حلمُ التحرير وميزانُ القوى

الكاتب : مازن هاشم
التاريخ : ٢٨ ٢٠١٣ م

المشاهدات : 10512


حلمُ التحرير وميزانُ القوى

لم يدم الترحيب الدولي باستواء الشروط الموضوعية لبدء الفصل الختامي للثورة أكثر من شهر واحد.  
فالإنجازات الميدانية الملحوظة والتشكّل السياسي وتوافق قوى إقليمية مهمة كان من المفروض أن يستهلّ مرحلة جديدة.  
ولكن على العكس، وليس غريباً في السلوك الدولي ولم يكن غير متوقّع، تحوّل الترحيب إلى تحريك السياسات لمنع الاقتراب من فصل ختامي ترجع فيه سورية لأبنائها.  

 

 

وعاد العزف على وتر جنيف وما يشابه شروط اجتماعها.  
وإذ تبدو القوى الدولية واثقة أن ضغوطها في تجفيف السلاح وخذلان الائتلاف وإهمال اللاجئين وتيئيس الشعب من خلال رسائل الإعلام سوف يُفضي إلى الرضوخ والقبول بالأمر الواقع، فإنّ التفكّر المليّ بالواقع الثوريّ يشير إلى عكس ذلك.  
وإنّه من المتوقّع أن تقود المحاصرة الخانقة إلى وضع متفسّخ غير مستقرّ يصبح فيه الوصول إلى أي حلّ أكثر عسراً.
ولطالما توجهت الأحلام إلى حسم الأمر بضربة قاضية للنظام في دمشق، سرعان ما تلاه تفهّم لطبيعة المواجهة.  
ومعلوم أنّ الحراك ثوري في منطقة دمشق حراك مقتدر، إلا أنه يواجه قوة فائقة للنظام، ولا سيما أنّ النظام يتمتّع بقنوات تغذية خلفية متعددة يستعيد فيها ما يخسره.  
وبرغم أنّ الحسم من خلال إسقاط السلطة في دمشق بقوة السلاح يبدو مستبعداً من ناحية ميزان القوى العسكرية، إلا أنّ القراءة المفصّلة تُظهر أنّ الوصول إلى أسوار دمشق هو الذي يفتح باب احتمالات أخرى، بما فيها صيغة سياسية مقبولة للثورة ومعقولة في السياق الإقليمي. واعتلاء أسوار دمشق تحدٍ شاقٌّ معبره تأمين المركز الاستراتيجي في حمص.  
وذلك لأن انتزاع منطقة حمص يعزل مناطق مهمة يعتمد عليها النظام في تجنيد القوى البشرية وللتزوّد عبر المنفذ البحري.  
الإمساك بمنطقة حمص هو الذي يحوّل دمشق إلى (قلعة الموت) عامرة بالحشاشين وعاجزة عن الامتداد خارج أسوارها، وسرعان ما تحيط بها قوى تخنقها وتجبرها على الرضوخ والمساومة.  
ولكن السيطرة الاستراتيجية للثورة على وسط البلاد أمر عسير وإن كان ممكناً، ويأخذ وقتاً طويلاً نسبة للثمن الباهظ الذي ستدفعه المنطقة –علاوة على ما دفعت- ويتعلّق طول المواجهة ونجاحها بمدى المغامرة الإيرانية الحزبلاوية في تلك المنطقة.
وبقدر ما تستمر الدول المهيمنة عالمياً في تأخير سقوط النظام، يصبح إعادة تشكّل سورية السياسية أصعب، ويرجح عندها امتداد رقعة لهيب الثورة لتتصل بما يلتهب ويمكن أن يلتهب في أقاليم الشام المجاورة، لا أن تُسحق الثورة كما تتمنى هذه الدول.
التحليل المفصّل:
ملامح الحلقة الأخيرة في الخلاص استوت شروطها الموضوعية في الشهرين الأخيرين من سنة 2012، حيث شهدت إنجازات عسكرية نوعية وسقوط مطارات ومراكز رصد حيوية وانهيار المعنويات بين أفراد الجيش والتراجع المستمر لقوات النظام وتفلت الحواجز من يده.  
ورافق ذلك التشكل السياسي للائتلاف الوطني بالتنسيق مع قوى إقليمية مهمة، تبعه تشكّل هيئة الأركان العسكرية التي أيضاً حازت على الترحيب.  
وبرغم احتفاظ النظام بقدرة هائلة على التخريب والانتقام من المدنيين، يمكن القول بثقة أنه استوت الشروط الثلاثة التي يتطلبها أي حسم: الإنجاز الثوري على أرض الواقع، التشكيل السياسي الشامل لقوى الثورة، الترحيب الإقليمي والدولي.  
وصار أمل الخلاص احتمالاً ممكناً يتوقف على متابعة نمو ثلاثية القوى هذه.  
غير أنه لم يدم الأمر على ذلك أكثر من شهر، حتى حدث تغير مفاجئ في المواقف الدولية.  
ويمكن أن نعتبر الحادي عشر من كانون أول/ديسمبر 2012 علّامة زمنية حين انتقل الحديث عن الإرهاب من حيّز التصريحات والتحذيرات إلى الحيّز القانوني.  
ثم تبعه اليوم التالي تصريح ملِكٍ عربي عن قلق بلده وبلدٍ نفطي مهم مما أسماه المحور المصري التركي القطري الذي قال إنه بدأ يتشكل بعد الربيع العربي وينسّق مع الإسلاميين.  
وترافق هذا مع التضييق على الذخيرة والسلاح، وجرى في سياق بردٍ قارصٍ للشتاء وأحوال مزرية للّاجئين، موجّهاً في رسائل تيئيس واضحة.
جرى ذلك بعد أن ازدادت وتيرة تطهير المواقع من رجس النظام الغاشم وأصبحت وتيرةً أسبوعية لا شهرية.  
وهذا بالمقياس العسكري تطور سريع جداً، وخاصة إذا ما تذكرنا الفرق الشاسع في نوعية السلاح المستخدم بين الفريقين.  
وأصبح بسط النفوذ الثوري على شمال محور جبل الزاوية/ البوكمال هو مسألة وقت، فالخبرة العسكرية التي تحصلّت للثوار زادت من فاعليتهم.
وما شاهدناه منذ الأيام العشر الأولى من الشهر المحرم 1434 (تشرين الثاني/نوفمبر 2012) يعتبر مفرق طريق.  
فلم يقتصر الأمر على تفلّت المناطق البعيدة من قبضة النظام، بل شمل تدمير قواعد عسكرية محورية لقدرة النظام على التحرك، ومنها ما هو قريب جداً من العاصمة لا يبعد عن قصر الطغيان إلا بضعة كيلومترات.  
عجزُ النظام ظاهرٌ، واستراتيجية السحق الشامل والتدمير والتنكيل لم تسعفه.  
فمهاجمة خطوط الإمداد كفى المقاومة قلة عددهم وأخرج المناطق البعيدة من قبضة السلطة.  
اعتماد النظام على القصف الجويّ والبريّ للانتقام من الأماكن التي تتفلّت من يده دفع المقاومة إلى أن تهاجم المطارات والقواعد العسكرية التي سقطت بتوالي سريع.  
وما زال المبدأ الاستراتيجي الحربي الذي يقول إن المعوّل عليه في الحسم هو القوات البريّة وأنه لا يتجاوز دور قوى الجو الدعم…  
ما زالت هذه القاعدة جارية وصحيحة، فبلا قوات أرضية كافية لا يستطيع النظام أن يحسم، وهذا النوع من القوات يتناقص بازدياد.
كما أنّ قسماً كبيراً من ملاك الجيش محجوز في ثكناته لا يجرؤ النظام على تعهيده المهمات خشية انشقاق عناصره ذات الأكثرية السنية.  
وهناك قواعد عسكرية منتشرة في أنحاء البلد، تقوم بقصف المناطق المدنية، وأبدت هذه القطعات ولاء للنظام ما دامت في قرى محصّنة تقاتل من وراء جُدُر، إلى أن يأتيهم العذاب من حيث لا يحتسبون.  
ويغلب أنّ سبب ذلك هو الانتماء الطائفي لقادتها بالإضافة إلى ما يُعرف بظاهرة “روح التضامن من أجل البقاء على الحياة” التي يطوّرها جنود المعركة بغض النظر عن قناعتهم بأهداف ما يقومون به.  
ولكن من هذه القواعد العسكرية ما استُنزف في غياب الإمداد المستمر.
طبعاً المقاومة المسلّحة تواجه تحديات أيضاً، منها تحدّي تجنّب الانتثار والتمركز المكشوف.  
وخلافاً للمحاولات الأولى للمقاومة المسلّحة التي حاولت السيطرة الفيزيائية الكاملة على الحيّز الجغرافي للمناطق، صار التركيز اليوم على السيطرة الاستراتيجية التي تجعل المنطقة غير أمينة للنظام، وتُعفي نفسها من السيطرة الكاملة التي تستلزم عدداً وعدّة ليست بحيازة قوى المقاومة الثورية.  
وبتكاثر هذه المناطق وتجاورها، تصبح بحكم المحرّرة برغم عرضتها للقصف.  
وجاء ذلك بعد أن أتقنت قوى المقاومة فنّ المناورة بفرق صغيرة العدد وفق استراتيجية الكرّ والفرّ وحرب العصابات.
ويضاف إلى ما سبق أن سمات انهيار معنويات القوات المقاتلة في صفّ النظام واضحة.  
وبينما ظهر التذمّر من قبلُ في البلدات التي أصبحت التوابيت تصلها لتدرك أنّ موالاة النظام لها ثمنها الباهظ، يبدو أنّ الشكوك حلّت في عقر دار القواعد العسكرية، والمرجح أنها سوف تخرج بالكلّية من حساب النظام ومن كونها مما يُعتمد عليه.  
وكلّ هذا يدفع النظام إلى التركيز على ساحة المعركة في دمشق، ولكن من غير التفريط الكامل بالمناطق الأخرى التي يعاقبها عقوبات قاسية جداً من خلال القصف الجويّ.  
وبقدر شعور النظام بالخطر يصعّد في الإجرام، ولا سيما أن المجتمع الدولي صامت تجاه ذلك صمت المنافح عن النظام بإصراره على استعمال وصف (الحرب الأهلية) -مع أنّ سحق الأهليين يجري من طرف واحد- وتكريره التخويف من التطرف، وكأن هناك تطرّف يمكن أن يفوق فظائع النظام الغاشم.
وكما هو معلوم، لم تكتف الدول المهيمنة بعدم تقديم السلاح النوعي، ولو فقط ذاك الذي يحمي المدنيين من حمم السماء والذي لا يمكن إساءة استعماله، بل جرى الضغط على موارد الذخيرة.  
وبرغم ذلك، فإن ما يتسرّب من سلاح وذخيرة والكميات الكبيرة التي يغنمها الثوار تسمح باستمرار المعركة وإن كانت غير كافية.
إنّ النظر إلى المعادلة العسكرية وحدها لا يكفي. وعلينا أن نتذكّر أنّ معظم ما حققته الثورة إلى اليوم لم يكن مردّه القوة المجردة وإنما إلى جانبها كل أوجه الحراك المدني والاحتضان الشعبي وسقوط شرعية النظام.
النظام لم يعد يحكم:
التحليلات التي ترصد ميزان القوى العسكرية صحيحة في تقديرها للفجوة الشاسعة في قوة الطرفين، والذي يمثل شرطاً موضوعياً ينبغي أخذه بالحسبان وعدم الوقوع في التفكير الرغبوي، وهذه التحليلات جديرة بالتأمل الجديّ خصوصاً ممن يحسب أنّ الحسم العسكري كافٍ بذاته.  
ولكن بقاء الأنظمة وانهيارها لا يعتمد على القوة العسكرية فحسب، ولا بدّ لها من ركائز سياسية وديبلوماسية وبيروقراطية واقتصادية…
وضمن هذا المنظور الواسع، ينبغي التأكيد على أنّ النظام سقط وتحوّل إلى شيء آخر.  
فمنذ بدء قصف المدنيين والمدن تحوّل النظام من نظام طاغوتيّ جائر إلى قوة تستعمر البلد، وتحوّل الحراك الثوري عندها إلى حركة تحرير وطنيّ بكل ما للكلمة من معنى وليس مجرّد حركة تغيير لنظام مستبدٍّ فاسدٍ فاجرٍ.
وبعد خروج مناطق شاسعة من قبضة النظام، بما في ذلك عدم السيطرة الكاملة على مدينة محورية بحجم حلب وأهميتها الاقتصادية والبشرية، يمكن اعتبار أنّ النظام في دمشق لم يعد يحكم.  
ولقد اضطر النظام القبول بالأمر الواقع برغم شساعة المناطق المتفلّتة، بما في ذلك خروج شرق سورية وشمالها وشمالها الغربي من سيطرته، وتزعزع سيطرته في الجنوب برغم محازاته حدوداً تخشى التغيير، بالإضافة إلى سقوط أكثر المنافذ الحدودية الدولية في أيدي الثوار.  
وهل هناك أقسى على نظام متجبّر من خروج مناطق واسعة من ريف عاصمته من قبضته، ولا زال عاجزاً عن اختراقها.  
وهذه المناطق خرجت من غير رجعة، وإن كان ريف دمشق أكثر المناطق عرضةً للمناجزة والاستراجاع.
ويضاف إلى ذلك ضرب خطوط إمداد النظام وتعويق تزويد قطاعاته العسكرية المتناثرة بالإمدادات، إلى جانب تهديد مطار العاصمة وشلّ حركته، وإلى جانب تدمير محطات رادارية أساسية، وبالإضافة إلى اعتماد المدن والبلدات على نفسها في تأمين أساسيات معيشتها وغياب الدور الحكومي فيها…  
كلّ ذلك سحب من النظام صفة ترأس الحُكم على دولة اسمها سورية وتحوّل النظام إلى عصابة ميليشيا تحت تصرّفها كميات من السلاح والذخيرة وما زال عندها قدرة على تدمير الحياة المدنية بأسلحة معدّة للاستعمال ضدّ الجيوش.  ونظام بهذا الصفات لا يمكن أن يوصف بأنه يحكم.
ولعلّ الأكثر دلالة من كل ما سبق هو خصخصة قوى الدمار والقمع والتنكيل.  
فالقطعات العسكرية المنتشرة في القطر تحوّلت إلى إقطاعيات حربية تتغذّى على مقدرتها المكانية وما تستطيع أن تستوليَ عليه من القرى المحيطة.  
ولقد خذلها النظام ولم يدافع عنها رغم أنها حوصرت شهوراً إلى أن سقطت في النهاية.  
والوجه الثاني لخصخصة القمع هو خصخصة قوى الأمن والمخابرات، حيث أُطلقت يد الفرق المدنية من (الشبيحة) مقابل السرقة والنهب والأتاوات.  
نظامٌ كهذا هو بالتعريف نظام أمراء حربٍ، ولا يمكن وصفه بنظام دولة لها مقوماتها المعروفة، وإن كان جزءاً من مؤسسات الدولة ما زال يعمل.

ويمكن أن نفهم التحركات الدولية الأخيرة من هذه الزاوية، فهي تحاول إعادة شيءٍ من الاعتبار السياديّ للنظام في دمشق، ويساند في ذلك إعلامٌ موجّه يدّعي أنّ دمشق استعادت ثقتها.  
ولكن هذا منطق دائري، إذ لا داعي للثقة لولا إشارات التطمين وتجاهل العالم والأمم المتحدة القتل والتدمير الممنهج وخرق القوانين الدولية.  
وصحيح أنّ التحرّك الخارجي له وزنه، لكن علّمنا النضوجُ الثوري أنّ الوعي الشعبي هو الذي يمكِّن من اكتشاف أنّ حيّاتِ سحرة فرعون ليست إلا مجموعة عصا ميّتة.
العاصمة المحصّنة:
كما هو معروف، كدّس النظام قوات استثنائية في العاصمة دمشق.  
وتتمركز قواته فيها في منطقة تلالٍ تكثر فيها نخبة الحكم وبمحاذاتها مراكز قواتٍ شديدة الولاء مصيرها مربوطٌ بالتمّام مع مصير النظام.  
وما كان لأي مقاومة حصيفة إلا أن تتجنّب المواجهة المفتوحة الشاملة في مثل هذا الوضع، وأن تكتفيَ بإنهاك النظام بضرباتٍ خاطفةٍ موجعةٍ تُبقيه في حالة استنفار دائم، وهذا فعلاً ما تتبعه المقاومة في دمشق.
وإنّ انحسار دائرة انتشار قوّات النظام وتركيزها في دمشق وإن كان يرُيح من مشكلة مهاجمة خطوط الإمداد، إلا أنّ له أثرا سلبيا غير مباشرٍ من ناحية الموارد ومن ناحية السيادة الإدارية.  
ففاعليات باقي مدن البلد وبلداته وقراه تمدّ المركز بمزيد مما يلزمه من قوة.  
كما والاستغناء عن ثاني المدن يُذهب عن النظام شرعيته بشكل حادّ.  
إيراد مثال أفغانستان والصومال هنا، من ناحية سيطرة الحكومة فقط على مركز العاصمة، هو في غير محلّه، فالمحيط السوريّ خارج العاصمة له ثقله وله أهميته، وبعضه (حلب) متطوّر بما يوازي دمشق أو يفوقها.
وباعتبار التأييد الشعبي للثورة يمكن أن يتحوّل تصغير النظام لدائرة نفوذه إلى انحصار.  
فإذا استطاعت المقاومة تنظيف المناطق المحيطة بالتدريج وبكلفة غير كبيرة، فإن ذلك سيحكم الخناق على النظام، ويعجز عن تقديم الخدمية المتوقّعة الأساسية من أي حكم.  
فمثلاً، الانحصار يُخرج من أيدي النظام السيطرة على توزيع دقيق الخبز وما شابه من مواد غذائية أساسية، وتوزيع الوقود، كما يمكن أن يُخرج من يده محطّات توليد الكهرباء والتزويد بالماء، فيذهب مع هذا مبرر الحاجة إلى حكومة، ويستغني الناس عن المركز ببدائل محلية ولو مؤقتة.
قوّة النظام في دمشق والعجز المتزايد خارجها يدفع الاستراتيجية العامة للمقاومة المسلّحة إلى أن تعتمد مبدأ إرهاق النظام في عقر مركزه بتكلفة عسكرية منخفضة، بدل المغامرة بمواجهات واسعة شديدة مع عدم التكافؤ في الإمكانيات والعتاد، وإن كان هذا يتطلّب وقتاً ويفسح للنظام فرصة استمرار القصف.  
وحتى إذا جرى تحييد إمكانية القصف من الراجمات الثابتة والـمُألألة من خلال السيطرة على القواعد المحيطة بدمشق، فإنّ القصف من جبل قاسيون المطلّ على دمشق ومحيطها يبدو أنه خارج إمكانية الثوار.
ويشار هنا إلى أنه ليس واضحاً إذا كان الطريق الدولي بيروت-دمشق الذي يُسهّل مرور الأنصار الحزبلاويين والذخيرة ومعدّات الرصد وغيرها من المواد الضرورية يمكن ضربه وإعاقته.  
فقوى الثورة المتواجدة في مناطق الزبداني يرجّح أنه لا يمكنها القيام بهذه المهمة، ولا سيما لعدم وجود مناطق كثيرة ومتجاورة خرجت عن سيطرة النظام في تلك الجهة، كما هو الأمر في الغوطتين الشرقية والجنوبية.
إيران وحزبها:
في حساب ميزان القوى، لا يُمكن أن لا نُدخل في المعادلة القوات الحزبلاوية، وأن يتمّ تقدير الدرجة التي ستدفع بها إيرانُ الحزب في العمق السوري.  
والمصلحة الذاتية للحزب تقتضي أن يركّز على مناطقه ويعزّز موقعه اللبنانيّ الذي ضعف، وأن يدّخر ما استطاع من قواه، وأن لا يقامر في مغامرته.  
ولكن المعطيات تشير إلى أنه سيتابع مشاركته بجدية وعزم، مع الحفاظ على خطوط رجعة.  
ومما قد يطمئنه هو أنّ المرجح أنّ الحزب قد وصل إلى تفاهم مع إسرائيل، ولم يعد ظهره مكشوفاً.
دعمُ الحزب للنظام في الساحة الدمشقية جارٍ، والمرجّح أن لا تتوانى إيران عن زجّ جزء من قوات الحزب في معركة العاصمة على نحو أوسع لهدفٍ محدّد.  فإيران أصبحت مدركة بوضوح ما وصل إليه النظام، ودفع قوّات لنصرته هو من باب تأمين مواقع قدمٍ في المعادلة الجديدة للقوى في سورية.  
فالسقوط السريع يشتّت قوات الأمن والفصائل الموالية للنظام القديم التي أصبح لها علاقات مع إيران، ويسمح ببداية مستأنفة مبنية على جديد.  
أما السقوط المتدرّج فيمكن أن يسمح لبعض قوى النظام البائد المحافظة على مكامن قوتها ولو غابت عن الساحة المرئية، ولا سيما إذا طال زمن الترنّح؛ ولذا سوف تسعى إيران بكل ما أوتيت من قوة لتبطئ عملية أي تغيير.
ويلاحظ أنّ تحرّك القوات الحزبلاوية ما زال حذراً، لأنّ عليه أن لا يشتّت قواته، وإن كان قرب مواقعه في البقاع اللبناني يعزّز إمكانية المناورة.  
ودربة قوات الحزب عالية، وتسليحه وافر، والحوافز الإيديولوجية لعناصره قد تكون أكثر فاعلية من دوافع العناصر العلوية للحرس الجمهوري والفرقة الرابعة.  
فدوافع العناصر العلوية في الجيش هي دوافع حقدٍ وخوفٍ من الانمحاء وغير مرتبطة بشدّة بمشروعٍ سياسيٍ إلا الدفاع عن نظام ربّ نعمتهم.  
أما حوافز العناصر الشيعية للحزب -بغض النظر عن مضومونها النفسيّ- فهي دوافع دينية طائفية لمشروعٍ سياسيٍ إقليمي.  
ولذلك يمتاز الحزب بقدرةٍ على ضبط النفس أكبر من قدرة قوات النظام، لا سيما أنّ قوات الحزب تتمتّع بإمكانية الانسحاب والنجاة، مقابل التصرّف المذعور للفريق الأول والذي يُتوقع أن يتميز سلوكه بدرجة أعلى من ردّات الفعل.
ويشار إلى أنّ إيران حريصة على أن لا تنقطع المنطقة الساحلية بمكونها الطائفي عن لبنان، إذ أنها في ظلّ الظروف الحالية ضَمِنت تأييد العلويين وولائهم.  
أي أنّ جعل الساحل السوري استطالة استراتيجية للنفوذ الإيراني في لبنان هو هدف حيوي، بغض النظر عن وقوع هذه الاستطالة في هذه الدولة أو تلك، فهذا لا يعود له أهمية كبيرة بعد ضعف المركز في دمشق.
وعموماً، موقف إيران وتوجيهها للحزب ومدى انخراطه في الأمر السوري يتأثّر بمواقف الدول الغربية المعنيّة بالشأن السوري وسجالها مع إيران، ولو عبر الوسيط الروسي.  
فتلك الدول تجد أنّ تأخير الفصل النهائي للثورة يصبّ في مصلحتها لأنه يمنع من السقوط المفاجئ الذي يختطف الأوراق السياسية من يدها ويوسّع هامش المناورة للمعارضة السياسية السورية.
حمص العقدة الاستراتيجية:
ما زالت حمص عاصمة الثورة ومفتاح الخلاص بسبب موقعها الاستراتيجي الذي إن خرج من تحكّم النظام فإنه يمهّد لخنق المركز في دمشق.  
وناهيك عن أنّ حمص هي صلة الوصل مع شمال سورية وقريبة من أحد مناطق تهريب السلاح من لبنان، هي بوابة المنطقة الساحلية التي يكثر فيها عدد الطائفة الموالية للنظام، وهي القريبة من الحدود اللبنانية الشمالية التي تشكّل رئة تنفس للنظام عبر القوّات الحزبلاوية. وموقع الجوار الحمصي، بما في ذلك تلكلخ والقصير غرباً هو أيضاً استراتيجي لأنّ ما يلي تلكلخ مباشرة من جهة الساحل هو منطقة طرطوس الموالية للنظام بحكم تركيبتها السكانية.  
بمعنى أنّ منطقة حمص هي حجر عثرة تنفتح بعدها الأرض مباشرة على منطقة مساندة للنظام.  
والمنطقة الساحلية لها أهمية كمدن وبلدات فيها علويين كثر وتوازي جبال العلويين، ولها أهمية أخرى لكونها خطّ إمدادٍ بحري.  
وكلّ ذلك يجعل إبقاء الخط مفتوحاً إلى المنطقة الساحلية أمر حيوي جداً للنظام بغض النظر عن الأهمية الذاتية لحمص نفسها كثالث أكبر مدينة.

انتزاع حمص من قبضة النظام يواجه القوات الحزبلاوية علاوة على قوات النظام.  
والتخطيط الإيراني تحضّر لهذه اللحظة، فلقد استبق الحزب الأمر وأمّن مواقع له على البلدات على طرفي العاصي في لبنان، وهو يرابط عند مدخل النهر إلى سورية.  
غير أنّ دخول القوات الحزبلاوية في محيط حمص على نحوٍ كبيرٍ يمكن أن يفتح عليه باب مشاكل لوجستية في شمال لبنان بتأثير قوى سنيّة واحتمال حدوث صدامات مباشرة.  
ولذا، فقد يختار الحزب أن يطامن من الانتشار الواسع في مناطق غرب حمص، ويركّز على هدف إبقاء الصلة مع الساحل السوري من جهة شريط غربي ضيق شمال لبنان.
وينبغي الاستدراك هنا وتذكر أنه ليس للنظام في الساحل دعم كامل، وإنما نموّ الحراك الثوري فيه صعب.  
فحوالي نصف سكانه من السنة، والتوازن الذي تعيشه تلك المنطقة توازن قلق، فرغم التعايش لفترة طويلة، ما كان لبشر فيه ذرة كرامة إلا وأن يسأم السلوك الطائفي المنحطّ أخلاقياً للمتحالفين للنظام هناك.  
ويعرف النظام أنّه إذا انعزل الساحل وفقد موالوه فيه التواصل مع المركز في دمشق، فإنه يمكن أن يحدث في مدنه حراك ثوريّ مستقل يتغذّى على قواه الداخلية.  
وفعلاً في المرحلة التي كان فيها الحراك السلمي ممكن، كانت الفاعليات الثورية في مدن الساحل قوية، وهي الآن متربصة تنتظر الفرصة المناسبة وتدرك أنّ التحرك المتعجّل الآن يعرّضها إلى مذابح بشعة، ولا سيما أن الطائفة هناك زادت من مستوى تسليحها.  
وإذا حدثت درجة لا بأس بها من التمكّن الثوري في الشمال الغربي، فهذا يعني أنّ أثره سوف يسري بالتدريج نحو الساحل في محيط اللاذقية.  
والأهمية الخاصة للساحل تكمن أيضاً في أنّ عزله يحرم النظام من مناطق إيواء موالية.  
كما أنّ للساحل أهمية رمزية ومعاشية للقوات الموالية من النظام التي تقاتل بشراسة.  
فعناصر هذه القوات وإن طالت معيشتُها لعقودٍ في محيطي دمشق وحمص، تنظر إلى قرى الساحل ومدنه إلى أنها الأمل المستقبلي؛ ولبعضهم فيها عوائل وأقارب وأصدقاء.  
هذا ناهيك عن فكرةٍ رائجةٍ بين أفراد الطائفة في تشكيل دولة علوية في الساحل إذا ساء كثيراً مجرى الأحداث.  
وأخيراً، فإن منطقة الساحل مهمة للنظام لأنّ فيها موانئ يمكن أن تزوّد بالسلاح الثقيل الذي لا يسهل نقله من لبنان أو من العراق لبعد المسافة ولطبيعة التضاريس ولإمكان التعرّض إلى قوافله.
خاتمة:
رغم جمودٍ نسبيٍّ في الإنجاز العسكري في الأسابيع الماضية، ما زالت هناك علامات قدرةٍ لمتابعة المسير، بما في ذلك إنجازاتٌ في محيط درعا برغم الصعوبة البالغة للتحرّك هناك.  
وقياس الإنجاز نسبةً إلى أعلى لحظاته في الشهرين قبل الشهر الماضي أمر غير واقعي.  
وما كان لوتيرة الأحداث أن تستمرّ بالتعاظم إلى أن تسقط دمشق، فهذا النسق من التحرير لا يمكن تحقّقه في الحالة السورية، وإن كان يمثّل حُلماً يتمنّاه كثيرٌ من الناس.  
فلا بدّ من تقطيع مزيدٍ من أوصال النظام قبل الحسم في دمشق.
وإذا كان صحيحاً ما يدّعيه الثوار من أنهم غنموا ويغنمون كميات كبيرة من السلاح والذخيرة، فإنّ تجفيف الموارد من الخارج لا يؤثر على مجمل الحركة وإن كان يعطّل عمل بعض الكتائب.  
وعندها يمكن تصوّر إمكانية تطهير مناطق شمال خط جبل الزاوية/البوكمال.  
أما تقدير مآلات مصير معركة الوسط ناحية حمص فصعب، ويرجح أنها ستشهد سلسلة من الإنجازات والارتكاسات تطول بضعة أشهر.  
وإذا افترضنا أنّ المقاومة حول دمشق نجحت في المحافظة على مواقعها وتابعت في ضغطها على النظام، فهذا يعني أنّ طغمة دمشق سوف تضطر الاحتفاظ بقواتها الأحسن تجهيزاً في العاصمة ولا تغامر بها نحو الوسط.  
وعندها سيتوقف نجاح المواجهة وطول أمدها في منطقة حمص على مدى مشاركة القوات الحزبلاوية.
الصورة النهائية التي نستطيع رسمها هي التالي.  
في أحسن تقدير، تتفلّت معظم مناطق سورية من السيطرة الكاملة للنظام، مما يسمح بمحاصرة دمشق وبدء مرحلة جديدة يكون أحد خياراتها مفاوضات نديّة لتسليم النظام والرحيل.  
وفي أسوء تقدير، سوف تتبوء ثلاثة أنواع من المناطق على درجات متفاوتة من سيطرة النظام فيها.  
النوع الأول هو تلك المناطق التي تستمر في كونها خارج سيطرة النظام، وتتقلّص قدرته على الانتقام منها، فتتأقلم مع وضعها الجديد وتدير حياتها المحلية بنفسها ولا تعود تعبأ بدمشق.  
النوع الثاني هو مناطق السكون القلِق النازف في دمشق والساحل، والثالث مناطق النزاع العميق المستمر في الوسط الحمصي وفي الجنوب الحوراني.  
كما يمكن لهذا الوضع أن يستمر قبل أن يمتدّ عدم الاستقرار إلى الأقاليم الشامية المجاورة، الذي من شأنه أن يغيّر سلوك الدول المهيمنة عالمياً، هو لغز آخر.
وبعد، فلقد انتهيت من هذا التحليل عشية اجتماعاتٍ ومناوراتٍ دولية يُفترض أن يكون أثرها بالغاً، وفي سياق سيلٍ من الإعلام الذي يبثّ شعور اليأس.  ولكن رغم ذلك عندي شعور أنّ هذه المناورات لن تُفلح، وكلّ الذي ستفعله هو تطويل الأزمة وزيادة تعقيدها.
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ…

 

 

الربيع الشامي

المصادر: