خطوة خطوة مع زحف الطائفة إلى السلطة

الكاتب : غسان الإمام
التاريخ : ١٧ ٢٠١١ م

المشاهدات : 7456


خطوة خطوة مع زحف الطائفة إلى السلطة

على مدخل دمشق الغربي، اغتيل العقيد محمد ناصر في عام 1950م. لم يكن مصرع قائد سلاح الجو أول مشهد من مشاهد الصراع الدموي في الجيش السوري. فقبل شهور قليلة، سُحب المشير حسني الزعيم -رئيس الجمهورية- من فراشه بالقوة، في الهزيع الأخير من الليل. سيق بملابسه الداخلية، هو ورئيس حكومته الدكتور محسن البرازي، إلى جوار مقبرة فرنسية مهجورة في ضاحية المزة. ونفذ فيهما حكم بالإعدام بالرصاص، أصدرته قيادة انقلابية جديدة.
مقتل العقيد ناصر دشن بداية مبكرة جدًّا لزحف ضباط الطائفة العلوية للاستيلاء على السلطة السياسية، ليس عبر صندوق الاقتراع الديمقراطي، إنما من خلال السيطرة على مؤسسة القوة. المؤسسة العسكرية. للتغطية، فقد سارع العقيد أديب الشيشكلي قائد الانقلاب الثالث، في تاريخ سوريا العاصف، إلى اعتقال الضابطين اللذين اغتالا زعيم الكتلة العلوية في الجيش. قدمهما إلى القضاء. فصدر حكم بتبرئتهما!
في مذكراته، يسند أكرم الحوراني سبب الجريمة إلى الصراع آنذاك بين الاستعمارين الأميركي (الجديد) والآنجلوفرنسي (القديم). ويلمح إلى أن العقيد ناصر والضباط العلويين ربما حاولوا الاتصال بعراق نوري السعيد الذي كان تحت الهيمنة البريطانية، لاستعدائه على نظام الشيشكلي الذي كان أكثر ميلاً للولايات المتحدة، ولمصر الملكية. ثم لمصر الناصرية.
غير أني -وبعد كل هذه السنين- أدرج تلك الجريمة في فلك الصراع الداخلي الذي كان مستعراً بين الكتل العسكرية. ودليلي في دحض رؤية الحوراني اغتيال العقيد عدنان المالكي -رجل الجيش القوي بعد سقوط نظام الشيشكلي/ 1954م-. فقد أثبتت المحاكمة العلنية الطويلة لقتلة المالكي (1955م) الذي كان زعيم الكتلة العسكرية الاشتراكية المؤيدة للحوراني، أن الأصابع الأميركية كانت على صلة بالحزب السوري القومي الاجتماعي الذي نفذ رجاله في الجيش عملية الاغتيال، ضد ضابط كبير محسوب على اليسار المعادي لأميركا.
بحكم عملي الصحافي، شهدت وقائع المحاكمة. ولم يكن بالإمكان دحض التهمة. فقد جرى الاغتيال في ملعب لكرة القدم، على مرأى من ألوف المشاهدين. وكان أمامي، في قفص الاتهام، معظم قادة الحزب، بمن فيهم جولييت المر أرملة أنطون سعادة، وعصام المحايري زعيم الحزب في سورية. وإلى جانبهم جنود ثلة الاغتيال، وقائدهم صف الضابط فؤاد جديد. وكانوا كلهم من عسكر الحزب والطائفة العلوية في الجيش.
نفذ حكم الإعدام بالجنود، باستثناء فؤاد جديد. وحكم على الأرملة والمحايري بالسجن مددًا تقترب من عشرين عامًا. وحكم بالإعدام غيابيًّا على العقيد غسان جديد المخطط العسكري للعملية، وكان زعيمًا للكتلة العلوية في الجيش -خلفًا للعقيد ناصر-، بالإضافة إلى زعامته لكتلة الحزب العسكرية.
مزقت السياسة والأيديولوجيا أسرة جديد العلوية:

كان الشقيق الأكبر والأوسط -غسان وفؤاد- منتميين إلى الحزب السوري القومي ذي الميول الفاشية المعادية للعروبة ولليسار، فيما كان شقيقهما الأصغر النقيب صلاح بعثِيًّا. وأذكر أن صلاح اعتقل على الشبهة العائلية. ثم أفرج عنه.
ذات يوم، فاجأني فؤاد -قائد فريق الاغتيال- بالوقوف أمامي في المقهى الذي أرتاده، ليقول لي: "ها أنا. بعد عشر سنوات، ما زلت حيًّا". فقد تذكر فؤاد الصحافي الذي غطى محاكمته. وواضح أن الذي أفرج عنه كان شقيقه "اللواء" صلاح جديد الذي أصبح رجل سوريا والبعث القوي في الستينات.
لم يكن غسان جديد محظوظًا كشقيقيه. نجا من المحاكمة. لكن لم ينج من الحكم. فقد لاحقته المخابرات السورية. وتمكنت من اغتياله في لبنان، فيما اغتال أبناء أحد الأسر الحموية القوية اللواء سامي الحناوي في بيروت، ثأرًا لمقتل أحد أبنائها.
وما زلت أعتقد أن الحناوي قتل لمجرد كونه قائد الانقلاب ضد المشير الزعيم، فيما كان بعض ضباط الانقلاب وراء إعدامه فعلاً. فقد كانوا مناصرين أو منتسبين للحزب السوري القومي. وروعهم إلى حد الفجيعة غدر الزعيم بأنطون سعادة، بتسليمه إلى السلطات اللبنانية المطلوب لديها. وقام نظام الرئيس بشارة الخوري بمحاكمته وإعدامه سريعًا (1949م).
القوة تستدعي القوة. الاغتيال يجر الاغتيال:
راح زعيم لبنان العروبي الكبير رياض الصلح ضحية إعدام سعادة. فقد اغتال رجال الحزب السوري القومي الرجل الكبير في عمان، حيث كان ضيفًا على صديقه الملك عبد الله الأول -الجد الأكبر للملك عبد الله الثاني-. وكان الصلح يشعر بالإحراج لإعدام سعادة، بعدما توسط لدى الزعيم بتسليمه إلى لبنان. كان يتوقع محاكمة عادلة له، وليس إعدامه بهذه السرعة.
بل كان اغتيال رياض في الأردن إحراجًا كبيرًا للعاهل الأردني. ومصدرًا لتشاؤمه. وبالفعل اغتيل الملك في العام التالي لاغتيال رياض (1951م)، وهو يهم بدخول المسجد الأقصى للصلاة فيه. لم يكن للحزب علاقة بقتله. كان الرصاص فلسطينيًّا. لأسباب تتعلق بإدارة الملك الأردني لحرب النكبة (1948م).
بعد هذا المسلسل الدامي، ألتقط الأنفاس، لأقول إن السياسة كانت وما زالت علاقة قوة في العالم العربي. لم يعرف العرب الحوار والتسوية السلمية طريقًا للممارسة السياسية. ظلت نظرية المؤامرة المكيافيلية أسلوبًا للتعامل السياسي. وتم التحول من الأيديولوجيات السياسية، إلى أيديولوجيات أضيق، بتسييس الدين، والطائفة، والمذهب، والعشيرة، بل والعائلة.
مع متابعتي الطويلة لمسيرة الطائفة العلوية نحو احتكار السلطة والسياسة، أقول: إن أبناءها لم يكونوا غرباء أصلاً عن العسكرية. ففي فقرهم وبؤسهم، شكلوا البنية الأساسية لـ"جيش المشرق" كجنود. وكانت سلطة الانتداب شكلت هذا الجيش، من أبناء الطوائف كلها، في سوريا ولبنان. ثم سلمته عند الاستقلال، ليكون بتركيبه الغريب نواة للجيشين الوطنيين في سوريا ولبنان.
في كلية حمص العسكرية، خَرَّجَت فرنسا ضباط "جيش المشرق" ليكون رديفًا لجيش الاحتلال. كانوا أيضًا من أبناء سوريا ولبنان. حالت "ديمقراطية دولة الطوائف" في لبنان دون حدوث الانقلابات. في سورية، شَكَّلَ ضباط "جيش المشرق" القيادات الكلاسيكية للجيش السوري التي عصفت، بانقلاباتها المدوية بين عامي 1949م و1961م، بالديمقراطية السورية الوليدة.
كانت ملاحقة سليمان المرشد الزعيم الروحي لعشيرة المرشديين العلوية، ثم محاكمته وإعدامه، أيضًا من أسباب الشعور بـ"الظلم السني" لدى العلويين، فيما كانت المحكمة برئاسة (المحامي والسياسي صبري العسلي -1947م- تشعر بأن التمرد المسلح للمرشد في جبال محافظة اللاذقية، يشكل تهديدًا خطيرًا لاستقلال سوريا، ووحدة شعبها.
منذ أوائل الستينات، تبدأ مرحلة جديدة في زحف الطائفة إلى السلطة: صراعاتها مع الطوائف الأخرى، منافساتها الداخلية بين فصائلها، وصولاً إلى الانتقال من حكم الطائفة في عهد الأب، إلى حكم العائلة في عهد الابن.
لهذا التاريخ الذي استغرق نحو خمسين سنة، قصة يجب أن تروى للأجيال السورية والعربية، ولا بدّ من استكمالها في حلقة أخرى في الثلاثاء المقبل، فهي الأهم والأكثر خطرًا على الحاضر والمستقبل.

المصدر: جريدة الشرق الأوسط

المصادر: