حسابات الفصائل السورية في معركة إدلب التركية

الكاتب : حمزة المصطفى
التاريخ : ١٧ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2026


حسابات الفصائل السورية في معركة إدلب التركية

بعد اندلاع الثورة/ الحرب السوريّة اتخذت كل من موسكو وأنقرة مواقف واضحة تجاه طرفي الصراع. وفرت روسيا دعما سياسيًا يمنح النظام غطاء دوليًا ضد أي إجراء دولي رادع لجرائمه، قبل أن تتدخل عسكريّا عند اهتزاز بنيانه وانحلال جيشه، وتقود بنفسها المعركة ضد إرادة السوريين. حاولت تركيا، بداية، إقناع النظام بالإصلاح، ثم تبنت إسقاطه، ودعمت المعارضة سياسيًا قبل الانتقال إلى مرحلة التحالف العسكري مع فصائل بعينها، واستخدامها في حروبٍ، تؤثر مدخلاتها في الداخل التركي أكثر من امتداداتها السورية.

 

تراكم الخيبات
بخلاف النظام السوري، المنتشي بانتصاراته العسكرية، وبوفاء حلفائه في التزاماتهم بدعمه وتثبيته، اجتاحت الخيبة أوساطا كبيرة من السوريين المعارضين، سواء من أصدقائهم العرب الذين تخلوا عنهم بعد التدخل الروسي عام 2015 والغربيين الذين لم يقدّموا لهم إلا الدعم الكلامي. في منزلةٍ بين المنزلتين، تفاوت تقييم مواقف أنقرة بين من يركّز إيجابيا على ما قدّمته من دعم سخي لثلاثة ملايين لاجئ أقفلت أمامهم حدود الدول، وآراء مستاءة من المقاربة البراغماتية التركية للقضية السوريّة، خصوصا بعد تجرؤ أنقرة، بمشاركة فصائل سورية، على القيام بعملياتٍ عسكرية تخص أمنها القومي وحساباتها الداخلية. وقد بقيت الأمور على حالها بين مؤيد ومعارض، حتى بدأت روسيا بالانقلاب تدريجيا على تفاهمات أستانة واتفاقيات خفض التصعيد التي وقعتها مع تركيا في مايو/ أيار 2017، وحدّدت أربع مناطق لوقف إطلاق النار: جنوبية تشمل درعا والقنيطرة، وعاصمية في الغوطة الشرقية، ووسطى في الرستن وريف حمص الشمالي، وشمالية غربية في حماة وإدلب واللاذقية. المفارقة بمكان أن العلاقات التركية الروسية، وبدل أن تتأثر بالخروق المتعاقبة، والتي انتهت بسيطرة النظام السوري، مدعوما بالقصف الروسي على مدينة درعا، مهد الثورة السورية عام 2018، والغوطة وجنوبي دمشق بعد هجوم بالأسلحة الكيماوية في إبريل/ نيسان 2019، والرستن في يوليو/ تموز 2019، شهدت علاقات البلدين تحسّنا مطردا، تجاوز تفاهمات سورية إلى منظومة الصواريخ أس 400، وأنابيب الغاز، ورعاية محادثات السلام في ليبيا. ولم تخل المناورات الدبلوماسية التركية من تصرّفات إشكالية، منحت الجيش الروسي وجودا ونفوذا مجانيا في منطقة شرقي الفرات بعد عملية "نبع السلام" أخيرا. وبناء عليه، بدأت أسئلة سورية عدة تطرح عن مغزى التحالف مع تركيا، في ضوء اهتمام الأخيرة بمصالحها وإهمالها مصالح المعارضة السورية وشرعية وجودها مقاومة مسلحة.


علاقة ملتبسة مع الفصائل
لم تقدم أنقرة دعمًا عسكريًا وماديًا كبيرًا للمعارضة السوريّة المسلحة خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الحرب السوريّة. كانت، باختصار، ممرا أساسيًا للمساعدات العسكرية التي قدمتها دول خليجية عدة، ومقرا لتنظيم تدفق السلاح إلى فصائل بعينها، بالتعاون مع الولايات المتحدة، ضمن ما عرف بغرفة الموم (MOM). بموازة ذلك، كان البعد الاستخباراتي هو المحدد الأهم لعلاقة تركيا مع الفصائل السورية المسلحة، وصل تأثيره إلى حد التحكّم بإغلاق المعارك أو فتحها، بالإضافة إلى توجيه الدعم المسلح والإنساني وحجبه. ولكن الحال تغير بعد معركة إدلب في 2015، إذ بدأت أنقرة تكثف دعمها الفصائل السوريّة، وفق نهج انتقائيّ جعل "فيلق الشام" الوجهة الأبرز لهذا الدعم. ولكن الاندفاع التركي للتأثير عسكريّا في حسم مسار الحرب السوريّة اصطدم بالتدخل العسكريّ الروسي، والحملة العسكرية المضادة على حلب التي انتهت بسقوط المدينة نهاية 2016.
كان لخسارة حلب وقعها الرمزي على المعارضة السورية، بوصفها نقطة البداية في مسار هزائمها المتتاليّة، والتي انتقلت من الميدان إلى المفاوضات السياسية. أنشئ مسار أستانة بديلا عن مفاوضات جنيف ومرجعيته، واضطلعت روسيا وإيران وتركيا بدور الضامن بديلا عن الأمم المتحدة. تعهدت أنقرة بإحضار المعارضة، وإجبار فصائلها على تنفيذ التفاهمات المؤقتة عن مسار لم ينته من الجولات. عوقب الرافضون، بما فيهم الصامتون، كأحرار الشام، وحرموا من دعمٍ لا يأتي إلا عبر البوابة التركيّة. حتى بعد انصياعها على مستوى الخطاب والسلوك للمتطلبات التركيّة، وإرسالها جنودها وعتادها للقتال إلى جانب الجيش التركي في عملية "غصن الزيتون"، لم تنتصر أنقرة لحلفائها أمام هجمات جبهة النصرة، على الرغم من وعودها لهم، وتعهداتها دوليا بالفصل بين المعارضة، المعتدلة والجهادية، تمهيدا لتفكيكها أو القضاء عليها. بدلا من ذلك، اختارت أنقرة التنسيق مع الهيئة، بوصفها قوة الأمر الواقع في إدلب، لحماية نقاط مراقبتها بوصفها أعلى الأولويات.


لن نقاتل إلا في الهجوم
مثل اتفاق سوتشي الذي وقعه الرئيسان، الروسي بوتين والتركي أردوغان، في سبتمبر/ أيلول 2018 أقصى ما يمكن لأنقرة أن تقدّمه لروسيا في سورية، حيث حصرت دورها الميداني في شمال سوريّة، واختصرت دورها السياسي في تحضير قائمة المعارضة للجنة الدستورية التي خطتها روسيا مدخلا لحل الأزمة السورية. برّرت أنقرة مجدّدا اتفاق سوتشي بأنه الخيار الواقعي المتاح مع روسيا، وأنه سيضمن وقفا دائما لإطلاق النار مقابل الدخول في عملية سياسيّة تبدأ بالدستور، وتنتهي بانتخابات تشريعية ورئاسيّة. ولكن موسكو، كعادتها، لم تلتزم بما تعهدت، وشنت غير مرّة حملات عسكريّة بريّة وجوية مكثفة، ضمن حدود الاتفاق الأخير، متجاوزة النقاط التركيّة التي وضعتها أنقرة خطوطًا حمرا لا يمكن تجاوزها. إدانات أنقرة وشجبها عمليات النظام لم تلق آذانا لدى موسكو التي استمرت في توفير الدعم الجوي، لينهي واقعيا مع سيطرته تاليا على مورك، وخان شيخون، والمعرّة، وسراقب، هذا الاتفاق، وينتقل تدريجيا إلى مرحلةٍ جديدةٍ عنوانها استهداف الوجود التركيّ في سورية، لإجبارها على الانسحاب، طوعا أو رغما، من إدلب.
غيّر الرد التركي الخجول حسابات المعارضة وتكتيكاتها في سورية، وطبيعة استجابتها للهجوم العسكري. أيقنت الفصائل المقاتلة في سورية، على اختلاف تصنيفاتها، جهادية، إسلامية، جيشاً حراً، أن تكرار تكتيكاتها العسكرية، من دون دعم دولي، لن يؤدّي إلى نتائج تختلف عن سابقاتها، من حيث خوض معارك ضارية فترة طويلة، تتسبب بتدمير بشري ومادي كبير، يعقبها اضطرار للانسحاب ووقف إطلاق نار هش. لذلك، ومع دخول قوات النظام والروس حدود اتفاق سوتشي، بدأت المعارضة تسلم المناطق من دون مقاومة وتستبق دخول قوات النظام بالانسحاب من المدن والقرى، حتى وإن وجدت مقاومة شكلية.


خيارات تركيا
لامبالاة المعارضة أو "مبالاتها لأول مرة" وضع أنقرة في موقف حرج عسكريا وسياسيا، فقوات النظام في مسار تقدّمها الحالي قد تصبح، في وقت قريب، على الحدود السورية التركية، وتنهي المنطقة العازلة التي فصلت إجباريا بين النظام وتركيا خلال السنوات الماضية. وقد ألقى ذلك بتداعياته على فهم تركيا ما يجري في إدلب (على الأقل على مستوى التصريحات والحشود العسكرية) واعتبارها لأول مرة خطرا داهما على الأمن القومي التركي. على هذا الأساس، انطوت كلمة الرئيس التركي، أردوغان، على نبرة خطابية جديدة، موجهة إلى الداخل التركي دون غيره، محذرا من أن الامتناع عن اتخاذ ردٍّ مناسب على مقتل الجنود الأتراك، وإيقاف تقدّم النظام السوري في إدلب سيؤدي إلى نقل القتال إلى الأراضي التركية، وأن الشعب لن يكون في مأمن إذا وصل النظام إلى الحدود.
باختصار، تبدو معركة إدلب معركة تركيا هذه المرة في ظل تراجع قوات المعارضة واشتراطها ضمنيا انخراطًا عسكريا تركيًا مباشرا بعد تجارب مريرة سابقة. لدى أنقرة خياراتٌ كثيرةٌ في إدلب، أكثرها سوءا القبول بالوضع الحالي، لأنه ينهي دورها في ترتيبات الحل السياسي، ويهدّد مناطق أخرى، تنتشر فيها قواتها في مناطق "غصن الزيتون" و"درع الفرات" في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وقد يحمل مخاطر مستقبلية عليها، بعد وصول المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري إلى مرحلة متقدمة لمواجهة عدوها المشترك.

المصادر:

العربي الجديد