"البعث".. خطة الأسد للعودة إلى الحكم؟

الكاتب : محمود عثمان
التاريخ : ١٤ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2111


وسط متغيرات تضع الملف السوري على أعتاب حلّ سياسي محتمل، وفق سيناريوهات متعددة خاضعة لتوافقات الفاعلين الدوليين والإقليميين، ترتفع وتيرة التوقعات برحيل بشار الأسد عن السلطة.

رحيل يدعمه ما يشكله الأسد من عبء على حلفائه الدوليين، الروس تحديدًا، والذين لطالما وجهوا له تهمة الغباء والعناد، فيما تشير تسريبات الأحاديث الداخلية للقيادات الروسية من الصف الثاني أنهم لا ينظرون إليه إلا باعتباره لاعب "بلاي ستيشن"، وبالتالي فإن سقوطه لن يعطّل سوى تلك اللعبة.

لكن ورغم هشاشة وضع الأسد، إلا أن مراقبين يحذرون من إمكانية لعبه بورقة حزب "البعث العربي الاشتراكي" الحاكم بمناطق النظام، ليكون خطته البديلة للعودة إلى الحكم.

حزب البعث.. تاريخ من الصراعات

على مدى 73 عاماً من تأسيسه، تبدو حالة الحزب قاتمة وتزداد الصورة قتامة عندما يعكف الباحث على دراسة صراعات الحزب الداخلية وأزماته مع القوى السياسية الأخرى، وتناقضاته عندما أحكم قبضته على السلطة منذ عام 1963.
تأسس الحزب في السابع من إبريل/نيسان عام 1947، ولكنه اكتسب اسمه الراهن باندماج حزبي البعث العربي (ميشيل عفلق، صلاح البيطار، وزكي الأرسوزي) والعربي الاشتراكي (أكرم الحوراني) عام 1952.

ولم يَدُم هذا الاندماج سوى عشر سنوات، حيث عادا للانشطار، وتحول الحوراني معارضاً للنظام بعد خلافه مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وتأييده انفصال سورية عن مصر عام 1961، وقد سجن وأُبعد إلى أن توفي في المنفى في عمَّان عام 1996.

أما مؤسسا البعث الآخران، فقد اغتيل البيطار على يد نظام حافظ الأسد في باريس عام 1980 بعد أن أعلن مجاهرته بالعداء لنظامه وإصداره مجلة "الإحياء العربي" في 1978، والتي كانت تنتقد حكم الأسد بقوة، فيما توفي مؤسس الحزب الأبرز ميشيل عفلق في بغداد عام 1989 بعد أن انحاز لحكم البعث في العراق.

وتعكس أزمات الاعتقال والنفي والاغتيال وجهاً آخر من صراعات حزب البعث الداخلية، ومنها ما عُرف بالصراع بين اللجنة المدنية التي كانت تمثل الإطار التنظيمي المدني للحزب وتضم النخبة السياسية، واللجنة العسكرية التي أسسها حافظ الأسد (1930 - 2000) إبان إرساله للتدريب في القاهرة زمن الوحدة مع مصر (1958 - 1961)، وتضم مجموعة الضباط العسكريين.

وحُسم الصراع لصالح العسكر بقيادة حافظ الأسد وصلاح جديد (1926 - 1993) بانقلاب الثامن من آذار 1963، والذي تبعته سلسلة نزاعات دموية انتهت بحركة 16 تشرين ثاني 1970 بقيادة حافظ الأسد، حيث اعتقل جديد وبقي في السجن إلى حين وفاته في 19 أغسطس/ آب 1993، كما اعتقل قادة البعث من خصوم الأسد.

بعد 1970.. تغلغل بمفاصل الحكم

يمثل العام المذكور منعطفاً مهماً في مسار حزب البعث في سوريا، حيث شهد سيطرة المجموعة العسكرية على قرار الحزب وتصفية القادة السياسيين أو نفيهم إلى الخارج.

وتلاه في شهر تشرين ثاني من ذلك العام، الانقلاب داخل المجموعة العسكرية نفسها، وهيمنة حافظ الأسد على الدولة والحزب وسجن خصومه وفي مقدمتهم صلاح جديد، وتصفية آخرين، وإصداره عام 1973 دستوراً قوبل برفض شعبي.

وإجمالا، يمكن تلخيص مسار حزب البعث منذ 1970 وحتى رحيل الأسد الأب عام 2000 في النقاط التالية:

1- خضوع مؤسسات الحزب القيادية لهيمنة الأجهزة الأمنية، وتحول عناصر الحزب إلى أدوات لرصد الخصوم والإبلاغ عنهم، مقابل حصولهم على امتيازات ومكاسب مالية أو مناصب.

2- شلل المؤسسات القيادية، مثل القيادة القومية (تضم ممثلي فروع الحزب خارج سورية)، والقيادة القطرية (تضم ممثلي الحزب في سورية) لحساب رئيس الحزب، وهو رئيس الدولة وقائد الجيش، وقد حول الأسد الأب الحزب إلى أداة ضاربة له في وجه خصومه، كما استخدم واجهة مدنية للهيمنة العسكرية والأمنية التي كان يتولاها ضباط علويون يدينون بالولاء للأسد.

ولعبت عناصر الحزب ممن جرى تسليحهم وتنظيمهم في مجموعات خاصة، دوراً مهماً في التصدي للمعارضة الإسلامية في احتجاجات وقعت بين عامي 1980 - 1982، وانتهت بوقوع مجزرة مروِّعة في مدينة حماة.

3- شكل حزب البعث مع أحزاب اليسار والحزب الشيوعي عام 1972 الجبهة الوطنية التقدمية، والتي لم يكن لها أي دور في صناعة قرار الدولة، ولكنها غدت واجهة سياسية يتذرع من خلالها النظام بوجود تعددية سياسية في سورية.

4- استخدم الحزب "القيادة القومية" وسيلة لكسب مؤيدين للنظام في الدول العربية التي ينشط فيها، مثل لبنان، الأردن، اليمن، تونس، والسودان، إضافة إلى إقامة روابط مع الأحزاب الاشتراكية الأممية، وقد ساعده ذلك في تبرير صراعاته وتناقضاته.

5- تعتبر الفترة بين عامي 1970 - 2000 مرحلة الانحسار الفكري للحزب، حيث خَلَت صفوفه من أي منظرين لامعين أمكنهم تجديد رؤى الحزب الفكرية، وانصهر ضمن أجهزة الدولة وباتَ أداة بيدها، وهو الأمر الذي جعل الحزب بلا مُنتج فكري، واتسمت سُمعته بالسلبية.
وجعل ذلك الحزب قلقاً إلى درجة كبيرة من أي منافسة حزبية جدية في ظل نظام تعددي كانت ترتفع المطالَب الشعبية به بعد وفاة الأسد الأب.

مستقبل غامض

شكلت وفاة حافظ الأسد صدمة قوية لحزب البعث، نظراً لأن جميع الخيوط كانت بيده وتُدار بشكل غامض، وجاء استلام نجله بشار دُفة القيادة في الحزب والدولة، عنصراً آخر لأزمة القيادة.
ويُنظر لبشار الذي كان حديث السنِّ (34 عاماً في حينه)، على أنه قادم من خارج التسلسل القيادي، ولذا كان من الطبيعي أن يعمد إلى تهميش قيادات الحزب التي رافقت والده وساعدته على الإمساك بالسلطة، بل ساهمت في إيصال بشار وتمكينه من القيادة.

واستلم بشار السلطة بدعم أمريكي، عقب لقائه الخاص مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت في 13 يونيو/ حزيران 2000، حيث قالت الأخيرة حينها: "لمستُ بوادر مشجعة جداً إزاء رغبته (بشار) في اتباع نهج والده، الذي اتخذ قراراً استراتيجياً لصالح السلام" في الشرق الأوسط، مضيفة: "يبدو أن بشار يتمتع بتصميم كبير على ما يبدو ومستعد لإتمام واجبه".

وشهدت تلك الفترة استمراراً في انحسار منظومة الحزب لحساب تغوُّل الأجهزة الأمنية التي شرعت في التصدي لحراك تمثل في لجان إحياء المجتمع المدني مع بداية عهد بشار الأسد، ثم إعلان دمشق في 2005 الذي ضمَّ أهم قوى المعارضة السياسية بمختلف اتجاهاتها.

ومثَّل ذلك تحدياً مباشراً للنظام ولحزب البعث، وأدى إلى تهيئة البيئة لانخراط سورية في موجة الربيع العربي في مارس/ آذار 2011 بمشاركة شعبية وسياسية غير مسبوقة في ظل القمع المعروف للنظام.

وخلال سنوات "الربيع السوري"، منذ 2011 وحتى الآن، شهد حزب البعث انشقاقات كبيرة في صفوفه، وخاصة ضمن قاعدته السُّنية، وانحاز عشرات الآلاف من عناصر الحزب لصفوف الجماهير معلنين انضمامهم لما عُرف بـ"ثورة الحرية والكرامة".

ومن الواضح أن ذلك عكس هشاشة البنية الداخلية التنظيمية للحزب من ناحية، وافتقاره لبنية فكرية متماسكة تناسب المرحلة، وتجيب على التساؤلات المطروحة، وتُعطي تفسيراً للتحديات التي أخفق النظام في التصدي لها بعد نحو نصف قرن من استلامه السلطة منفرداً في سوريا.

المعارضة السياسية

يدرك داعمو نظام الأسد، روسيا وإيران، أهمية إعادة هيكلة الحزب وتنظيمه وضبط صفوفه، وضرورة إعادة تفعيل دوره في الشارع السوري الموالي، تحسباً لمختلف مآلات الحل السياسي في سورية، حتى في ظل سيناريو رحيل الأسد.

ويسعى نظام الأسد إلى دفع حزب البعث للعب دور أكثر فاعلية، كواجهة مدنية تقدم المساعدات والخدمات للمواطنين، من أجل الاستفادة مما تبقى منه، في ظل غياب تام لأي كتلة مدنية منظمة أخرى، بسبب القمع الذي مارسه نظام الأسد ضد أي تجمع مدني أو حزبي أو سياسي.

ويدرك نظام الأسد خطورة المرحلة الحالية، ويبدي استعداداً للتماهي مع مرحلة الانتقال السياسي وفق السيناريوهات المطروحة للتغيير في سورية، من خلال تفعيل دور الحزب، واللعب بورقته كخطة بديلة للعودة بواسطته وعن طريقه للحكم من النافذة، بعد أن يكون قد طرد منها من الباب.

ولذلك يتوجب على المعارضة السياسية السورية أن تدرك مآلات الحل السياسي في سوريا، فقد يبرز حزب البعث أمامها منافساً سياسياً لا يُستهان به.

لكن، ورغم ذلك، فإن الطريق ليس معبدا أمام الحزب، فهناك تحديات كبيرة يواجهها كونه مرتبط ارتباطا جذرياً بنظام الأسد، وفي حال زوال الأخير أو انتهاء قبضته الأمنية، فإن الحزب سيكون معرضاً للانحسار أو الانتهاء، كما حصل في العراق.

ومن هنا يعتبر الحزب في نسخته الراهنة حزب مصالح لا حزب أيدلوجيا وأفكار، وأداة للإمساك بالسلطة وليس جسراً للعبور نحوها، كما هو الحال في النظم الديمقراطية التي تعتبر الانتخابات وسيلة التجدد للأحزاب والامتحان المستمر لكفاءتها.

المصادر:

الأناضول