقد كانت تتزايد في كل لحظة وأخرى، لا أستطيع أن أحصر على من قرأت هناك..
لم يتركوا شيئاً من عبثهم اللإنساني، فقد أسكتوا ذلك الطفل حينها إلى النهاية، وهذا ما يعتقدونه دائماً، والله إنهم يخافون من حسين أكثر مما يخافهم..
وكنوع من الصدى اليوم وفي بداية ثورتنا المنتصرة تعالت أصوات أطفالنا في درعا، كان بيان الحليب لأطفال درعا عندها حاصرتني هذه الذاكرة المؤلمة، وبقيت لأيام أتوه وأنجو قليلاً من هذا العذاب، ولكنني أعرف هؤلاء القتلة معرفة اليقين.
أخذت هذه الذاكرة تطرق على جدران رأسي وبيان الحليب يخنقني لأوقع عليه، ودام هذا الصراع والألم ومعرفتي المسبقة بهؤلاء القتلة وهم لا يستحقون الرجاء.
واكتشفت عندها بصياغة البيان اعترافاً بهم كبشر، وأنا لم ولن أعترف بهم يوماً، ترددت وبكيت وكيف بي أوقع على بيان يخاطبهم كنظام، وأنا لا أعترف بهم أبداً وأريد إسقاطهم منذ ذلك التاريخ… موت حماة وأبي وحميدو وحسين..
كانت ذكرى حسين في حماة تخنقني من جهة، وكان يقيني ومعرفتي بالتتر يضاعف اختناقي، وانتصرت التجربة في رأسي ولم أوقع ولم أستنهض إنسانية هؤلاء القتلة الغير إنسانيين، وكيف بي أن أوقع بعد توقيعي على رحيلهم قبل ذلك، وربما وقعت وأنا لا أدري، كانت معرفتي بهؤلاء المجرمين في مكانها، ولم يستجيبوا لأي نداءات، وأقسم أن هذا النظام -بالمسمى فقط- لا يستحق المخاطبة أو إلباسه ثوب الإنسانية، ولقد أثبت ذلك بالثمانينيات وبإصراره الأكيد -وربما قبل ذلك- بأن الإنسانية لم تمسهم يوماً وثوبها أكبر من حجمهم الجرثومي… اعذروني واصفحوا عني يا أطفال درعا.
قاطعت إحدى النساء كل هذا ببكائها المتعالي، حيث كانت تسكن منطقة وسط مدينة حماة، وهناك عمارات وليس بيوت عربية، دخل الجنود باقتحامهم العنيف لجميع الشقق ودخلوا شقتها وفتشوا وكسروا ودمروا يبحثون كما يزعمون عن السلاح، لم يجدوا سلاحاً… ووقتها لن يجدوا ذلك، لأننا نعلم بعدم وجوده، لقد بثوا كذبهم وعمموه وبعدها صدقوه، وأثناء تفتيشهم لبيتها وقبل هروبها إلى شمال المدينة لنلتقي في الموضئ، سمع الجنود صراخ طفل صغير في الشقة المجاورة ركض الجنود الباسلين إليه مباشرة، وهنا اعتقدت كما يعتقد جميع البشر، أنهم استجابوا لصراخه كنوع من الإنسانية التي لم تصبهم يوماً، كسر الجنود الباب وبدؤوا يكسرون كل ما في الشقة، ولم يتوقف صراخ الطفل عن البكاء، يرتفع صوت الأم وهي تترجى وهي تصرخ وتعالى صوتها وصوتهم... بعدها سكت الجميع وبقي صوت الأم تصرخ وتصرخ، هجمت الأم عليهم… هرب الجنود منها وكسرت بطشهم وموجة من الصراخ والبكاء والأم تركض إلى أسفل المبنى، لم يفهم الجيران ماذا يحصل…!!!! وبعد نصف ساعة من السكون المخيف عادت الأم وهي تحمل ما تبقى من طفلها وعلمت الراوية أن الجنود كانوا يطلبون من الأم إسكات الطفل وحاولت ذلك لم يستجيب الطفل الباكي لتهدئة أمه، ربما علم بوجودهم المقيت، كان يصرخ في وجههم ويتحدى إجرامهم ببراءته وطهره أو قاومهم على طريقته.. ولكن الجنود الأوغاد لا يفهمون لغة الأطفال أبداً… قام أحد الجنود بانتزاع الطفل من أمه ورماه بكل إصرار من النافذة، طار الطفل وبعدها سكت، لا أدري كيف تعاملت الأم مع هذا المنطق الإجرامي الغير متوقع، ولم يخطر في بال أي شخص في عالمنا، أن يتصرف بهذه الطريقة، حاولت الراوية مساعدة الأم المفجوعة ولكن دون جدوى… لا تريد مغادرة المكان وعلمنا بعد المجزرة أنها بقيت هناك لتلحق طفلها إلى السماء، كيف استطاع ذلك المجرم أن يرمي بطفل بهذه الطريقة…؟ كيف.. ؟ كأن ترمي وردة من النافذة أو ترمي عصفوراً وأنت تعلم أنه لن يطير… لم يكن ذلك الجندي غبياً بل كان مجرماً بامتياز، يقتدي بقادته المجرمين.
وأقسم أن هذا غيض من فيض حصل في حماة 1982م.

المصادر: