مزيداً من الثبات على الحق

الكاتب : محمد الغزالي
التاريخ : ١٥ ٢٠١٢ م

المشاهدات : 2692


مزيداً من الثبات على الحق

تشريف الإسلام للعرب حقيقة تاريخية وحضارية لا يماري فيها عاقل، فقد كانوا قبل امتنان الله عليهم برسالته أمة منقوصة القدر، مهيضة الجناح، ليس لها في مجال التفوق العالمي أثر يذكر.

 


فلما قادها محمد - صلى الله عليه وسلم - على الطريق المستقيم، ورفع مستواها الروحي والعقلي وعرَّفها: ما الكتاب والإيمان؟ تحولت برسالته الكبرى إلى أمة أخرى، تقود ولا تقاد، وتعطي ولا تأخذ.
وارتقت من مكانة التابع الذي يتلقى فضلات الآخرين إلى مكان المتبوع الذي يرجى خيره، ويلتمس رضاه...!
ولسنا نزعم أن الإسلام ثورة عربية، أو نهضة قومية، كلا، فهو رسالة عالمية شاملة يتآخى فيها أبناء آدم قاطبة، وتيسر لكل إنسان في القارات المعمورة زكاة نفسه، وسمو خلقه، واستقامة فكره، في ظل علامة وطيدة بالله وتعاليمه!
ولكن لا ريب أن العرب باصطفائهم لهذه الرسالة، وتشرف لسانهم بآيات الكتاب، ومنطق النبوة... ثم بجهاد الأصحاب والتابعين من أسلافهم لنشر الدين ودفع العدوان عنه لا شك أن الإسلام يبوئهم مكانة ممتازة، ويوفر لهم أستاذية مرموقة يجب أن يكونوا أهلاً لها، وأن يستعدوا مادياً وأدبياً لحمل أعبائها...
فهل وعى العرب كلهم هذه الحقيقة الاجتماعية؟
لا للأسف، فإن منهم في القديم والحديث من انتصب سداً منيعاً أمام سير الإسلام وزحف قافلته إلى الأمام!!
وإن منهم من بذل النفس والنفيس ليطفأ نور الله ويحول بين العرب وبين اعتناق هذه الرسالة والتجاوب مع أهدافها... وما درى أولئك الغافلون أنهم بذلك يهدمون مجدهم، ويضللون قومهم، ويغضبون ربهم، ويخسرون دنياهم وآخرتهم..
وفي محاولة هؤلاء ثني الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أداء واجبه بقوله الله - تعالى -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخرف: 44].
وكم بسط هؤلاء الناس ألسنتهم وأيديهم بالأذى ضد الإسلام ومعتنقيه يريدون فضهم عنه وتنفيرهم منه.
وما كان تهجمهم عليه وليد فكر ثاقب، ولا رأي ناقد، إنه التقليد الأعمى، مهما تضمن من حق وخير.
ثم يأخذ هذا الصدود طريقه في الحياة غمزاً واستهانة.
والواقع أن الطعن في قيم الدعوات عند نشأتها، وبعد مسيرتها، دَأبْ عِداتها والمعارضين لها في كل زمان ومكان، وربما نما هذا الخصام فأمسى تهجماً يحرج الصدور، ويجعل أتباع الحق يشقون بتكاليفه ويؤودهم حمله.
ولا سبيل أمام المؤمنين إلا الاعتصام بحبل الله - تعالى - والتشبث بحقائق الرسالة، والاستجابة المطلقة الواثقة لقوله- جل شأنه-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخرف: 43 ـ 44].
وأحب أن أقف وقفة قصيرة عند هاتين الآيتين:
لقد كان عبدة الأصنام في مكة وما حولها يحسبون أن أتباع الإسلام سوف يفقد أم القرى مكانتها: وماذا يبقى لها بعد أن تهدم الأصنام، وتنقطع القرابين والنذور، وتتلاشى الرياسة الدينية المنوطة ببقاء الجاهلية؟؟
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا...} [القصص: 57].
وما درى أولئك القاصرون أن دخولهم في الإسلام سيتيح لهم مكانة أسمى، وأن مجدهم في خدمة الحق أفضل من السراب الذي يلحقهم من خدمة الباطل.
وأين مكة عاصمة الوثنية المخرفة من مكة منارة الهدى؟ ومنبع الوحي، وقبلة الأمم في المشارق والمغارب؟
وأين مكانة العرب السارحين وراء قطعان الجمال: الحمالين لألوان السلع والبضائع، من مكانة العرب الذين صوَّروا للناس مثلهم العليا، وصدَّروا لهم عقائد الحق والخير، وتفجرت تحت أقدامهم ينابيع الرزق؟
إن الإسلام للعرب شرف ونعمة...
والغريب أن الوساوس التي هجست في أفئدة الجاهلين الأقدمين لا تزال تتردد في بعض الأفئدة الشاكة، وتسطرها دون حياء أقلام ارتدت على الإسلام وكفرت بشرائعه.
وماذا يبغي هؤلاء؟ إنهم يريدون أن يخلع العرب لباس التقوى، ويرفضوا البقاء على الدين الذي أتم الله به النعمة وكفل به النصر والمنعة... وتدبر قول السيد محمود الشرقاوي في عرض تعليقه على سيرة المجاهد الإسلامي الضخم جمال الدين الأفغاني: "كانت دعوة جمال الدين لإحياء دولة الخلافة دعوة ساذجة بعيدة عن إدراك التاريخ!
وكان إصراره على إقامة دولة إسلامية دعوة عاطفية ممعنة في الخطأ والضلال (كذا) وإدراك مغزى الثورات الكبرى وأماني الحياة الإنسانية. فالدولة الدينية -هكذا يقول الكاتب- أين ومتى كانت، لا يمكن أن يقوم بها إنسان عنده إدراك، وسداد، وفهم، وحرية وضمير!! الله الله، ولسنا بذلك نعيب جمال الدين، إننا نزن آراءه وأعماله ونقومها التقويم العلمي والتاريخي!!
ولكن لماذا أمعن جمال الدين في الخطأ والضلال ـ حسب تعبير الكاتب العظيم ـ يقول حضرته: مردُّ هذه الأخطاء، في إحياء الخلافة الإسلامية، هو عمق إيمانه بالإسلام، وحرصه على أمجاد الخلافة العريقة...".
هذا هو الدافع لاقتراف ذلك المنكر الكبير!! إن عمق الإيمان بالإسلام جرم شنيع! والغريب أن الشيخ محمود الشرقاوي مؤلف هذا المقال من علماء الأزهر؟!!!
والأغرب أن الأزهر يعجز عجزاً تاماً عن مؤاخذة أي مرتد من حملة إجازاته العلمية. والأشد غرابة أن كل معلول في فكره مختل في وزنه للأمور وحكمه على الأشياء، لا يجد مسرحاً لعلله وخلله إلا الإسلام ينال منه كيف شاء!!
ولو كان هذا الكلام والعرب في إقبال من أمرهم وانتصار على عدوهم لقلنا في صاحبه: مفتون فاته التأديب، أما والعرب معركة بقاء أو فناء وخصومهم يستظهرون بأديانهم في كسر شوكتنا، وضرب أمتنا، فإن تلك المقالات قرة عين لبني إسرائيل الذين أقاموا دولة دينية تستهدف محق رسالتنا ووجودنا وتاريخنا الماضي والآتي على سواء...
إن العرب لا يستغنون عن آية واحدة من كتاب ربهم، وهم في الآونة العصيبة التي يجتازونها أحوج أهل الأرض لمن يربطهم بكل دقيق وجليل من رسالتهم، وإني ـ إذ أسمع طنين الباطل هنا وهناك ـ أهيب بكل مسلم أن يعدَّ هذا الأمر الإلهي خطاباً خاصاً به، وهو قوله -جل جلاله-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزُّخرف: 43].
لقد كان جمال الدين الأفغاني وتيودور هرتزل متعاصرين، فأما الأول فهو مجاهد يصدع بتعاليم الإسلام الصحيح، رأى دولة مريضة، ورأى ذئاب الأرض تتهيَّأ لتنهش لحمها، تبتلع كيانها، وأما الآخر فقد رأى الفرصة سانحة ليخلق من العدم دولة، ومن الوهم كياناً، وكانت اليهودية رؤى العهد القديم هي الدعائم التي بنى عليها أمله الهائل...
وأما هرتزل فنحن اليوم نعاني المرَّ من غرسه.
والسبب في فشل جمال الدين وعجزه عن بلوغ غايته: أن الاستعمار الفكري استطاع خلق عدد كبير من أمثال هذا الشرقاوي التافه، يكره الإسلام، ويرى عمق الإيمان به تهمة تشين صاحبها!!
لقد وصف لنا القرآن الكريم أعداء الحق وصفاً يستحق التدبر، فهناك ناس يسخطون على الله ويمقتون وحيه، ويأبون رؤيته نافذاً على الأرض، وهؤلاء حيث قالوا أو فعلوا شؤم على أنفسهم وعلى الناس كافة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8 -9].
وهناك أذناب لهؤلاء، أو أبواق تُردِّد دعاواهم وتصدق إفكهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 26-27].
وزباينة الغزو الثقافي من وراء الحدود، وسماسرته الصغار بين ظهراني العرب، هم أول من ينطبق عليهم هذا الهدي القرآني المبين...!!
وآثام الفراغ الروحي والضياع الخلقي التي يشكو منها المصلحون هي النتيجة الحتمية لهذا الغزو الخبيث، وهي كذلك العلة الأولى لما أصاب العرب من هزائم متتابعة.
ومن هنا كانت نقمتنا على الأقلام التي توهن علاقتنا بالإسلام، وتهاجمه عقيدة تارة وشريعة تارة أخرى. ومن هنا انبعثت صيحاتنا تنبه المؤمنين إلى ما يُبيَّت لهم.
إذا احتوت قبضتك على شيء نفيس فحاول اللصوص انتزاعه منك قسراً، ثم أصَخْتَ إلى صوت الحارس المؤنس يهتف بك، استمسك بما معك، فمعنى ذلك شدد قبضتك، وركز قوتك، وقاوم عداتك، وإياك إياك أن تتراخى أو تفرط.
وكذلك تنطق آيات الله إلى أفئدة عباده، ففي ضمير كل مؤمن هاتف يصرخ في أعماقه كلما تكاثرت الفتن وحيكت المؤامرات، وانتشر لصوص العقائد وسراق المبادئ؛ يقول: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزُّخرف: 43].
نعم، نحن على الصراط المستقيم: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى.... } [لقمان: 22]. والعرب الذين يحملون رسالة الإسلام وتتعلق بها جمهرتهم العظمى، لا يحملون خرافات ولا أوهاماً كما يزعم الأفاكون، وإنما يحملون في لغتهم خلاصات الوحي الإلهي من الأزل إلى الأبد.
فإذا ضاع هذا التراث بقي العالم كياناً فاقد الرشد ضائع الخير، وسارت الإنسانية وهي قطعان عاوية جافية مهما تقدمت معارفها وتطورت علومها...!!
ومهما بذل العملاء لتشويه سمعة الإسلام وتجريح حقائقه فلن ينالوا خيراً، ولن يدركوا هدفاً، والله غالب على أمره.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: رابطة العلماء السوريين. نقلاً من: مجلة لواء الإسلام العدد الثالث ذي القعدة 1389السنة 24.  

المصادر: