حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة (5)

الكاتب : مجاهد مأمون ديرانية
التاريخ : ١٧ ٢٠٢٠ م

المشاهدات : 2530


حتى لا تضيع الفرصة الأخيرة (5)

اشتدّ ضغط العدو على الأراضي المحررة واستشرس في حملته المحمومة لانتزاعها من أيدي الثوار فانصرف الاهتمام كله إلى العمل العسكري والفصائل المسلحة، وبات الظن بأن الانتصار العسكري وحدَه كفيلٌ بإنقاذ الثورة.

لكن الثورة ليست فصائل فقط وإنقاذها ليس بتحقيق الانتصارات العسكرية وحدها، فهي ثورة شعبية قبل أن تكون معركة بالسلاح؛ بدأت ثورة شعبية أوقد شعلتَها الأولى عامةُ الناس، وما زالت ثورة شعبية يحمل مشعلَها إلى اليوم عامةُ الناس، فإذا انفضّ الناس عنها لم تبقَ ثورة، لأنها لا ثورةَ بلا حاضنة، ولن تلتفّ حاضنة الثورة حول ثورتها إلا إذا كانت الثورة وفيّة لمبادئها وأمينة على أهدافها، ولن يحتمل الناس الضريبة الباهظة للثورة ويدفعوا ثمنها الغالي إلا إذا قدمت لهم ما يريدون.

وما الذي يريده الناس؟ هل يعلم أولئك الذين يعيشون في أبراج العاج ماذا يريد الناس الذين يعيشون على التراب؟ يوماً بعد يوم تزداد الهُوّة اتساعاً بين الفريقين، بين قلّة تبلغ المئات تقود وكثرة تبلغ الملايين تريد، فلا الذي يريد يملك القوة ليقود ولا الذي يقود يصغي إلى الجمهور الذي يريد.

ماذا يريد الناس الذين وثقوا بالثورة وحرقوا مراكبهم ليركبوا سفينتها العظيمة وصولاً إلى البرّ الآمن، هؤلاء ماذا يريدون؟ الذين يعيشون في محافظة إدلب (أو ما بقي منها) تحت سيطرة عصابة الجولاني وفي مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام التي تحكمها فصائل الجيش الوطني؟

إنهم يريدون أن يعيشوا في حرية وكرامة وأمان، وأن يجدوا سقفاً يعيشون تحته ومعه مقومات الحياة الكريمة من غذاء وكساء ووقود يقيهم برد الشتاء، ويريدون -بعدُ- أن يعبدوا الله كما اعتادوا أن يعبدوه مُذ عرفوه. لا يريدون أن يحتكر جَهَلةٌ متنطّعون دين الله ثم يفرضوا عليهم الرأي الذي اختاروه والفهم الذي فهموه، ولا أن يتحكم في حياتهم فاسدون يعيدون إليهم ذكريات الأسد الذي ثاروا عليه وفارقوه وقاتلوه.

* * *


لقد استشرى الفساد في هذه المناطق كلها وتعرض الناس فيها للظلم والقهر، مرة باسم الدين ومرة باسم الثورة، فكانت المحصلةُ جنايةً مريرة على الثورة وعلى الدين. وإنّ إنكارَ الظلم والفساد مكابرةٌ لا تفيد، واستمرارَهما ينذر بنهاية الثورة لا سمح الله، وإن يكن من الإنصاف أن نقرر أن ظلم وفساد الفصائل مجتمعة لا يبلغ عُشرَ معشار ظلم النصرة وفسادها. هذه الأولى، والثانية أهم: لقد رأينا دوماً وعلمنا بالتجربة المتكررة أن الفصائل تسمع وتستجيب وتحاسب المخطئين والمعتدين (ولو لم تنجح في اجتثاث ذلك كله من الجذور) بخلاف عصابة الجولاني التي حوّلت مناطق الثورة إلى غابة يأكل فيها كلُّ قوي من العصابة كلَّ ضعيف من عامة الناس، حتى صار الجولاني لعنة في الهتافات وسُبّة على ألسنة الناس.

إن الظلم والفساد يُهلك الأمم والجماعات، هذه سنّة من سنن الله في الوجود. وهي سنة مفهومة ضمن عالم الأسباب والنتائج الذي خلقه خالق النتائج والأسباب، فقاعدة الثورة الشعبية هي عامة الناس الذين يتبنَّون الثورة ويقدمون في سبيلها كرائم التضحيات، يصنعون ذلك راغبين لا راغمين، يصنعونه لأن الثورة هي خيارهم الذي اختاروه راضين بكل ما ينشأ عنه من نتائج وصعوبات. وإنما صنعوا ذلك ليستبدلوا بالواقع الدميم القديم واقعاً جديداً جميلاً يعيشون فيه. فإذا صار الواقع الجديد الذي صنعوا ذلك كله من أجله بمثل سوء الواقع القديم ومرارته فقدوا الدافع للصبر والاحتمال، ثم تفرقوا عن ثورتهم فتركوا الفصائل والقوى الثورية مكشوفة بلا أرض ولا غطاء، فما أسهلَ اغتيالَ الثورة وإفناءها إذا وصلت الحال إلى هذه الحال!

ثم إن المقاتلين الذين ينتمون إلى الفصائل الثورية لا يَنبتون على الشجر، إنما هم أولاد الناس، فإذا لم يَعِش الناس بكرامة وأمان ويحصلوا على أساسيات الحياة من مأوى وغذاء فسوف ينشغل كل مقاتل بأهله، يقول: للثورة مئة ألف إنسان يعملون من أجلها، أما أهلي فليس لهم سواي! ثم ينسحب من الجبهة وينطلق بحثاً عن أهله الذين ذابوا في طوابير الهجرة والعذاب.

* * *


الخلاصة: لقد ثار أحرار سوريا على نظام الأسد من أجل الإنسانية المهدورة والكرامة المسفوحة، ثاروا لتحرير سوريا من الظلم والاستبداد والاستعباد، ومن أجل هذا الهدف النبيل العظيم التفّوا حول ثورتهم غيرَ آبهين بضراوة المحنة وطول الطريق، وما زالوا ملتفّين حول ثورتهم ما بقيت ثورتُهم وفيّة للأهداف التي ثاروا من أجلها. فإذا تلبّس أهلُ الثورة بالظلم سيفقدون مبرر وجودهم، لأنهم سيصيرون عندئذ إلى ما ثاروا عليه، وإذا عانى الناس في ظل الثورة من الاستبداد والقهر فسوف ينفضّون عنها، ولا ثورة بلا ناس ولا فصائل بلا حاضنة. فيا أحرار ثورة الحرية والكرامة: تواصُوا بالحق والعدل وتناهُوا عن الظلم والفساد. ويا أيها الفصائل جميعاً: تعقّبوا كل حالات الظلم والفساد وأخرجوا من الثورة كل الظالمين والمفسدين، لأنهم يخرقون في سفينتها خروقاً ستغرقها -لو لم تأخذوا على أيديهم- ولو بعد حين.

المصادر:

قناة الكاتب على تلغرام