مع تلاحق الضربات لنظامه: خيارات الأسد

الكاتب : مركز الجزيرة للدراسات
التاريخ : ١٤ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 8762


مع تلاحق الضربات لنظامه: خيارات الأسد

في الخامس عشر من يوليو/تموز 2012، شهدت عدة أحياء من العاصمة دمشق اشتباكات متصلة بين مسلحين معارضين، وقوات النظام العسكرية والأمنية. شملت الاشتباكات حي الميدان، ومخيم اللاجئين الفلسطينيين الرئيسي في سورية، والأحياء المجاورة له، جنوبي العاصمة. كما شملت الاشتباكات أحياء في شمال العاصمة، مثل برزة والمزة وكفر سوسة.

 

 

في الثامن عشر من الشهر نفسه، وقع انفجار في مقر مجلس الأمن القومي، خلال اجتماع ما يُعرف بخلية الأزمة، أدى إلى مقتل عدد من كبار قادة النظام العسكريين والأمنيين، بما في ذلك وزير الدفاع داود راجحة ونائب رئيس الأركان، صهر الرئيس الأسد، آصف شوكت، أحد المسؤولين السوريين الأكثر تطرفًا في مواجهة الثورة وحركة الشعب.

في اليوم التالي، اشتدت الاشتباكات في أحياء العاصمة، وأعلن الثوار المسلحون عن تحرير حي الميدان؛ بينما كانت مجموعات أخرى من الثوار والجيش الحر تبدأ عملية تحرير مدينة حلب، العاصمة الثانية، وأكبر المدن السورية سكانًا، وتحرير البوابات الدولية لسورية، الواحدة منها تلو الأخرى، على الحدود مع تركيا والعراق.

واجه النظام الضربات المتلاحقة لسلطته بتماسك ورباطة جأش، معلنًا عن تعيين العماد فهد جاسم الفريج وزيرًا للدفاع ونائبًا للقائد العام للقوات المسلحة.

وخلال الأيام القليلة التالية، وفي موازاة تنقلات عسكرية وأمنية لملء الفراغ الناجم عن انفجار خلية الأزمة، بدأت وحدات من الفرقة الرابعة، التي يقودها شقيق الرئيس، معززة بأعداد من الشبيحة (الميليشيات الموالية)، حملة دموية معلنة لتصفية تجمعات الثوار المسلحين في أحياء العاصمة المختلفة.

مع الرابع والعشرين من الشهر، كانت قوات النظام قد استعادت السيطرة على أحياء الميدان والمزة وبرزة وكفر سوسة والقابون بالفعل، فيما بدا بأنها نهاية سريعة لما سُمي بمعركة دمشق.

رباطة جأش النظام، وحرصه على إبراز قسوة قواته وجثث ضحاياه المتناثرة في شوارع العاصمة، لا يجب أن تغطي حقيقة التراجع المتسارع في سلطته وتحكمه في الأرض وفي المؤسسة العسكرية.

هذه قراءة في تراجعات النظام السوري خلال الأسبوع الأكثر سخونة من يوليو/تموز، وفي الخيارات المطروحة أمام قيادة النظام.

أول تراجعات ملموسة

يعتبر انفجار خلية الأزمة اختراقًا نوعيًا باهظ التكاليف لمؤسسة الحكم السوري، ليس فقط لأنه أودى بحياة مسؤولين من الصف الأول في النظام، ولكن أيضًا لأنه أظهر حجم الخرق والارتباك في بنية الحكم.

ليس ثمة من دليل على وجود مؤامرة وتصفيات داخلية؛ وليس هناك نظام حكم يغتال هذا العدد من رجاله أثناء معركة بهذا الحجم، تهدد وجوده كله.

الحقيقة أن الشريط الذي وزعته المعارضة، والذي يُظهر وجود كاميرا تراقب وتصور بناية الأمن القومي لحظة الانفجار، يؤكد أن مجموعة من المعارضة هي المسؤولة عن هذه العملية.

وليس هناك ما يستدعي الاستغراب والدهشة، على أية حال، فالانشقاقات في صفوف القادة العسكريين والأمنيين وصلت إلى قلب المؤسستين العسكرية والأمنية، مما يوفر نافذة واسعة للمعارضة، تطل منها على أركان الحكم وإدارته ومراكز تحكمه.

يمكن أن يقال بالطبع: إن انفجار خلية الأزمة ليس أكثر من انتصار معنوي للمعارضة وقوى الثورة؛ ففي دولة قمعية عميقة الجذور، لن يؤثر غياب عدد صغير من القادة كثيرًا، ولكن ما حدث أن الانفجار واكب ويواكب تقدمًا نوعيًا للثورة وقواها المسلحة في كافة المجالات.

فقد بدا طوال أسبوع من يوليو/تموز أن النظام يفقد السيطرة على أحياء بأكملها من العاصمة. ولم يكن نجاح قوات النظام في استعادة السيطرة العسكرية على العاصمة ممكنًا بدون استدعاء قوات جديدة من خارج دمشق؛ إضافة إلى أن مجموعات الثوار في أحياء العاصمة تفتقد خطوط الإمداد والدعم، المتوفرة للثوار في أطراف البلاد الشمالية والشرقية.

قصر خطوط الإمداد، وتوفر الدعم البشري واللوجيستي، هو ما سمح لمجموعات الجيش الحر ومجموعات الثوار الأخرى، بالتأكيد، بالسيطرة على أغلب معابر سورية الدولية مع تركيا والعراق، وفي إطلاق معركة تحرير مدينة حلب، والسيطرة على مدن شرقية مثل البوكمال، ومعظم المنطقة ذات الأغلبية الكردية في شمال شرق البلاد.

إن استطاع الثوار في النهاية تحرير كامل مدينة حلب، وهي فرضية ليست مؤكدة، بعد أن باتوا يسيطرون فعلاً على معظم ريف محافظة حلب، فستكون المعركة المسلحة لتحرير سورية قد خطت خطوة كبيرة إلى الأمام.

ما يضيف إلى تفاقم أزمة النظام، الذي بنى سياسته من البداية على إيقاع هزيمة عسكرية بالثورة، حتى والحراك الشعبي لم يزل سلميًا وقبل أن تبدأ الانشقاقات في صفوف الجيش، أن الأداء العسكري لمجموعات الجيش الحر المنشقة والجماعات الشعبية المسلحة في تحسن مستمر.

لم يعد خافيًا، بالطبع، أن تركيا والسعودية وقطر تمد يد العون والمساعدة لقوى الثورة السورية المسلحة؛ ولكن مشكلة النظام باتت أكبر حتى من العون الخارجي، المحدود بطبيعته حتى الآن، للثوار. مشكلة النظام تقع في تسارع عجلة تفكك آلته العسكرية، والتصاعد الكبير في معدلات انشقاق الضباط والجنود، من كافة الرتب ومن كافة وحدات الجيش وفي كافة أنحاء البلاد.

ليس ثمة ما يشير إلى أن النظام سيسقط سريعًا، فلم تزل لديه من القوة والمقدرات ما يسمح له بالاستمرار في المعركة الدموية ضد شعبه.

ولكن مؤشرات السقوط اليوم أكبر مما كانت في أي وقت آخر منذ اندلاع الثورة السورية قبل 18 شهرًا.

السؤال الآن هو ما هي الخيارات المتبقية أمام الرئيس السوري والمجموعة اللصيقة به.

خيارات الأسد

الخيار الأول: في اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى الوزراء، الذي عُقِد بالدوحة مساء الأحد 22 يوليو/تموز 2012، عرضت الجامعة العربية (مع تحفظ كل من العراق ولبنان) على الرئيس الأسد التنحي، مع توفير خروج وملاذ آمنيْن له ولأسرته. بعد يومين، قالت وزيرة الخارجية الأميركية: إن الوقت لم يزل متاحًا لتنحي الرئيس السوري وتجنيب بلاده المزيد من الدماء. الرد السوري، في الحالتين، لم يكن مستغربًا: لم ترفض دمشق العرض العربي وحسب، بل واعتبرته تدخلاً في الشأن السوري الداخلي.

الطبيعة الشخصية للرئيس السوري، نشأته، المصالح الطائفية المرتبطة به، الدعم الذي لم يزل يتمتع به من روسيا وإيران، والقوة العسكرية الملموسة التي يحتفظ بها حتى الآن، بالرغم من الانشقاقات المتسعة في صفوف جيشه، والتي أهَّلته لإعادة السيطرة على دمشق وتؤهله لمحاولة إعادة السيطرة على حلب، تجعل من المبكر توقع تنحي الأسد أو السعي إلى حل تفاوضي، من أجل خروج آمن له ولأسرته والمقربين منه. بمعنى أن هذا الخيار ليس مطروحًا بعد، وقد لا يكون مطروحًا مطلقًا.

خيار الأسد الثاني: في ظل توازنات القوى الحالية، هو الاستمرار في القتال، مؤمِّلاً أن يستطيع في النهاية، على نهج العسكر الجزائريين في عقد التسعينيات، تحقيق الانتصار على خصومه ومعارضيه. في خطابه الأخير في يونيو/حزيران 2012، قال الأسد: إن سورية في حالة حرب. وكان يقصد تمامًا ما قال؛ بمعنى أن النظام يخوض حربًا بكل ما تعنيه الحرب، وأن النظام لن يدخر جهدًا للانتصار في هذه الحرب.

سيناريو الجزائر، بالطبع، لا يمكن تكراره، ليس فقط لأن نظام الأسد يواجه ثورة شعبية واسعة النطاق، ولكن أيضًا لأن القوى الغربية، التي دعمت أو غضت النظر عن الانقلابيين الجزائريين وحربهم، لا تبدو في مزاج دعم نظام الأسد؛ هذا إن لم تكن قد بدأت بالفعل في التخطيط للإطاحة به بالقوة. الأرجح، أن المجموعة الحاكمة في دمشق تدرك صعوبة الموقف، ولكن استمرار الحرب، بغض النظر عن حجم الدمار الذي ستوقعه في البلاد (الأمر الذي لا يبدو أنه يشكِّل مصدر إزعاج كبير لقادة النظام)، قد يوفر لها في النهاية موقعًا تفاوضيًا أفضل.

في سياق هذه الحرب، ستتصاعد معدلات القتل والدمار، سيما أن اتساع نطاق الانشقاقات سيؤدي تدريجيًا إلى أن تصبح الآلة العسكرية والأمنية للنظام آلة طائفية أو شبه طائفية، تقودها طبقة من الضباط العلويين، وعدد ضئيل من الضباط السنة المتورطين في جرائم النظام، أو من أبناء الأقليات الأخرى. كما سيحاول النظام خلق مشاكل مستعصية للدول المجاورة، التي تدعم قوى المعارضة، مثل فتح المجال لسيطرة حلفاء حزب العمال الكردستاني التركي من التنظيمات الكردية السورية على المناطق الكردية السورية في الشمال الشرقي؛ أو تفجير الساحة اللبنانية.

الخيار الثالث: والمرتبط بالخيار الثاني إلى حد كبير، أن يخوض النظام معركة الاحتفاظ بسورية إلى أن يصبح من المستحيل الانتصار في هذه المعركة، ومن ثَمَّ تنتقل المجموعة العلوية الحاكمة، ومن يرغب بالالتحاق بها، إلى منطقة الأكثرية العلوية في الشريط الساحلي والمنطقة الجبلية المطلة عليها، وما يمكن تأمينه من السهل السوري الخصب في وسط البلاد.

ما يشير إلى وجود مثل هذا المخطط تواتر التقارير التي تفيد بعمل النظام على تعزيز المقدرات العسكرية للمنطقة العلوية، والقسوة البالغة التي يتعامل بها النظام مع الحراك الجماهيري في هذه المنطقة، وحملة المذابح المعلنة وغير المعلنة في القرى الغربية لمحافظتي حماة وحمص، التي توفر الخلفية الاستراتيجية لجبل العلويين.

وليس ثمة شك أن هذه القرى تشهد عملية تطهير طائفي حثيث منذ شهور، تستهدف ترحيل العدد الأكبر من القرويين السنة عن قراهم وأرضهم، ودعم وجود السكان العلويين، المنتشرين بأعداد ملموسة في محافظتي حمص وحماة.

إن وصلت الأوضاع في سورية إلى خيار الانقسام الطائفي، أو حتى استمرار النظام في ادعاء الشرعية بعد ارتحاله إلى المنطقة العلوية، فإن النتائج ستكون كارثية على سورية ككل وعلى الطائفة العلوية بوجه خاص.

استراتيجيا، سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، المحافظة على وجود واستقرار دويلة طائفية الطابع على جزء من سورية، سيما أن حجم الطائفة العلوية أصغر بكثير مما يمكِّنها من خوض مواجهة مع باقي السوريين، وأن جوارًا معاديًا سيحيط بالدويلة الجديدة من كل جهاتها تقريبًا. كما أن من الصعب تصور اصطفاف كل الطائفة العلوية خلف المجموعة الحاكمة، بعد سقوط النظام في دمشق.

في مواجهة المخاطر

ما لم يفاجئ الرئيسُ الأسدُ السوريين وخصومَه الإقليميين والعالم بتنحيه المبكر، فإن كل خيار آخر يمكن أن تلجأ إليه المجموعة الحاكمة في دمشق سيشكِّل خطرًا كبيرًا على مستقبل سورية واستقرارها.

سيطرة قوميين أكراد على المدن الكردية الرئيسية، بمن في ذلك مسلحون تم تدريبهم في كردستان العراق، وفقدان قوى الثورة السورية المسلحة لقيادة موحدة، هي في حد ذاتها مصادر تهديد لسورية  المستقبل. ولكن ذهاب المجموعة الحاكمة إلى خيار استمرار الحرب والمواجهة، أو محاولة التحصن في النهاية في كيان علوي جغرافيًا وسياسيًا، أو علوي جغرافيًا مع ادعاء الشرعية الوطنية، سيجعل من سورية الجديدة كيانًا مقسّمًا إلى أمد غير محدد.

إنقاذ سورية من مثل هذا المصير يتطلب توفر شرطين أساسيين:

تسارع انهيار المؤسسة العسكرية للنظام، وتسارع في تعزيز مقدرات قوى الثورة المسلحة، على مستوى المعدات ونوعية القيادة ووحدة القيادة. حتى التدخل الخارجي المحدود، لحماية منطقة آمنة، كما أُشيع مؤخرًا، لن يكفيَ لتجنيب سورية مخاطر الحرب الداخلية الطويلة والانقسام.

المصادر: