حماة.. لن تلدغ مرتين!

الكاتب : أبو عبيدة الحموي
التاريخ : ٢ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 3362


حماة.. لن تلدغ مرتين!

كانت حماة.. تلك المدينةُ الحالمة.. تعيشُ آمنةً مطمئنةً على ضفافِ العاصي.. تغرّدُ فيها الطيورُ بأصواتها العذبة.. ويذهبُ رجالُها إلى أعمالهم كل صباحٍ في جدّ واجتهاد.. ويلعبُ الأطفال في حاراتها في سعادةٍ غامرة.. وتجتمعُ نساؤها في صباحيّاتهم يشربْن القهوة ويتبادلنَ أطرافَ الحديث الذي لا ينتهي.. ويهبّ النسيمُ بلطفٍ وحنانٍ يداعبُ أحلامَ الفتيان والفتيات وخيالاتهم.. وتدورُ النواعيرُ منذ آلاف السنين شاهدةً على حضارة هذهِ المدينةِ العريقة.. التي تُعد من أقدم مدن العالم.. وتدور لتسقي المزارعَ والحقول..


كانت الحياة طبيعيةً لا ينغّصها شيء.. وكان الحمويّون كعائلة واحدة.. يعرفُ بعضُهم بعضًا.. ويحرصون على القيام بشؤون بلدتهم بأنفسهم.. فهم يحبونها.. ويفدونها بأرواحهم وأموالهم.. ويضحّون بالغالي والنّفيس من أجل أن تبقى هذه المدينةُ في شبابٍ دائمٍ رغم أنها قديمةٌ قِدَم التاريخ.. ولكنهم لم يعلموا ماذا تخبئهُ الأيام لهم.. لم يعلموا أن فرحتَهم سيغتالُها المجرمون.. لم يظنّوا أنهم سيرونَ هذه المدينةَ تصبحُ أنقاضًا.. والبيوتُ ستصبحُ خاويةً على عروشها تنادي أهلها الذي هجروها وتئنّ على فراقهم.. لم يظنّوا أنهم سيسمعونَ النواعيرَ تبكي لأول مرة على فقدانِ أهلها وأحبّتها.. لم يتوقعوا أن يصل الإجرام حدًّا يجعل مدينتَهم مستباحةً للوحوش الضارية..
ربما تناول المؤرخون ما فعله التتار والمغول في بلاد المسلمين حينما احتلّوها.. وربما تحدّثوا عن حقد الصليبيّين وممارساتهم ضد المسلمين في حروبهم.. ولكن ماذا سيكتبون عن المجزرة الرهيبة التي حدثت في حماة عام 1982م.. بل هي مجازر قضت على أكثر من نصف سكان المدينة.. وتركتهم ما بين شهيد أو جريح أو معتقل أو مفقود أو مهجّر.. كيف سيصفون الحقد الذي كان يقود سرايا الدفاع بقيادة المجرم رفعت الأسد وتحت إشراف ورعاية المقبور حافظ الأسد.. حين كانوا يُطلقون وحوشهم فينهشون فيها ما شاؤوا أن ينهشوا من براءة الأطفال.. ويقهرون الرجالَ فيعذّبونهم أو فيقتلونهم.. ويستبيحوا أعراض النساء.. حتى إذا سألتَ أي بيت عن خسارته لوجدته مفجوعاً بشهيد أو معتقل أو مهجّر أو مفقود.. هذا غير البيوت التي تم القضاء على كل أهلها.. فلن تبقَ إلا جدرانهم تبكيهم..
كانت المجزرة تُرتكب في حق أهل حماة.. وفي حق المدينة نفسِها.. فقد دمّروا المساجد والكنائس.. وهدموا الأحياء والعمارات فوق رؤوس أصحابها.. لم يسلم منهم شجرٌ ولا حجر.. حتى وصلت إحصائيات القتلى خلال 27 يومًا إلى 40 ألفَ شهيد.. ارتقوا إلى بارئهم ليشكوا ظلم العبيد الذين نصّبوا أنفسهم حكّاماً على رقابهم وحياتهم.. يشكونهم إلى الله الذي يسمعُ ويرى.. ولا تخفى عليه خافية..
لقد تحولت المدينةُ إلى عروشٍ خاوية.. وانتشرت رائحةُ الدمار في كلّ مكان.. وارتفع دخانُ الحرائق ليلامسَ عنانَ السماء.. وارتحلُ الجميعُ منها يلوذون بأرواحهم وأرواح أهليهم من آلة القتل والتنكيل.. ولم يبقَ فيها سوى الجثثِ الهامدة.. وانتشرت رائحةُ الموت.. وعمّ المدينةَ هدوءٌ مخيفٌ إلا من أصواتِ الرصاصِ والرشاشات والمدافع هنا وهناك.. حتى البكاءُ لا تكادُ تسمعُه.. لأنه يكشِفُ عن مكان صاحبه ويعرّضه للإبادة.. حتى أصبحتْ في أقل من شهر مدينةَ أشباح..
ثلاثونَ عاماً مرّتْ على تلك الكارثة والفاجعة التي لم يتحرّك من أجلها العالم.. ولم ينتفض لها أحد.. فأصبحت الكارثةُ كارثتيْن.. أولاً: المذبحة الرهيبة، ثم الصمت الدولي القاتل على حدوث المجزرة.. وكأنّ أهل حماة قُتلوا مرتيْن.. مرة بيد قاتلهم.. ومرة بيد من يصفّق له.. وكأنهم لا بواكيَ لهم.. والآن وبعد انطلاق الثورة المجيدة في سوريا.. ومع استخدام آلة القتل والتنكيل نفسها.. ومع ازدياد رقعةِ الإجرام لتشملَ كل أنحاء وطننا الحبيب.. علم أهلنا أنه لا بدّ من التخلص من هذا النظام المجرم.. وأيقنوا أن ما حصلَ في حماة كان شيئًا يفوقُ الوصفَ من الفظائع التي ارتكبها أزلامُ هذا النظام الفاجر.. وعلموا أنّ أهل حماة كانوا يُقتلون وتنُتهك حرماتهم دون أن يشعرَ بهم أحد.. وكانوا يموتون بصمتٍ دون أن يسعفَهم أو ينقذَهم أحدٌ من بطش الظالمين.. وأنهم كانوا يطفئون عطش القاتل ليحموا بقية المدن الأخرى من بطشه..
واليوم.. وبعد هذه الأعوام الثلاثين.. نهض شعبُ حماةَ.. بل نهض كلّ شعب سوريا.. بهدف التخلص من هذا الظلم الواقع عليهم.. بعد أن علموا أنه لا بقاء له بينهم.. ولا حياة هانئةً لهم إلا بالقضاء على الدكتاتورية التي أفقرت البلاد والعباد.. وحوّلت البلاد بعد أن كانت مكاناً يهوي إليه الناسُ من كل مكان.. فجعلت أهلها يغتربون في البلاد والأمصار يبحثون عن رزقهم الذي لم يجدوه في بلدهم..
أما أنتم أيها المجرمون.. لقد أمهلكم الله ثلاثين عاماً.. وما زلتم في غيّكم وظلمكم وضلالكم.. وظننتم أنكم وأدتم إرادة هذا الشعب.. فخرج لكم بدل المدينة عشرات المدن.. وبدل المئة ثائر خرجَ لكم مئات الألوف من الثوار.. أقسموا على أنفسهم ألا يهدأ لهم بالٌ.. ولا يغمضَ لهم جفن قبل أن يزيلوكم من عروشكم.. فهل حسبتم أن حماة ستُلدغ مرتين؟.. لقد كنتم مخطئين.. إنها الآن ليست وحدها.. لقد هبّ كل الأحرار في سوريا في وجوهكم.. فهذا جيلٌ جديدٌ تربّى في مدارسكم.. وخدم في جيوشكم.. وتعلم من مبادئكم.. ومنهم من لم يحضر تلك المجزرة.. لكنه ورث عن أهله مقارعةَ الطغاة.. والصّدع بالحق.. وسيمضي الزمان.. وستبقى حماة.. وستبقى سورية.. منارة الحضارة والعلم.. وستذهبون أنتم بعيداً.. ستصبحون نسياً منسياً.. وسيكمل الشعب الأبيّ بناء حضارة بلاده.. بعد أن أرجعتموها عشرات السنين إلى الوراء.. وإن كان سيذكركم أحدٌ يوماً من الأيام.. فسيردف بذكركم اللعنات لتصاحبكم في الجحيم..

المصادر: