قوات سورية الديمقراطية والحوار.. وشهادة شخصية

الكاتب : أسامة أبو زيد
التاريخ : ١١ ٢٠١٩ م

المشاهدات : 1945


قوات سورية الديمقراطية والحوار.. وشهادة شخصية

سيطر التناقض والتخبط على مواقف قوات سورية الديمقراطية (قسد)، إثر قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من سورية، وبات واضحا أن ذلك التناقض في مواقف "قسد" مردّه الوهم المتضخّم، والذي تجلّى في تصريحات رئيسة مجلس هذه القوات، إلهام أحمد، أخيرا من واشنطن، حين أكدت استعداد "قسد" للحوار مع تركيا. ويبدو واضحا أن الحوار الذي قصدته يستند وفقها إلى ندّية بين قوى متوازنة في الحجم والقدرة والأوراق التي تملكها القوّتان، وهو ما يحلو لقيادات الحزب الديمقراطي (الكردي) إظهاره، كما أرجعت انعدام الحوار مع المعارضة السورية إلى تبعية تلك المعارضة لدولة إقليمية، وتقصد تركيا. وأضافت أن رفضها الحوار مع الأدوات عائد إلى عدم امتلاك تلك المعارضة قرارها، بينما وبحسب إلهام أحمد، تتمتع "قسد" بالاستقلالية التامة، مقدّمة حوارات "قسد" مع النظام مثال على تلك الاستقلالية، باعتبار أنه، وفق أحمد دائما، أن واشنطن عارضت تلك الحوارات، بينما كانت كل تلك الحوارات بموافقة أميركية أولا، وكانت أيضا تمثل رغبة موسكو، لكنه الوهم مجدّدا، فقيادات "قسد" تعتقد أنها قوة ذات مصالح مشتركة مع كل من موسكو وواشنطن، وإن لديها المساحة والقدرة على اللعب بين التقاطعات والتناقضات الروسية الأميركية. 

يخالف هذا الوهم المتضخّم كليا الواقع الذي تعيشه قوات سورية الديمقراطية هذه الأيام، فقد بات مصير هذه القوات محلّ بحثٍ في لقاءات ضامني تفاهمات أستانة من جهة، وعلى طاولة اللقاءات الروسية التركية من جهة أخرى، إضافة إلى النقاش التركي الأميركي الذي يبدو أنه بدأ يتخذ منحى يُخالف ما كانت تأمله إلهام ورفاقها في قيادة الحزب الديمقراطي، حتى أن النظام المهترئ بات، بشكل أو بآخر، مشتركا في عملية تحديد مصير قسد. 
ذلك الوهم، والأنا المتضخمة، عادا بي إلى مطلع عام 2015. حينها وتحت غطاء جوي روسي، شنت "قسد" هجوما على قرى ريف حلب الشمالي، الواقعة تحت سيطرة الجيش السوري الحر. وتزامن مع مرحلة متقدمة دخلتها خطة دبيب النمل التي أطلقها قائد قوات النمر في جيش النظام، سهيل الحسن، لتطويق حلب. حينها كانت المليشيات الإيرانية على أبواب كسر الحصار عن نبل والزهراء، لتقطع بذلك طريق أعزاز حلب الذي يشكل شريان حلب الرئيسي، بالتزامن أيضا مع هجومٍ شنه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على ريف حلب الشمالي أيضا، بهدف السيطرة على أعزاز ومارع. 
هُزم الجيش الحر على كل المحاور، تراجع أمام تنظيم داعش الذي ضرب حصارا على مدينة مارع، وبات على مشارف أعزاز ومعبر باب السلامة، حيث آخر معاقل الجيش الحر في الريف الشمالي لحلب. كما تراجع أمام قصفٍ جوي وصاروخي هائل، لتتمكّن مليشيات إيران من الوصول إلى نبل والزهراء. كما استطاعت "قسد" احتلال أربع عشرة قرية عربية، في مقدمتها تل رفعت ومنغ ودير جمال، لتهجر عشرات الآلاف من سكانها الذين انضموا إلى عشرات الآلاف الهاربين من مليشيات إيران ومن هجوم "داعش"، معلقين على أستار معبر باب السلامة، منتظرين الإذن لهم بالدخول إلى الأراضي التركية. 
بعد هزيمة الجيش الحر المرّة مرارة العلقم أمام تلك الجيوش التي امتلكت تسليحا أميركيا، والذي لم يكن محصورا بأيدي "قسد" فقط، فالمليشيات الإيرانية العراقية التي كانت تقاتل على محور معرستة الخان نبل والزهراء كانت أيضا تمتلك تسليحا أميركيا جاءت به من العراق، تسليح أميركي امتلكته القوات البرية المهاجمة متعدّدة الجنسيات على محاور القتال المختلفة، إضافة إلى الغطاء الجوي الروسي، المتمثل بقصف قاذفات السوخوي المتطورة، وغارات هائلة بمقاتلات الميغ، بعد تلك الهزيمة وعلى وقع اقتراب حصار حلب، وتهديد الشريان الوحيد المتبقي لأحياء حلب الشرقية (الكاستيلو)، وارتفاع وتيرة الاشتباكات بين الجيش الحر و"قسد" داخل حلب الشرقية في حي الشيخ مقصود. تعالت أصوات منتقدي إدارة الرئيس الأميركي في حينه، باراك أوباما، بسبب دعمها الطرفين (الجيش الحر وقوات سورية الديمقراطية) في سورية، ليستعملا ذلك الدعم في قتال بعضهما بعضا، ليبدأ ممثلو الولايات المتحدة الأميركية العمل الحثيث لإجراء مفاوضاتٍ تنهي حالة الصدام بين الطرفين. 
وبعد تنسيق أميركي مع تركيا، وفي يونيو/ حزيران من عام 2015، تمت الدعوة رسميا إلى جولة مفاوضاتٍ بين غرفة عمليات فتح حلب و"قسد" على الحدود السورية التركية، الطاقم الأميركي الذي كان وحده يشرف على المفاوضات ويديرها، كان يضم فريقا من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وقيادة التحالف الدولي باعتبارهم الجهة الأميركية الداعمة لقوات سورية الديمقراطية، إضافة إلى فريق المخابرات الأميركية المركزية، باعتبارها الجهة الأميركية المسؤولة عن دعم الجيش الحر، بينما اقتصر الدور التركي على تأمين موقع المفاوضات. 
بدأت المفاوضات بمشادّات كلامية، كادت تتحول إلى اشتباك بالأيدي بين الطرفين، الجيش الحر و"قسد"، ليتدخل الضابط الأميركي من قيادة التحالف الدولي، ويفاجئ الجيش الحر بأن الأوامر حاسمة من البيت الأبيض بضرورة توقيع اتفاق سلام بين الطرفين، ثم أخرج ورقة تتضمن الاتفاق الذي علينا توقيعه!
كان ذلك مخالفا للتعهدات التي قدمها ممثل المخابرات الأميركية للجيش الحر حتى يشارك في المفاوضات، حيث إن الدعوة التي تلقتها غرفة عمليات فتح حلب كانت دعوة إلى إجراء مفاوضات بشأن شكل الحل بين الطرفين، كما تضمنت تأكيدا ينص على أن أي اتفاقٍ سيكون بعد إجراءات حسن نيّة من الطرفين. وكان من الإجراءات التي طلبها الجيش الحر انسحاب "قسد" من القرى العربية الأربع عشرة التي احتلتها تحت غطاء جوي روسي في مطلع 2015، الأمر الذي دفع وفد الجيش الحر إلى الرد على أنه من غير الممكن توقيع أي اتفاق وقف إطلاق نار، قبل اتخاذ "قسد" خطوات عملية، وتتمثل في: 
1 ـ انسحاب قوات سورية الديمقراطية من جميع القرى العربية المحتلة في ريف حلب الشمالي.
2 ـ إعلان واضح بقطع العلاقات مع نظام الأسد الذي أجرى رئيس وزرائه حينذاك، وائل الحلقي، زيارة لمناطق خاضعة لسيطرة "قسد" في شرق سورية قبل جولة المفاوضات بأيام. 
3 ـ إعلان واضح صريح بعدم الارتباط بتنظيم حزب العمال الكردستاني.
4 ـ وقف الهجمات وعمليات القنص على طريق الكاستيلو الذي كان يشكل الشريان الوحيد لأحياء حلب الشرقية.
قبل أن يرفض وفد "قسد" مقترح وفد الجيش الحر، كان الرفض أميركيا وبشكل حاسم، ليؤكد كل من فريقي البنتاغون والمخابرات المركزية أن الاتفاق يجب أن يوقّع فورا، ومن دون أي شروط مسبقة، ومع تمسّك وفد الجيش الحر بمطالبه، وعلى وقع تحميل الفريق الأميركي الجيش الحر المسؤولية، وتهديده بتحمل تبعات ذلك، انتهت الجولة التفاوضية بفشل ذريع. 
في مطلع عام 2017، وقبيل الاستعدادات لمعركة الرّقة، وفي إطار سعيه إلى إشراك عدد أكبر من المقاتلين العرب إلى جانب قوات سورية الديمقراطية، أشرف "البنتاغون" على مفاوضاتٍ بين كل من لواء المعتصم، التابع للجيش الحر من جهة، و"قسد" من جهة أخرى. وكانت المفاوضات التي حصلت في عين العرب (كوباني) تتركز حول انسحاب "قسد" من القرى التي احتلها في ريف حلب الشمالي، بدعم روسي، والذي مثّل شرط فصائل الجيش الحر التي كانت تتلقى دعما من برنامج "البنتاغون" للمشاركة في معركة الرقة.
لم تجر الأمور كما جرت في مفاوضات 2015، وكما كان ممثلو قوات سورية الديمقراطية يريدون لها أن تجري، حيث طلب "البنتاغون" من "قسد" الانسحاب من تلك القرى العربية، شريطة أن يديرها أمنيا لواء المعتصم التابع للجيش الحر. حينها قررت "قسد" اللعب بالنار، والتجأت إلى موسكو مزهوةً بمكتب التمثيل الذي سمحت موسكو لها بافتتاحه، وكانت قيادتها مقتنعة كليا بأنها قادرةٌ على تحويل تلك الخريطة التي تتصدر جدار مكتبها في موسكو، وترمز إلى إقليم كردستان سورية إلى واقع. وأرسلت موسكو التي كان خلافها مع أنقرة محتدما، بفعل إسقاط تركيا طائرة روسية في سماء ريف اللاذقية، قواتها لإنشاء قاعدة عسكرية في عفرين. على إثر ذلك، رفضت "قسد" طلب وزارة الدفاع الأميركية، ولم تكن تعتقد أن دفء العلاقات بين روسيا وتركيا سيعود أكبر مما كان عليه إلى درجة تخلي موسكو كليا عنهم لمصلحة عملية غصن الزيتون.
يبدو جليا، وانطلاقا من تصريحات قيادات قوات سورية الديمقراطية ومواقفها، وجديدها ما قالته إلهام أحمد أخيرا، إنهم لم يتعلموا من دروس تجربتهم في سورية والعراق. وللإنصاف، لا يمكن اختزال هذا المشهد في "قوات سورية الديمقراطية"، فالمعارضة السورية أيضا، بمعظم أشخاصها وهيئاتها، فشلت في الاستفادة من دروس الماضي، وتحويل النكسات التي ألمت بها إلى محطات انطلاق جديدة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالاستقواء بالخارج، الخارج الذي يثبت تخليه الكلي عن مشروع تحرّر السوريين، وتحقيق طموحاتهم في الحرية والكرامة والعدالة. 
في مطلع عام 2018، وفي لقاء مع مسؤول رفيع المستوى من البيت الأبيض، خلال زيارةٍ شاركت فيها إلى واشنطن، توجه لي بسؤال: "لا نريد لبشار الأسد أن ينتصر، ولكننا لا نريد أن نصطدم بالروس، ذلك أننا لا نعتبر أن سورية سببٌ كاف لنشوب حرب عالمية جديدة". أجبته: الأمر بسيط جدا ومعقد في الوقت نفسه، لقد دفعنا ثمنا باهظا لخلاف وجهات النظر بين أنقرة وواشنطن بشأن سورية، إذا أردتم أن تعيدوا عقارب الساعة إلى ما قبل التدخل الروسي، وتحويل كل ما أنجزته روسيا من خلال تدخلها العسكري إلى صفر، من دون طلقة رصاص واحدة، علينا تحويل اللونين، الأصفر والأخضر، في الخريطة، إلى لون واحد، وهذا يعني أن المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد عادت لتمثل نصف سورية تقريبا، والتفاهم الأميركي التركي سيمهد لتشكيل إدارة مدنية حقيقية لتلك المناطق، نقدم من خلالها نموذجا لسورية المستقبل، لكن ذلك، على الرغم من إمكانيته، يحتاج عملا جديا منكم مع أنقرة، وتعاونا مطلقا من المعارضة السورية و"قسد" أيضا.
ذلك الاقتراح الذي قدمته، بصفتي الشخصية، ولم أكن متأكدا من أن المعارضة قد تقبل به، كان انطلاقا من قناعتي بأنه لا بد من حوار وتفاهم ضمن إطار وطني وثوري، مدعوم من تركيا وأميركا، هو بالتأكيد خيارنا الوحيد، قبل أن نخسر سورية لمصلحة المشروع الروسي الإيراني، وبالتالي لمصلحة النظام. وكان ذلك كله قبل أن نخسر الغوطة الشرقية والجبهة الجنوبية اللتين كانتا تمثلان أهم معاقل الثورة وأخطرها على المشروع الروسي والإيراني. 
بطبيعة الحال، لم يحصل ذلك لأسباب متعلقة بواشنطن وأنقرة، لكنه لم يحصل أيضا لأسبابٍ متعلقةٍ باستقلالية المعارضة، وقفز فاعلين فيها بين ضفاف الدول وعنجهية ووهم كبير يبدو أنه يمثل الاستراتيجية الوحيدة لدى قيادة قوات سورية الديمقراطية. 
تبدو المعارضة السورية اليوم أكثر واقعية من "قسد"، وهذا ليس مردّه عوامل ذاتية، بقدر ما هو ناجم عن خسارة المعارضة أهم مكامن قوتها، وأبرز معاقلها الاستراتيجية. ولم يبق لديها الشيء الكثير لتخسره، بينما تبدو قيادة "قسد" مثقلةً في سكرها، وفوّتت فرص الحوار الكثيرة طروحات قيادات الحزب الديمقراطي السخيفة التي لم تقتصر على مناقشة اللغة الرسمية، ومضمون منهاج مادة التاريخ الواجب تدريسها في مدارس سورية المستقبل، بل امتد إلى شكل النظام السياسي في سورية وفي المنطقة كلها. 
وهذا ليس تحميلا لقوات سورية الديمقراطية وحدها مسؤولية ما آلت إليه الأمور والأوضاع، لكن طروحات المعارضة كانت دوما أكثر منطقيةً، وأقرب في المحاور الرئيسية للقضايا الخلافية، ابتداء من العلاقة والموقف من النظام، والذي يعبر عن المعيار الرئيسي، قبل بحث أي مشتركات أخرى، وهو ما يجعل الحوار مستحيلا مع من يبحث في مكتب رئيس الأمن الوطني في النظام، علي مملوك، عن فتات سلطة ومصالح حزبية، متجاهلا حقوق عائلات مليون سوري بين شهيد ومعتقل على يد ذلك النظام الدموي، فضلاً عن أن "قسد" كانت مستعدة دائماً للتنازل لمصلحة النظام عن أراضٍ واسعةٍ تحت سيطرتها، في وقت كانت ترفض فيه عودة من هجّرتهم قسراً من أبناء الثورة السورية من بيوتهم إليها، كما أن من غير الممكن تأسيس أي مشروع أو مستقبل مع أصحاب المشاريع العابرة للحدود، لا فرق في ذلك إن كان تنظيم القاعدة الذي يريد فتح روما، أو قادة الحزب الديمقراطي الطامحون لتقسيم سورية وتركيا والعراق معا، وبالحديث عن العلاقة مع تركيا التي تمتلك كل تلك الحدود الطويلة مع سورية، والتأثير المتصاعد في الملف السوري، فليس من المنطقي أو العقلاني، إلا أن تكون تلك العلاقة إيجابية على كل الأصعدة، كما أنه لا يمكن التأسيس لحوار مع من يريد إدخال السوريين في صراع وعداء مع تركيا التي يعتقد معظم السوريين إلى جانب تقارير أممية أنها قدمت للسوريين أكثر من كل دول الجوار. وفي الوقت الذي تعيب فيه "قسد" على المعارضة ملف المقاتلين الأجانب في جبهة النصرة، تتجاهل "قسد" استحالة تأسيس أي مستقبل لسورية، يشارك القياديون الأتراك أو الإيرانيون المنتمون لتنظيم حزب العمال الكردستاني فيه، بالقدر نفسه الذي يستحيل معه تأسيس ذلك المستقبل مع أبو اليقظان المصري. 
تبدو قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي سائرةً إلى سيناريو مطابق لكل سقطاتها السابقة، محمّلة الشعبين، الكردي والعربي، في مناطقها، تبعة ذلك الوهم. ويبدو أنها لا تريد تصديق أن الوضع في سورية بات يقرّر بين الدول أمام هزالة الفاعلين المحليين، كما أنها لا تريد التصديق أنه، وعلى الأرجح، في قضية الحوار، قد فاتنا القطار.

المصادر:

العربي الجديد