الحرب بالتجويع

الكاتب : ميشيل كيلو
التاريخ : ١٩ ٢٠١٩ م

المشاهدات : 2235


الحرب بالتجويع

ليس هناك ما هو أشد طرافةً من رئيسٍ يحتفل يوميا بانتصاره على شعبه، في حربٍ استمرت قرابة ثمانية أعوام، لكنه ما إن يتلقى رسالةً تُعلمه بعض ما يعانيه السوريون من أهوال بعد انتصاره، حتى تعلن أجهزته أن غرض من حثّوه على الالتفات إلى مأساة الشعب الذي يقتله الفقر والحرمان هو تقويض مكانته (الرئيس) لدى الشعب.

هكذا، ما إن شكا في "فيسبوك" أربعة أو خمسة إعلاميين وفنانين موالين سوء حالهم، حتى هدّدوا مكانة من لم تهدّده ثورة أنزلت ذات يوم ثمانية ملايين مواطنة ومواطن إلى الشوارع، للمطالبة بالحرية، على الرغم من أن هذه الأجهزة نفسها أصرّت دوما على أنه دحر "مؤامرة كونية" على نظامه، بفضل قدراته الخارقة، وتعلق الشعب به إلى حد الهيام، فضلا عن استماتته في التمسّك بالاستقلال الوطني الذي استدرج، بحنكته المذهلة، من يدافعون عنه، كالروس والإيرانيين والعراقيين واللبنانيين والأفغان والأوزبك والبنغلادشيين، ضد من يحتلون أرضه من أميركان وأتراك وإسرائيليين وفرنسيين وبريطانيين ونرويجيين وإيطاليين.. إلخ، ويتصدّون ببسالةٍ للدواعش والقاعديين، وللعدو القديم: الشعب السوري الذي ما إن انتصر على نفسه، بقيادته، حتى وجد نفسه في حرب جوعٍ وركوع، يشنها عليه من انتصر على الصديق والعدو، وتلاعب بهما باقتدار، من دون أن يدركا ذلك، لشدة ما هو فظيع.

وكان الشعب قد طالبه بإصلاح نظامه، فرأى بثاقب بصيرته "المؤامرة الكونية"، الكامنة وراء مطلبه، وقرّر سحقه بما لديه من جيشٍ ومخابراتٍ درّبهم والده ثلاثين عاما على مقاتلته، ولدى روسيا وإيران ومرتزقتهما من "متطوعين". واليوم، وبعد "الانتصار" الذي أحرزه جيشا روسيا وإيران ومرتزقتهما متعدّدو الجنسية، الذين لا يوجد بينهم شخص واحد ليس مذهبيا ومتشدّدا، على إسرائيل وأميركا وتركيا، وبعد أن انتشرت هذه الجيوش والقطعان الارتزاقية في أربعة أقطار سورية، نتيجةً لدحر "المؤامرة الكونية"، تحولت سورية إلى ساحةٍ يتصارع فيها مع روسيا وإيران، كما تتصارع موسكو وطهران، إلى جانب تركيا وإيران وواشنطن وأنقرة وطهران، وتل أبيب وطهران... إلخ، فأي انتصارٍ أعظم من هذا الانتصار، وأي رئيسٍ لديه من الحنكة ما لدى "سبع البرمبه" بشار الأسد ، بطل الاستقلال والمحافظة على الشعب.. في المهاجر والمنافي وتحت الفقر؟

بين الاستغاثات التي أرسلت إلى البطل، واحدةٌ يعلن صاحبها أنه قرّر الانتحار يوم 18 من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، إن بقي الحال على ما هو عليه، وأخرى أرسلها شخصٌ نفش شعره لشدة استيائه، خيّره بين إرسال المخابرات لاعتقاله أو التحرّك لإنقاذ نفسه والنظام من ... "حكومته الداعشية" التي تتآمر مع وزارة الدفاع على الجيش، الأمل الوحيد الباقي، لكنه يتعرّض للتجويع والتفييش.

بسبب "الانتصار على المؤامرة الكونية"، يتعرّض السوريون لحربٍ جديدة، لم يعد سلاحها البراميل، بل التجويع الذي تمارسه عليهم سلطةٌ يتوهم أصحاب الاستغاثات أنه لم يبق فيها من ليس فاسدا أو لصا غيره، وأنه الملاذ الأخير قبل انفجار ثورة غضبٍ جديدةٍ على الذين يتنعّمون بـ"ما جنته أيديهم" من منهوبات المواطنين، وبنادقها مصوبة إلى رؤوسهم بالأمس وأمعائهم الخاوية اليوم، في حرب سلاح الإبادة الشامل فيها: رغيف الخبز الذي لا يقل فتكا عن أي سلاح أسدي آخر.

يتوجّه المستغيثون إلى "الرئيس"، كأنهم لا يصدّقون أن من أنقذه الغزاة مرتين لا يمكنه إنقاذهم، لأن همه الوحيد إنقاذ رأسه ونظامه التشبيحي/ اللصوصي الذي يتشدّق بانتصاره على مؤامرةٍ كان هدفه شعب سورية الثائر عليه، والذي قتله بالأمس بالبراميل، وسيقتله، من الآن فصاعدا، بالتجويع.

المصادر:

العربي الجديد