كيف نعيش أحلامنا؟ دروس في مدرسة يوسف عليه السلام

الكاتب : ياسين جمول
التاريخ : ٢١ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 6005


كيف نعيش أحلامنا؟ دروس في مدرسة يوسف عليه السلام

تَطرقُك الرُّؤيا تحبُّها وأنت في برزخ النوم؛ فتُمسكها حين تصحو لا تدري كيف تفعل بها:

أمسكها في نفسي أم أبثُّها فيُفرَح لفرحي؟

قد يكون؛ لكنّ آخرين قد يغضبون لفرحي! أو قد يحسدونني حتى وإن هو (حُلم) ليس إلا!

{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}

فهذه أول مادة في دستور الرُّؤى: أمسِك عليك أحلامك ورُؤاك؛ فليس كل ما تحلم به يصلح للنشر، بل قد يكون أقرب الناس عليك في أحلامك وطموحاتك؛ فلا تتسرّع في نشرها لأن الكيد قد يبدأ وحُلمك ما زال في المهد.

ولكن! لا تُبطل أحلامك، ولا تكفَّ عن الرؤيا والطموح؛ بل اعرف لمن تبثُّها، وادخل بها الحاضنة حتى تراها تتحقق لك ولمن ترى يوماً.

فإن التبس عليك بعض حُلمك، وغمضت عليك بعض جوانب رؤياك فلا بأس أن تُشاور؛ ولكن اعرف مَن تسأل لأنها أول محطة تصلها إشارتك؛ فإن أحسن تأويلها وتبيانها لك أكملت، وإلا فقد يقلبها عليك إن لم يكن (يعقوب)!

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}: ما دمتَ صاحب طموح وأحلام فإنك مُبتلَى، ولعل بلاءَك يكون من أقرب الناس إليك؛ وإن تفاوتت عداوتهم لك، لكنهم متفقون على تحطيمك، ولن يدّخروا جهداً للنيل منك، ولا يهمهم في ذلك حقّاً كان أو باطلاً؛ فالغاية عندهم تبرّر الوسيلة، ولا غاية لهم أسمى من تحطيم أحلامك ورُؤاك {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}؛ فإن وقع المحذور واستطاعوا النيل منك فاستعنْ بالله ولا تعجزْ، وتصبَّرْ فإنَّ العاقبة لك؛ ولابد أن ترى أحلامك تتحقق!

فلا تدري لعل منحةً تتستر لك في حنايا المحنة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فطريق الأحلام ليست قصيرة هيّنة، بل لعلها من أصعب الطرق وأشقاها، ولو أن كل مَن رأى رؤيا قام فوجدها بين يدَيه لَبطل التوكل والأخذ بالأسباب؛ فلابد أن تبدأ الطريق نحو أحلامك وطموحاتك، وتشدّ المئزر لتتغلب على الأهوال والمصاعب التي ستعترض طريقك عن اليمين والشمال!

وكن دائماً مستعدّاً نفسياً وجسدياً لشتى أنواع البلاء، فقد يأتيك بلاء من حيث تحسب أنها نعيم؛ فتقذف بنفسك في البحر – على خطورته – لتنجو، فأنت موقن أن ربَّك يهيِّئ لك الأسباب لتنجو، بل لعل البلاء الجديد يكون مدرسة جديدة لك في طريق أحلامك؛ لكنْ عليك أن تنتبه حيث ترمي بنفسك وترتمي وأنت في طريق الهرب من البلاء الذي يعصف بك؛ وليكن قلبك على الدوام متعلّقاً بالله فهو الذي يرفع البلوى، فافزع إليه أول ما تفزع {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}، وقد يكشف الله للطاعنين فيك قطّاع الطريق على أحلامك وطموحاتك، فيرَوا الأدلة على براءتك؛ لكنهم يستكبرون ويصرّون على النيل منك {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}!

لا تنسَ أنك ما زلت في طريق أحلامك، لكنها مدرسة الإعداد لترتقي فتنالها؛ فهي سامية رفيعة، فتنتقل بين البلايا والمِحن، لكنك أبداً تحفظ نفسك وهويتك، ولا تضيع بوصلتك أبداً، وتبقى في كل مكان تُقذف فيه على العهد الذي بدأت حياتك الخيّرة به {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. فلا تثبت على مبادئك وحسب؛ بل اعمل على تغيير الوسط الذي تكون فيه لأنها تدريب لك كيف تكون حينما ترتقي وتبلغ أهدافك {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ فصناعة المحيط الجيد يريحك ويساعدك على الصبر أكثر!

فقد يتهيَّأ لك من الأنصار الذي حولك مَن ينهضون معك ويعرفون قدرك، فتصير لهم مرجعاً في كل ما يعترضهم بعد أن عرفوا منك القدوة الحسنة {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}.

هنا ستبدأ مصداقيتك بالارتفاع ويُشتهر صدقُك بين الناس، فتخرج من البلاءات لتبدأ تتلمّس الطريقَ إلى أحلامك من جديد؛ لكنك قد تكون في أرض غير أرضك، ومع أناس ليسوا من أهلك، لكنها أحلامك تتحقق وإنْ في البعيد والغُربة {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}؛ فلا تتردد في الأخذ بفرصةٍ تعرض لك، بل ابدأ طريق أحلامك وطموحاتك {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}؛ فهي التي تقرّبك من كل بعيد وتُدنيك من أحبابك، لأنك أحسنتَ مع ربّك، ولن يخزيك الله وأنت معه، ففي نهاية المحنة تبدأ أنوار المحنة تتلألأ عليك {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}؛ فهي قاعدة ربّانية وسنّة كونية شرعية خالدة: {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فقد أحسنتَ في بثّ أحلامك ورُؤاك، وأحسنتَ في كل بلاء نزل بك تمهيداً لبلوغ أحلامك وتحقيق أمانيك، ولم تتنازل عن هويتك؛ بل جهرتَ بها ودعوتَ مَن حولك إلى الحق، فكان لك مجتمع جديد في مَهجرك من الأنصار، لتبدأ بينهم طريق الأحلام وتحقيق الطموحات وتنفيذ الرُّؤى!

وما مضى من أبواب وجدتها يوماً قد أُغلقت في وجهك ستبدأ تتفتّح لك، فقد ملكتَ مفتاح النجاح، وأدركت التأهُّل لنهائي طريق الأحلام، وسيأتيك كل مَن نالَ منك يوماً، ترميهم الحاجة نحوك {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}؛ وهم الذين كانوا يظنّون فلاحَهم ونجاحهم في الخلاص منك وتحطيمك، فبقوا في تعاستهم وازدادوا فاقةً وذلّاً، فيأتونك وأنت في حالٍ قد تلتبس عليهم، فلا يعرفونك لواسع فضل الله عليك!

لكنك في مرتفعات النزاهة والتقوى، فلا تنحطّ لدركات الانتقام والتشفّي وقد ارتقيت في درجات الصلاح، فلا تزيد على تربيتهم بحِلم وأناة، ليعرفوك وقد أنكروك؛ ولكن!

لا تستعجل بما تراه عليهم من فاقة وذِلّة تحسبها فيئةً للحق، فطولُ الأمد في الباطل يطمس على البصيرة، وقد تجدهم وهم في أشد البلاء يزدادون افتراءً وباطلاً {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}، فاكتمْها وأكملْ في تأديبهم وتربيتهم، ولا تنشغل بهم عن تحقيق أحلامك {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}؛ فصبرُك عليهم خيرٌ لك ولهم، فقد يرجعون إلى أنفسهم فيقفون للصدق معها ساعةً، ويعرفون ما سبق لهم في الظلم وقطع الطريق وتخريب الطموحات وسرقة الأحلام {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.

ولا تأخذك الغُربة فتغيب عن أرضك حيث نبتت أحلامك، فسيبقى هناك في انتظارك مَن يؤمن بك وبأحلامك، فإن كنتَ في شدّة لتأخُّر أحلامك عليك فأحبَّتُك الذين ينتظرونك في بلاءٍ أشدَّ؛ فهم بين ألم فراقك وألم تأخُّر أحلامك وطموحاتك، لكنهم لم ييأسوا من رَوح الله وصبروا حتى ترجع إليهم وقد حققتَ ما تصبو إليه {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.

وأمّا أولئك الظالمون فمصيرُهم أن يرجعوا إليك وأنت في عَليائك، فيعرفوا أنك ارتقيت فوقهم درجات بالصبر والإيمان، فنلتَ ما عجزوا عنه لأنهم ليسوا أهلاً له {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}، فيعترفوا بالخطأ والتقصير، وتبقى أنت على مبادئك منشغلاً بما ينفعك لأنك تقترب من تمام أحلامك وتحقُّق أهدافك {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

إنه النصر الإلهي الموعود؛ انتصرتَ على مخاوفك وكل المصاعب في طريقك، وانتصرتَ على نفسك فتنزّهتَ عن الانتقام لشخصك، فانتصرتْ أحلامُك وتحققتْ رُؤياك.

ولن يفرح أحد بنجاحك فرحَ أولئك الذين صبروا على فراقك وانتظروا نجاحك، فالأمل لم يخمد في نفوسهم يوماً في عودتك منتصراً إليهم؛ لم يُطفئه إرجاف المرجفين ولا كلام المفترين ودعاوى المبطِلين {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

ستجتمع مع أحبابك في يوم نصرك؛ لتعلو بهم في فرحٍ ينسيهم الآلام التي أكلت قلوبهم، وتنسى معهم ما مررتَ به من المحن والابتلاءات حتى خلصت لتحقيق أحلامك وإنجاز موعود الله لك {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}.

فيزول الهمّ والتعب وأنت ترى أحلامك حقيقةً، وأهدافك واقعاً بين يدَي الناس؛ فهذا ما ندعو الناس إليه على بصيرة حتى يعيشوا أحلامهم، فهي وإن تأخرت فلحكمة يريدها الله لخيرٍ يريد لك أن تدركه ولسرٍّ عليك أن تفهمه، لكنها مهما تأخرت وحُجبت عنك فإنها ستتحقق ما دمتَ على إحسانك {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.

لم يقصّ الله تعالى علينا قصة يوسف عليه السلام خبراً من أخبار المرسلين فحسب؛ بل كما هي قصص القرآن الكريم جاءت للعبرة والموعظة، فختمَ رحلةَ يوسف في عيشِه الحُلم الذي ابتدأ به حياته طفلاً، حتى تحقق له وهو في مدارج الرجولة والنبوّة بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.

المصادر: